على اي معنى نفهم العقل وعلى اي مدلول ندرك كنهه؟ فان اتفاقاً جمعيا في هذا الصدد بين العلماء والمفكرين والفقهاء لم يتحقق ولا نظن انه سيتحقق على هذا السياق من التوقع. أليس ذلك التعذر بسبب كينونة العقل نفسه وصيرورته او صيرورته حسب، بل لان ما اشتق منه من تعبيرات مصطلحية واخذ مفاهيم متباينة جعل مهمة جمع الشتات وتوحيد الاصل اكثر صعوبة فعلا، وعلى نحو خاص عندما تدخل اللغة الاجنبية العلمية والثقافية والمعرفية لتمنح هذه التعبيرات (افاهيم) CONCEPTS فضلا عن (المفاهيم) CONCEPTTION. والفرق بين هذين هو الفرق بين الاصل والاشتقاق ،اي المعنى الذي ولد به المصطلح ثم المعنى الذي صار اليه بعد اشتقاق التعبير الجديد منه، فاذا كثر الاشتقاق وتعددت المعاني المضافة تعددت (الافاهيم) للمفهوم الواحد، وما اكثر ما تولد عن العقل من مدخلات ومخرجات مصطلحية.
هنا، في هذه المقالة نحاول- مداركه، علاقاته، هامشية من حيث الشكل، الا انها ليست شكلية من حيث الجوهر، تلكم هي العلاقة السببية بين العقل والايمان.
ولقد يتساءل القارئ عن معنى الايمان وفيما اذا واجه مثل ما واجه العقل من تطور، وما عندنا في هذا المجال الا البسيط العام، العظيم الشأن في القوت نفسه: الله كائن، الله موجود، الله واحد، الله الخالق، له الاسماء الحسنى. ثم يولد الانسان على الفطرة، او على دين الفطرة ولكن (…) كما في الحديث الشريف.
المشكلة عندي او في مواجهتي تكمن في صعوبة تحديد الانسان الذي تحقق له الايمان بالاكتساب والخبرة والممارسة والتجربة والبحث والتقصي والجدل والنقض والتوافق والمطابقة… الخ اي الانسان الذي لجأ الى العقل اولا فتحقق له الايمان والمطابقة… الخ اخيرا، وهذا الانسان في صف نصف الفلاسفة ونصف المفكرين ونصف العلماء. اما الذي توارث الايمان تلقيناً وزقاً وتقليداً ومحاكاة، فهو مؤمن قد يصل الى مستوى اللجوء الى العقل، وقد لا يصل في معالجة آيات الله في خلقه، اذ ليس في رغبتنا او قدرتنا الحكم على الناس.
في واقع الامر او خاتمته، انما هي اشارات للمذاكرة والتذكير، او هي مساءلة او تساؤل: اي المؤمنين اقرب الى نزعة الايمان والصحيح والتام؟ نعتذر هنا عن الترجيح بل نعتذر عن الترشيح اساسا، والافضل في هذه الجدلية ان لا يهمل ايمان التوارث ولا يغفل ايمان العقل، واذا جمعنا ما يتحقق من ايمان الاكتساب بالعقل الى ايمان الاكتساب بالممارسة والوراثة صار عندنا ايمان من نمط جديدة. نقول ذلك من غير تردد وتحفظ اذ اننا ندرك تماماً ان هذا الايمان الراسخ سيكون على قاعدة مادية وروحية متكاملة البنية، سليمة الغاية صحيحتها، ولا يذهبن احدنا الى تصور سهولة هذا الاختبار في حياة اليوم او العصر الحاضر في الاقل، بل هي مهمة لا تخلو من صعوبة، فاقامة الطقوس الدينية في العبادات المفروضة والسنن والنوافل ليست الايمان كله، بل هي دون الايمان الاعلى ولكنها هي الطريق اليه، وهذا يمنح ارجحية لاكتساب الايمان بالخبرة والممارسة من غير اعتراض، والمشكلة هنا عندما يثبت الانسان عند هذه الحاجة ولا يدري ماذا وراءها من اسرار، اسرار في العلم، واسرار في الحياة، واسرار في الكون، واسرار في الانسان نفسه، بها حاجة الى ما يفيض على اقامة الطقوس بنقاء وصفاء في الليل او النهار، بل في الليل والنهار .وهذه الحاجة ليست مدلولة في يومنا هذا، بل هي مولود يأتينا في كل يوم وسنة وعقد وقرن، في الحركة، والتغير، والتبدل والتحول، والانتقال بازاء الاحداث وحذاء مضاعفاتها او مسبباتها الامر الذي يجعل العلم ضرورة، والفكر اكثر ضرورة، ولقد وضعنا الاحداث بين قوسين لتؤكد عظم موقعها في الفكر القديم والمعاصر عندما يبحث الانسان في ماهية الحدث، هل هو نتاج العقل ام انه مادة موصوفة ام ليس من العقل ولا في المادة كما ذهب الى ذلك الفيلسوف الرياضي البريطاني برتسراند رسل.
نحن لا نتمنى على الفيلسوف ان يصير مؤمنا، والعفيف قسرا ان يصير فيلسوفاً، ولو نتمنى على الفيلسوف ان يصير مؤمنا صادقا نقيا. الا اننا لا نستطيع الركون باستكانة وحذر الى ظاهر النص وشكله العام من دون التعمق في اعجازه الدلالي بالتأمل. هذه الكلمة منها المصدر والفعل والصفة لم ترد في القرآن الكريم، بل ورد التفكر والتعقل والتبصر على كثير من الصور البيانية المدهشة والمؤشرات التحريضية والتقريعية الساحقة، مع ان اللغة المعاصرة تضع التأمل في ثلاثة مقابلات اجنبية لكل منها مدلول خاص: Contemplation ادبي وعام و Speculation نفسي واجتماعي و meditation فكري وفلسفي، فهل يعني هذا ان ليس هناك علاقة عضوية بين التأمل والتفكر والتعقل والتبصر؟
في الواقع ان العلاقة موجودة بقوة في معنى التفكر ومدلوله، وفي معنى التعقل ومدلوله، وفي معنى التبصر ومدلوله، انما تفهم ذلك من خلال تفسير التفكير فتستعمل التأمل، وهكذا مع التعقل والتبصر، اي ان التعبيرات القرآنية تغطي هذا المفهوم فتجعل منه (افهوما ) في (مفهوم ) كل منهما.
ولكن هل يستطيع كل مؤمن التمييز بين هذه الثلاثية على نحو يدفعه الى اخضاع ما في الحياة من ظواهر ومظاهر للنص القرآني الكريم العظيم وليس البحث عن توافقات بين النص العظيم وما يتحقق في الحياة الدنيا لكي يفرح بمصداقية القرآن العظيم؟
انه العقل القائم على الايمان، والايمان الذي يتعين ان يلوذ بالعقل ولا فصل بينهما او ترجيح كما نظن ان صح ما نظن .
[email protected]