19 ديسمبر، 2024 5:21 ص

العقل العربي بين الحداثة والموروث القبلي

العقل العربي بين الحداثة والموروث القبلي

شكلت القبيلة العمود الفقري لنشأة المجتمعات الإنسانية منذ أن وجد الإنسان على هذه الأرض ، وأصبحت المنظومة الاجتماعية الثانية بعد العائلة التي ينضوي تحتها الفرد وتشكل له حاضنة بمقدورها أن توفر له بيئة صالحة وآمنة يمكن من خلالها أن يمارس حياته تبعا للأعراف التي  تعيش تحت مضلتها هذه القبيلة ، وبعد قرون طويلة من الزمن تطورت المجتمعات الإنسانية وتغيرت الكثير من المفاهيم والثوابت لديها تماشيا  مع تطور الحياة  في مجالات الفكر والصناعة ، مما جعل الكثير من هذه المجتمعات وبالأخص الغربية منها تتحول إلى مدنية صرفة ، وتتلاشى القبيلة وتضمحل بين ضجيج الآلات العملاقة ، وأبواق السيارات ، وضلال ناطحات السحاب ، التي جلبتها لها الثورة الصناعية التي حدثت في القرن السادس عشر الميلادي ومن ثم اجتياح مفاهيم الحداثة والعقلانية لها في عصر التنوير والإفرازات الايجابية التي خلفتها ورائها الثورة الفرنسية عام  1789ميلادي … إلا إن مجتمعاتنا العربية ظلت أسيرة الإسقاطات الفكرية والبيئة لمجتمعات البداوة والقبلية ولم تستطع الانفلات من شراكها بالرغم من كل التطور الحاصل في العالم ويعود ذلك لعدة أسباب تتعلق في طبيعة العقل العربي وخصوصيته ،  ذكر البعض منها الكاتب والباحث المصري الدكتور محمد شحرور ولخصها في ثلاث  .. الأول .. (إن العقل العربي هو عقل مجازي) .. أي ليس لديه القدرة على أن يسمي الأشياء بمسمياتها أو البحث في مكنوناتها واصلها وكيفية وجودها ، فهو يلجا الى المجاز والتشبيه في التعامل مع كل ما يدور من حوله مما افقده القدرة على أن يرى الأمور بواقعية وتجرد ، لذلك استطاع العرب أن ينجبوا ثلاثة آلاف شاعر ولم يستطيعوا أن ينجبوا عالما واحد .. ثانيا ..  (أن العقل العربي هو عقل قياسي ) .. أي يعتمد على القياس في تفسير الظواهر الاجتماعية والعلمية المحيطة به لعدم امتلاكه القدرة على البحث والاستنباط .. أما السبب الثالث و الأخير فهو.. (إن العقل العربي لازال يعيش في القرن الأول الهجري ) .. أي انه لا يستطيع فك الارتباط المشيمي معه في تعاطيه مع الأحداث الجارية من حوله والتطور والحداثة التي تهيمن على عالم اليوم .. وهذا ما أطلق عليه عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر ( الثقافة الحتمية ) .. وهي عبارة عن جدار ثقافي تتمترس به الشعوب اتجاه الثقافات الأخرى الغريبة  ، وهي عاهة خلقية في جسد المجتمع تتحكم جينيا في مستقبله ، ساهمت في تخلف المجتمعات العربية كونها حالة من الشد للماضي ، لا يمكن تجاوزها أو القفز عليها ، حيث تكون حاضرة كلما مرت هذه المجتمعات بظروف استثنائية كالحروب والأزمات السياسية والاقتصادية التي تؤدي إلى ضعف الدولة وسطوتها ، كما يحدث الآن في العراق ..   وينتج هذا عن حالة من النكوص تعيشها العقلية العربية ، عبر عنها عالم الاجتماع العراقي خلدون النقيب بمفردتين هما ( التأخر والارتكاس ) ، وعرفهما .. ( بأنهما ظاهرتان مستقرتان في التاريخ الإنساني ) .. وعرف التأخر على انه حالة تخلف الفكر عن زمانه ومكانه .. وأما الارتكاس فعرفه هو ارتكاس الثقافة نحو الماضي والاحتماء به ، بما يتناسب مع موقعها في معادلة توزيع القوة المهيمنة بين شعوب العالم ، واختصرها بعبارة .. ( هي حالة جلد للذات ) .

