22 ديسمبر، 2024 7:00 م

العقل العربي يتورّم بالغبطة الماضوية

العقل العربي يتورّم بالغبطة الماضوية

تتضخم في العقل العربي حصى فكرية غير قابلة للتفتت حتى تحت اشعة التحديث الليزرية، وهي من صناعة ثوابت معظّمة لا تؤمن بالمتحوّل، جاعلة من التاريخ متحجرا تغطيه الطلاسم والاوهام، لا يكترث لمتغيرات العلاقات والمفاهيم، فلا يحاور واقعا مغايرا، ولا يتكامل مع واقع مطابق، بل ان الوعي العربي يذعن لسلفيته التي يعتبرها مثالية، ويتباهى
بالخضوع الى مرجعياته النقلية التراثية المقدّسة في دفتر الماضي.

ولا تشذ الحالة العراقية، عن الثقافة الاجتماعية وطرائق التفكير العربية الديماغوجية المبجِّلة للموروث التقليدي
لتصبح في العقود الأخيرة، من أعجز الثقافات في المزاوجة بين اشكاليات التحديث، والجذور الراسخة، وبدأت تقف على الأخيرة، غير منجذبة الى العصر والعولمة.

المنهجية المسيطرة اليوم تنحصر في البحث الانتقائي في الماضي، وسرديات التاريخ والاستنساخ المعرفي المقلّد
بما يتوافق والاهداف السياسية للقوى المسيطرة، وهي في اغلبها توظيف لأحداث الماضي المتّسقة مع أيديولوجيتها واعتبارها مثالية. اما المتناقضة مع هواها الفكري، فان المجال مفتوح لتقبيحها، واعتبارها هزائم، وقد أدى ذلك الى معارك عصرية وحروب على الصنميات والقبور.

تشعر السلوكية الانبهارية بالماضي، بالنقص والاختلال امام انجازات العصر، ما يدفعها الى تأويلات فكرية، وتزويقات بلاغية، وهو أمر اشتهر به العرب كأمة كلام، وبلاغة خطابية زعمية، لتنسب التقدم والتطور والاختراعات الى نفسها، وتراثها، بواسطة أدوات الخطاب الادعائي الذي يستند بكل وعيه الى التاريخ، ولا يستطيع العيش في الحاضر.

أي فكر اختلاقي، يستند الى نرجسية ماضوية، ولا يمتلك من أدوات القوة سوى المنابر الخطابية، وتغليف الماضي،
بطلاءات عصرية غير راسخة، ينهار عاجلا او آجلا وإن طال به الوقت، لأنه يفتقد الى ابسط مقومات البقاء، في البعد التحليلي، والقدرة على تحقيق انجاز مادي والتأسيس لأدوات ملموسة في البناء.

أحد أسباب سيادة الثقافة الغربية، وتمكّنها من عقول البشر، قدرتها على الأثر، لا بالخطاب البلاغي، والمنابر الوعظية،
وإعادة اجترار الماضي، وإنتاج نسخ جديدة له، بل في امتلاكها أدوات مادية في البحث والابتكار والإنتاج، الامر الذي
جعلها ضليعة في الغزو الثقافي.

ولانّ الفكر الغربي، متطور في تقنياته، فقد انتج الميديا عوضا عن المنبر، مكتسحا العالم في القدرة على التأثير، فيما
رسخت الثقافة العربية على الابواق المنبرية التقليدية المعبئة بالماضي، من خلال نرجسية محاطة بتفريط معرفي واضح.

مثالان صارخا على سذاجة الفكر الماضوي، وغلبة المفاهيم الميتافيزيقية، الأول:” الحرب على العراق العام ٢٠٠٣، وكيف واجه العرب آلة الغرب المتطورة الضخمة، باستدعاء أدوات تاريخ مضى عليه أكثر من ستة الاف سنة ليس لها من الإنجاز، شيء يذكر في دفتر العصر.

الفكر المتأزم والموتور، يواجه التحديات على انها مؤامرة مدروسة، وتبدو أنساقه على طلاء واحد من تجارب سلفية وتاريخية يعتقد انها نموذجية، فيما شخوص الحاضر هي ذاتها تكرارا مقيتا للسلف، لهذا يتقهقر الى الماضي الذي يجد فيه ملاذا آمنا من الفشل متذرعا بالمحافظة على اخلاق الامة وتاريخها، وقيمها ورموزها.

يحتاج الوعي العربي الى تجاوز اذعانيته وسلفيته المثالية والخروج من كهف التقليدية والوعظية الفكرية، وهذا يتطلب تفعيلا جديا للوعي النقضي الذي يقوم على تبني انساق البحث العلمي ووضع الافكار الموروثة موضع المسائلة، وتطوير ادوات معرفة جديدة بالانفتاح على العالم المتقدم، ووضع الشك والمسائلة الدائمة ضمن آليات التفكير.

وبواقعية أكثر، علينا الاستجابة لعقلانية الحاضر، وتجاوز مكر التاريخ بوصف الفيلسوف هيجل، والانكباب على
البحث العلمي البيكوني، للانعتاق من سيطرة الماضي على أفكارنا، ومنطلقاتنا، لتجاوز الميتافيزيقيات، والجدليات
المعبئة في أجواف الكتب من دون ان تحقق إنجازا حضاريا.