18 ديسمبر، 2024 8:24 م

يقسّم المعري الناس الى فئتين: عقلاء، ومجانين فاقدين الشعور والصواب. فالعقلاء يتبعون منطق العقل فلا يدينون بأي دين (يقصد إن الدين لا ينسجم والعقل) والمجانين غالبًا ما يتبعون دين بعينه اذ يرونه هو الحقيقة المطلقة وغيره من الديانات الاخرى المتعددة باطلة ومضللة “اثنان أهل الأرض: ذو عقــلٍ بلا ديــن وآخر ديِّنٌ لا عقل لهْ”. لذلك نجد الاديان تقتل بعضها بعضًا، ويكفّر بعضها بعضًا، بل وصل الامر الى إن الدين الواحد صار يكفّر بعضه بعضًا، بعد إن تحول الى فرق ومذاهب وملل ونحل. فالمعري يشجب هذا الفعل، أعني الدين الذي يفرق الناس ويخرب المجتمعات المتحابة وفق هذه المبادئ (مبادئ التكفير) فهي لا تستند الى العقل ولا للمنطق السليم، والدليل هو ما فعلته الاديان بكثرتها، وعلى مدى تاريخها الطويل، من حروب واقتتال وكوارث إنسانية الى يومنها هذا؛ فالمعري يحذرنا من مغبة هذه الاديان، وإن نتحكم الى العقل فهو المعيار الصحيح لقياس الاشياء وهو المُهدي الى سبيل النجاة.
يؤمن المعري بالعقل ويدعو جميع العقلاء الى اتخاذه معبرًا للوصول الى الضفة الاخرى وهي شاطئ الامان، حيث نهتدي، ومن خلال هداية العقل، الى الصواب وتجنب التيه والضلال، الذي اضلت فيه الامم السابقة، من حيث إنها لم تتخذ العقل الميزان الذي تزن به قضاياها المصيرية، فتجاوزته ولم تعطه اهمية تُذكر، بل استهانت بالعقل وجعلته مقصّرا وقاصرا في الوصول الى كنه حقائق كثيرة في الوجود، فهو بمعنى آخر عاجز عن ذلك!، اذ كان يرى افلاطون إن العقل يصيبه العجز امام قضايا لا يدركها، ظواهر كثيرة ماورائية فهو محدود ولا يمكن أن نقيس به كل الاشياء، على حد تعبير افلاطون. وجاء بعد ذلك الغزالي فاتبع نهج افلاطون في نظرته الى العقل فاتفق مع افلاطون في ذلك، حتى جاء ايمانويل كانت الفيلسوف الالماني فحاول أن يحد من ادراكات العقل متفقًا مع افلاطون والغزالي، وليس هذا فحسب، بل إنه انتقد العقل نفسه وهو اول فيلسوف ينتقد العقل لاسيما في كتابه “نقد العقل المحض” وقال كانت في كتابه هذا، إن الفلاسفة الذين سبقوه كانوا ينتقدون كل الافكار والاطر الفلسفية من خلال العقل، إي انهم جعلوا العقل هو المعيار في ذلك، ولم يتسن لأحدهم أن نقد العقل، فكانت وضع منهج خاص في نقد العقل.
المعري يعد العقل جوهرة ثمينة، وهذه الجوهرة هي التي تميزنا عن بقية المخلوقات الاخرى من حيوانات غير ناطقة وغيرها، فالناطقية قد تقصر، فمثلا المجنون يستطيع النطق، بل احيانًا يكون نطقه سليمًا اكثر من سواه، لكنه فاقدا للعقل، فهو هنا يتساوى مع الحيوان بل قد يكون الحيوان افضل منه في احيايين كثيرة، فثمة مجانين يكونون بطبعهم عنفيين يقومون بأعمال ضرب واعتداء على الآخرين، بل واحيانا يضربون انفسهم ويعتدون حتى على الطبيب المعالج. فالعقل يجعلنا متزنين نفكر بكل الامور قبل الاقدام على القيام بها، فاذا رأيناها منسجمة مع العقل والمنطق وليس فيها اضرار للناس ولأنفسنا، وفيها فائدة عامة أو خاصة نفعلها ونحن باطمئنان تام لأنها موافقة للعقل، فالأبله والساذج ومحدود الوعي لا يمكن أن تظمئن اليهم القلوب ولا يمكن مشاورتهم بمشورة او بقرارات مصيرية، بل الصحيح أن نتبع اصحاب العقول فنجالسهم ونستمع الى مشورتهم ونستأنس الى رأيهم، ولا ضير أن نتخذهم اساتذة ومعلمين ومثل اعلى ناطقين بالمعرفة والحكمة والفلسفة.
