19 ديسمبر، 2024 5:11 ص

العقل والجهل / العقل العراقي وملامح انحداره ، الكتلة الاكثر عددا محطة للتقييم

العقل والجهل / العقل العراقي وملامح انحداره ، الكتلة الاكثر عددا محطة للتقييم

العقل زينة الانسان وتاج شخصيته ومثل ذلك هو اساس زينة الحياة، وتردي مستواه او سلبية فاعليته طولا وعرضا يحولها الى بؤس وشقاء، فان كانت الحالة العامة للحياة الفوضى وتوالي الاخطاء وصراع المصالح والارادات وضياع الحقوق فانها تدل على ضعف العقل المؤثر في حياة الشعوب أو المجتمعات، ويتحقق هذا الامر في حالة صدور قرارات او مواقف من قبل قادة المجتمع والافراد المؤثرين في مسيرته من أصحاب الصلاحيات والسلطات في المجال السياسي على الصعيدين التشريعي والتنفيذي، تخل بمصالح البلاد ومواطنيها وتكون سببا في خراب معيشة الناس في مختلف جوانبها، السياسية والاقتصادية والوظيفية والاجتماعية وغيرها.

ومنذ سنوات بعيدة توصلت الى ان العقل العربي والاسلامي عموما والعراقي خصوصا يمر بحالة انحدار شديد في فاعليته ومستواه كمن يسقط من جبل الى واد عميق . وفي مجال العمل السياسي في العراق هنالك الكثير من الملامح التي تدل على ضعف العقل العراقي وعدم قدرته على تقويم قواعده وسلوكه بإصلاح الخلل الذي تجذر فيه. ولان الحالة العامة في المجتمع العراقي هي ضعف العقل فان ملامح السلوك العقلي الركيك والانحراف عن جادة الصواب والاخطاء في اتخاذ المواقف والمخالفات الدستورية في الاجراءات والممارسات السياسية يعتبرها المجتمع – عموما – انجازات في مجالها ويتغنى بها الخاصة والعامة.

ومن الامثلة على ذلك تكليف الدكتور برهم صالح رئيس الجمهورية الدكتور عادل عبد المهدي بتشكيل مجلس الوزراء، هذه الخطوة التي اشاد بها اغلب النواب والسياسيين والاكاديميين والكتاب والمحللين ووسائل الاعلام المختلفة واعتبروها خطوة مهمة ومفصلية وضرورية لكسر (فتنة الكتلة الاكثر عددا) من اجل عبور المرحلة الحالية الصعبة. وظاهر هذه الخطوة انها جمعت بين المتفرقين، شخصيات وكتل برلمانية ومكونات، وتداركت خرق الدستور لانها تحققت ضمن المدد الدستورية ولولاها لكان تحقيق ذلك شبه متعذر.

فهل ان هذه الخطوة هي فعلا كما تم وصفها أم انها تبطن نقيض ذلك ؟

شخصيا اقول ان هذه الخطوة غير سليمة ومخالفة للدستور ولن تستمر طويلا وربما تسبب صراعات عميقة واضطرابات سياسية وبالتالي اعتبرها من الادلة على ضعف العقل العراقي.

ولمعرفة اي الرأيين صحيح أو أصح ينبغي علينا ان نستعرض الحقائق التالية:

1 ان موضوع (الكتلة الاكثر عددا) ورد في المادة (76) من الدستور حيث نص البند (أولا) منها على (يكلف رئيس الجمهورية مرشح الكتلة النيابية الاكثر عددا بتشكيل مجلس الوزراء خلال خمسة عشر يوما من تاريخ انتخاب رئيس الجمهورية.).

ان التكليف بتشكيل مجلس الوزراء يقتضي وجود كتلة نيابية تضم اكثر عدد من النواب تقدم طلبا في الجلسة الاولى لمجلس النواب تثبت فيه بانها (الكتلة الأكثر عددا) وذلك حسب قرار المحكمة

الاتحادية العليا المرقم (25/ اتحادية/ 2010).

2 في الجلسة الاولى لمجلس النواب التي عقدت بتاريخ (3/9/2018) برئاسة النائب (محمد علي زيني) باعتباره اكبر الاعضاء سنا حصل تضارب في تحديد الكتلة الاكثر عددا فقد قدمت كتلة (الإصلاح والاعمار) التي تضم سائرون وجزء من النصر والحكمة والوطنية واطراف سنية طلبا الى رئاسة المجلس لتسجيلها باعتبارها الكتلة الاكثر عددا وكذلك ادعت كتلة البناء التي تضم الفتح ودولة القانون وجزء من النصر واطراف سنية مهمة بانها الكتلة الاكثر عددا. ولم يستطع رئيس الجلسة الاكبر سنا حسم الموضوع بل انه لم يعرف كيف يحله، مع ان الاعلام قد طبل له باعتباره صاحب شهادات عديدة وخبرة في مجال عمله وإنه تم انتخابه استنادا الى خبراته وشهاداته من دون لوحات اعلانية له في الشوارع وان انتخابه يمثل نموذجا لحسن اختيار الشخص لمناسب في المكان المناسب. وقيل انه ارسل كتابا الى المحكمة الاتحادية العليا لاصدار قرارها بشأن الموضوع فيما صرح عدد من النواب بعدم وجود مخاطبة الى المحكمة الاتحادية بهذا الخصوص.

ان عدم حسم موضوع الكتلة الأكبر هو الخطوة الاولى في الطريق الخطأ في هذه الدورة النيابية والتي تركبت عليها اخطاء كبيرة اخرى .

