العقل المواجه والموازي للغرب

العقل المواجه والموازي للغرب

المحامي د. هاني سليمان
في كتابه الأخير بعنوان “كيسنجر وبريجنسكي – ترست الادمغة والسياسة الخارجية الأميركية،” يختم عبد الحسين شعبان إهداءه لمن يهديه بعبارة: “اقدم لك هذا العمل المتواضع ”
تلقفت هذا الكتاب ورحت أبحث عن تواضع مضمونه فيه فلم اجد شيئاً ” من ريحته” ، الا في شخصية هذا المفكر الكبير من بلادي.
لقد ذيّل الدكتور شعبان إداءه باسمه الثنائي الحاف، دون القاب أو صفات، وفي المضمون دعوة للقراءة والتفكر والبحث في واقعنا العربي في ظل التحديات الراهنة الغريبة تحديداً على بلادنا.
في عقل هذا الباحث والمفكر الذي “يضع رأسه برأس” كبار المفكرين في العالم، يجافيهم ويصافيهم، يخاصمهم ويهادنهم، دعوة الى ملاقاته في نصف الطريق للبحث عن كلمة سواء. يستعرض عبد الحسين شعبان في كتابه الأخير سيرة رجلين مهرا السياسة الخارجية الأميركية ببصمتهما المميزة منذ سبعينات القرن الماضي حتى اليوم، قارئاً انهما يعتبران أن السياسة ليست بنت ساعتها، ولا يقتصر مفعولها على الحاضر، بل يتعدى ذلك الى قابل السنين بكل تلاوينه السياسية والاقتصادية والابتكارية والاستراتيجية الدولية.
لا يكتفي عبد الحسين شعبان في هذا الكتاب بايراد نصوص وتصريحات وخطابات وزيري الخارجية الأميركية المذكورين، وبما يصدر عن مراكز الأبحاث المتنوعة في اميركا التي كانت بعهدة أو باشراف كل منهما، ولم يترك القارئ عند تخوم عقل هذين الرجلين، بل يعتبر ان من يبقى عند تخوم العقل فإنه يشغل نفسه بالوجه والرأس وتسريحة الشعر ولون ربطة العنق. ولذلك فهو يتجاوز تلك التخوم ليدخل الى لب العقل فيبحث في ثناياه ووظائفه كافة.
يمكنني القول ، إن هذا الكتاب ، بقدر ما هو ضروري لمخاطبة العقل العربي، فانه مفيد لمخاطبة العقل الغربي المتنور ، إن وجد، وحين يوجد، خاصة وإن اميركا والغرب عموماً هما في قمة نيوليبراليتهما التي من آثارها المدمرة، الغاء الحدود بين الدول والتغول على المؤسسات الدستورية الوطنية كما يحصل في إدارة ترامب اليوم، من تركّز الرأسمال بيد أصحاب الياقات البيضاء وأصحاب آلات الكومبيوتر والذكاء الاصطناعي والشركات المتعددة الجنسية، وما ينتج عنها من إلغاء حقوق الملايين من أصحاب الايادي السمراء المعروقة والممزوجة بزيت الآلات وشحم المكنات، والمقهورين بتلوث البيئة الطبيعية وتلوث الاخلاق السياسية.
ورغم ما يطفو على السطح من بريق النيوليبرالية، أرى انها مقدمة لأزمة النظام الرأسمالي العالمي، الذي يوشك على الانفجار. هذا ما يراه الدكتور عبد الحسين شعبان وما يؤكده الأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي الدكتور زياد حافظ.
جاء رجل الى سقراط قائلاً له : ” أريد أن أكون ملكاً على اليونان لأن الملك الحالي ليس جديراً بقيادة دفة سفينة اليونان،” فأجابه سقراط ” لا تقس نفسك الى مهارة الربان، بل قس نفسك الى حجم الانواء التي تهدد السفينة. لا تقس نفسك إلى الأشخاص، بل قس نفسك الى المهمات والتحديات.”
عبد الحسين شعبان هو كذلك ، وهو يقيم على فتحة كنز ثمين عميق الغور، حاول ونجح بالحصول على مفتاحه ونزل اليه. وبسبب من عمق هذا الكنز الملحوظ فقد احتاج الى كمية كبيرة من الاوكسيجين للتنفس، فكان أوكسيجينه الحرية، تنفسها لمدة طويلة فوقى نفسه من اختناق التقوقع في المكان أو الزمان.
ولأن وسيلته الى الحياة هي الحرية، فقد تحرر بها من كل قيد فكري أو سياسي، وطلب اللجوء الى الانسان، الذي رفعه الله فوق منزلة الملائكة حين امرهم سبحانه وتعالى ان يسجدوا لآدم الانسان . ” وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا أبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين” (سورة البقرة)
بعد عميق تفكير وجد هذا الرجل النجفي المولد مكاناً، والماركسي المولد فكراً، انه لا بد من المصالحة، فتصالح مع نفسه أولاً ومدّ يده للأخرين وراح يصالح المتناقضات المتصارعات. ولعل أبرز هذه المتناقضات ما كان بين ابن خلدون ” إمام ” علم الاجتماع والانثروبولوجيا في القرن الخامس عشر وبين كارل ماركس ” إمام ” المادية الجدلية والمادية التاريخية والصراع الطبقي في القرن التاسع عشر. هذا مع قناعته بأن خلاف الأئمة رحمة للأمة.
هذا الرجل ، إضافة الى تعدد صفاته والمواهب، فإنه مهندس من طراز رفيع، اختصاصه بناء الجسور بين البشر مستفيداً من خبرة الاقدمين من علمائنا في هذا المجال وخاصة الإمام الشافعي الذي اختلف معه تلميذه على مسألة فقهية محددة، فترك الصف غاضباً، فلحقه الشافعي الى منزله وقال له :” يا رجل تجمعنا أشياء كثيرة ويفرقنا شيء واحد. لا تجعل من هذه المسألة مثار خلاف على كل شيء. دعك من الحواجز بيننا وتعال نبنِ الجسور في ما بيننا .”
عبد الحسين شعبان باوع بهاي الناس يقولولك اتدلل عيني
نحبك ونحتاج اليك
نص المداخلة التي افتتح بها المحامي الدكتور هاني سليمان الندوة التي ناقشت كتاب الدكتور عبد الحسين شعبان الموسوم ” كيسنجر وبريجينسكي – ترست الأدمغة والإستراتيجية الأميركية”، والتي أدارها الوزير السابق د. عصام سليمان وتحدث فيها الدكتور سعد محيو والدكتور وليد شرارة، بحضور نخب فكرية وثقافية في دار الندوة في بيروت، مساء يوم 20 شباط (فبراير) 2025.