ايمان المعري بالعقل لم يأت عن فراغ وهو الحكيم العاقل، فهو درس الفلسفة اليونانية وتأثر ببعض العلانيين منهم وعلى رأسهم ارسطو فمنطق ارسطو واضح في تأثيره على فلسفة المعري، اذ كان ارسطو واقعي بعكس استاذه افلاطون المثالي، وقد القت واقعية ارسطو بظلالها على فلسفة المعري، فالمعري واقعي يتبع العقل، فلا نعرف الواقعية الا من خلال العقل، والمثالية يصعب تطبيقها على ارض واقعنا المرير، فالنظرية التي وضعها افلاطون في جمهوريته صعبة المنال، كذلك مثالية الفارابي في مدينته الفاضلة حيث نهج النهج ذاته لدى افلاطون.
العقل عند المعري اداة قوية نضرب بها واقعنا لنفصل به ما بين الخير والشر، ما بين الواقعية والمثالية، ما بين العقل والجهل. العقل هو الطريق اللاحب والشر طريق التيه والضلال، وبحسب المعري إن اللادينيين هُم من يتبع العقل، واما الدينيون فهم رموا العقل وراء ظهورهم وآمنو بما قال الدين وما وضع من منهج وطريق رُسم لهم بريشة لا يمكن أن يشك في ابداعها من الدينيين. الدينيون ليس لهم الحق في أن ينتقدوا المنهج الذي وضع لهم او الشك ولو طرفة عين بمصداقيته، لأن النقد والانتقاد هو من شأن العقل ومن اولوياته، لذلك طفق العقلانيون ينتقدون منهج خصومهم من خلال منطق العقل فوجدوه، بحسب رأيهم منطق سليم، منطق يتفق والعقل.
آمن المعري بالعقل مُهتدي لا شريك له في عالم الواقعية، وابتعد عن شبح الغيبيات والماورائيات وبالحدس وسوى ذلك من القضايا التي لا يمكن لنا اثباتها عقلا ولا واقعًا، وراح يتبع القضايا الفكرية والانسانية والواقعية برؤية عقلية خالصة، نظرة حيادية بمنظار العقل، ليحل بذلك جُل القضايا التي عجز سواه عن حلها حلاً واقعيًا يرتضاه الجميع، نظرة بمنظار العقل ذلك لما يمتاز به العقل من قوة باصرة تجد الاشياء شاخصة امامه من دون لف حدسي، ولا دوران تجاه الماورائيات الغامضة التي تعطي النتائج مسبقًا، بدون حساب ولا نتائج يقرها العقل ويرتضاها المنطق، حتى اتُهم المعري بالدهرية وهي صفة اتصف بها كل من آمن بالعقل واتخذه ميزان يزن به الامور المعقدة، سواء كانت تلك القضايا دينية ام فكرية فلسفية، وتهمة الدهرية تعني الابتعاد عن الفكر الديني والميل الى المنطق واستشارة العقل. وبقياس الدينيين هي تعني التزندق فقالوا أن المعري كان يتزندق، بل وجعلوه من كبار الزنادقة، لأنه خالفهم بما يقولون وما يرون من حل للمشاكل التي كانت سائدة في عصره، وخصوصًا القضايا الواقعية والتي فسروها بحسب اهوائهم وما يمتلكون من ارث قديم هو بعيد كل البُعد عن منظومة العقل والوعي الذهني.
العقل عند المعري هو النور الذي يُسلط على الدياجي ويبددها، فتنقشع تلك الدياجي مهزومة مكشوفة عورتها ظاهر زيفها لجميع الملأ، هذا النور هو نور العقل نفسه، فالذي لا يتبع هذا النور سيبقى الظلام حليفه، ليسير معه خطوة بخطة، فلا يرى المطبات والحفر التي تعتري طريقه، وتقف في دربه، ويكون نظره غير ذي بُعد بل يتمتع بنظرة قاصرة، نظرة سطحية ليس فيها عمق. فالدينيون بنظر المعري هُم من لا يستنير بنور العقل حيث جعلوا العقل مقياس ليس ذو اهمية، وقالوا إنه قاصر في مواجهة القضايا الكبيرة التي تخص الوجود، واعتبروا انفسهم هُم من يمتلك معرفة تلك القضايا وحدهم، وهم من يمتلك الحق في التفسير، والسبب إن ثقافتهم ومعرفتهم دُقت اُسسها على بنُى ثابتة، بنُى لا تخضع في نفس الوقت الى منطق العقل، وبالتالي لا يمكن لهم انتقاد او شك في اطر تلك البنى، والشك فيها او نقدها يعتبر من زيغ الكلام، والتوجس من الحقيقة التي بمنطقهم هي حقيقة ساطعة لا يتسرب اليها الشك من بعيد ولا من قريب.
هكذا كانت نظرة المعري للعقل، إنها نظرة بُعد تعبر جميع الآفاق لتدرك قطرات ندى المعرفة القابعة وراء سحاب الجهل والتعلق بحبال الغيبيات والماورائيات التي لا تستند الى العقل بقدر استنادها الى افكار مستوردة من خارج اسوار المعرفة الحسية.