3 – ان تكليف رئيس الجمهورية الدكتور برهم صالح الدكتور عادل عبد المهدي بتشكيل مجلس الوزراء لم يكن بترشيح من الكتلة الاكثر عددا رسميا انما تم بالتوافق بين قائمتي سائرون التي هي جزء من (كتلة الاصلاح) وقائمة الفتح التي هي جزء من (كتلة البناء) ومجموع نوابهما لا يتجاوز (105) نائب. ان سائرون والفتح لم تشكلا كتلة جديدة وتعلنا انها الكتلة الاكثر عددا وانما اتفقتا على ترشيحه بالتوافق مع كتل الاخرى شيعية وكردية وسنية.

وهذا الاجراء مخالف للمادة (76) من الدستور التي اقتضت وجود كتلة تضم اكثر عدد من النواب تتولى تقديم مرشح يكلفه رئيس الجمهورية بتشكيل مجلس الوزراء.

ولولا هذا التوافق لما تم تكليف السيد عادل عبد المهدي ولما توصل السياسيون الى تكليف شخصية محددة بسبب الصراع داخل مجلس النواب على تحديد من هي الكتلة الاكثر عددا من بين كتلتي الصلاح والبناء فكل منهما تدعي انها الكتلة التي تستحق هذه الصفة.

4 بعد تكليف (عادل عبد المهدي) بتشكيل مجلس الوزراء تسربت اخبار عن ان ترشيحه قد تم من قبل كتلة البناء باعتبارها الكتلة الاكثر عددا وبالمقابل فان كتلة الاصلاح مازالت تعتبر نفسها هي الكتلة الاكثر عددا أي ان كل منهما تعتبر نفسها الكتلة الأكبر داخل مجلس النواب حتى بعد تشكيل الحكومة، وهذا يعني ان اتفاق سائرون والفتح على تكليف عادل عبد المهدي بتشكيل مجلس الوزراء لم ينه خلافاتهما وان تنافسهما على زعامة الحكومة مازال قائما مما يعني انهما ستدخلان في صراع تنافسي من جديد وربما سنشهد صراعا من نوع اخر تكون الساحات والشوارع محله والتظاهرات والاضرابات والاعتصامات مظهره.

5 – ان تحالف كتلتي الفتح وسائرون معرض الى الانفراط في أي وقت واي موقف وهذ الامر يعني ان رئيس الوزراء السيد عادل عبد المهدي سيفقد الدعم والسند الذي جاء به الى هذا المنصب مما سيجعله ضعيفا كريشة في مهب الريح وسيكون بقاؤه في منصبه مرهونا برغبة الكتل فاذا ما اتفقت كتل اخرى على اسقاطه فانها تستطيع ذلك اذا اكتمل النصاب المطلوب دستوريا حسب المادة المادة (61) التي ورد في نصها (ثامناً ـ ب ـ 3 ـ يقرر مجلس النواب سحب الثقة من رئيس مجلس الوزراء بالاغلبية المطلقة لعدد أعضائه.).

واذا تحقق هذا الامر فانه سيعيدنا الى المربع الأول والى ازمة سياسية تتمثل بصعوبة الاتفاق على شخص تقبل الكتل الكبيرة على ترشيحه لمنصب رئاسة مجلس الوزراء وكذلك صعوبة الاتفاق على تشكيل الحكومة وقد تطول هذه الازمة مما يعني تعثر العملية السياسية وهذا بدوره ينعكس على الشعب بشكل سلبي كبير.

6 لقد بين الدستور في المادة (81) الإجراءات المطلوب اتخاذها في حالة خلو منصب رئيس الوزراء لاي سبب كان حيث ورد في البند (ثانيا) منها (يقوم رئيس الجمهورية بتكليف مرشح آخر بتشكيل الوزارة خلال مدة لا تزيد على خمسة عشر يوما ووفقا لاحكام المادة (76) من هذا الدستور. ) وذلك بان يكلف رئيس الجمهورية مرشح الكتلة الأكثر عددا بتشكيل مجلس الوزراء أي اننا سنعود مكرهين ومضطرين الى مبدأ (الكتلة الأكثر عددا) لعلاج حالة خلو منصب رئيس الوزراء وحيث انه لاتوجد كتلة نيابية مسجلة بانها الأكثر عددا فهذا يعني الدخول في صراع جديد ومتاهة يصعب الخروج منها.

ويتضح مما ذكر ان السياسيين ارتكبوا خطأ كبيرا توهموا، ومعهم الكثير من الكتاب والمحللين والإعلاميين والاكاديميين، بانه انجازا كبيرا وهذا الخطأ بني عليه بيت معرض للسقوط وسرنا في طريق يصعب اكمال المسير فيه واذا نقطع فسيكون اكمال المسيرة بعده او إعادة توجيهها صعبا . ان الفوضى والتضاربات والصراعات التي نشأت وتنشأ عن ما ذكرناه تدل بشكل لايقبل الشك على الاخطاء الكبيرة للسلوك السياسي ومثل هذه الاخطاء تدل على الضعف الكبير في تنظيم قواعد اللعبة السياسية وانعدام امكانية القراءة المستقبلية للامور وما ستؤول اليه الاحداث وكل هذا دلالات واضحة على ضعف العقل العراقي.

فاذا كان ما قلناه يتعلق بالطبقات الاولى التي تقود المجتمع وترسم حاضره ومستقبله ومعها مجموعة كبيرة من الاكاديميين والكتاب والمحللين والإعلاميين، فكيف هو الحال بالنسبة لعموم الشعب.

ولنا اكثر من عودة مرة اخرى في موضوع العقل.

باحث قانوني ودستوري

كاتب ومؤلف سياسي مستقل

أحدث المقالات

أحدث المقالات