 وبما إن العقلية العراقية هي جزء لا يتجزأ من نمطية العقلية العربية السائدة ، بفعل العوامل الجينية والجغرافية لذلك ظلت الشخصية العراقية مثار جدل ولغز اجتماعي محير ،عبر العصور التاريخية المتعاقبة ، التي عبر عنها سلوك الإنسان العراقي في تعاطيه مع الإحداث التي تدور من حوله ، من خلال مجموعة من المتناقضات التي حملتها هذه الشخصية في ثناياها  ، ساهمت في تكوينها عدة عوامل تراكمية ناتجة من صراع وتصادم أيدلوجي بين الموروث القبلي والحداثة .. فنجد جزء كبير من المجتمع العراقي يلعب الفرد فيه أكثر من دور ويظهر بأكثر من مظهر خلال اليوم الواحد ، فتارة يكون رجل دين متفقه عالما واعظا مدركا لما يقول ويفعل ، وتارة أخرى وبعد لحظات يتحول إلى رجل سياسة لا يقل حنكة ومعرفة بما يدور من حوله عن أي سياسي محترف ، ومن ثم عالم اقتصاد وخبير رياضي وقد يتحول فجأة إلى علمانيا ليبراليا أذا تطلب الأمر ، وهكذا يتنقل بين عدة شخصيات وادوار تساهم في إرباك حراكه الاجتماعي ليعود بعد كل هذا التقمص للأدوار إلى طبيعته البدوية التي تطغى عليها العصبية القبلية والتي عرفها الأزهري في كتابه تهذيب اللغة  ..( أن يدعو الرجل لنصرة عصبته والتألب معهم على مناوئهم ظالمين كانوا أم مظلومين ) .

وأما ابن خلدون فقد عرفها في مقدمته ..( النصرة على ذوي القربى وأهل الأرحام أن ينالهم ضيم أو تصيبهم هلكة )..وان هذا التعريف هو الذي جعل ابن خلدون ينعت القبيلة بأنها (البداوة ) .

ففي أول مواجهة تنتج عن تضارب مصالح أو تصرف اجتماعي غير لائق يبدر من أي شخص اتجاه الآخر الذي قد تربطه معه عدة أواصر وصلات كالوطن والدين والطائفة وحتى الانتماء ألمناطقي ، تراه يتخلى عن كل هذه الثوابت والاعتبارات والهالة التي صبغ بها نفسه ، ليعود الى طبيعته البدوية .

 في احد الأسواق الشعبية البغدادية حدثت مشاجرة صغيرة سببها كيلو غرام واحد من الفاكهة ، أراد احدهم إرجاعه الى البائع فتطور الموضوع إلى عراك بالأيدي ، ومن ثم يتحول إلى نزاع عشائري لينتهي بمقتل شخص وجرح آخر ، تلاها حرق لعدة دور سكنية وجلاء بعض الأسر خوفا من الثأر ، وقطع للأرزاق .. بعد أن غاب الواعز الديني عن هذه الأحداث وسالت الدماء من اجل شيء تافه بلا جدوى .. في مشهد يعبر عن حجم الفوضى التي يعيشها مجتمعنا العراقي في ظل ضعف الدولة ومؤسساتها الأمنية والقضائية ، وغياب الوعي الديني والحضاري عن هؤلاء الناس ، في حالة تحاكي ما كان يحدث في المجتمعات الإنسانية البدائية ،  لتتحول الحياة في هذا الوطن إلى حياة أشبه بالغابة يكون البقاء فيها للأقوى .. بعدما تحولت هذه النزاعات في العراق إلى ظاهرة اجتماعية خطيرة تتكرر لعشرات المرات في اليوم الواحد على الامتداد الجغرافي لهذا البلد المنكوب ، في ظل ظروف اجتماعية وسياسية وأمنية استثنائية يعيشها  بفعل الإرهاب والصراعات السياسية والفساد الإداري الذي ينخره  … وهذا ما جعل الدكتور علي الوردي يختلف مع الماركسية التي كانت ترى أن الصراع الطبقي هو الواجهة العريضة لكل أنواع الصراعات القائمة في المجتمعات الإنسانية ، وكان يرى إن هنالك أشكال أخرى من الصراعات داخل هذه المجتمعات تكون أكثر خطورة وأهمية وذات طابع بدائي ستفصح عن نفسها إذا ما وجدت لها متنفس ، كصراعات الاثنية والطائفية والنزاعات القبلية وان الصراع الطبقي هو حالة متقدمة وناضجة إذا ما قيست بهكذا أنواع من الصراعات والتي لا تفضي إلا إلى الموت والتخلف والخراب .. ولقد أطلق عالم الاجتماع خلدون النقيب على كل أنواع الصراعات هذه ذات الطابع البدائي التي يكون الهدف منها السيطرة واستعراض العضلات بمصطلح .. ( أمثولة القبائل ) … وهنا لا يمكننا أن نتجاوز هوية العراق ذات الطابع القبلي أو نحاول إلغاء الدور المهم الذي تلعبه القبيلة كنمطية اجتماعية لها حضورها ، وتشكل جزء مهم من النسيج الاجتماعي العراقي .. لكن يجب أن يكون لهذا الحضور دورا ايجابيا في المجتمع يتماشى مع التطور الحضاري والإنساني الذي يشهده العالم ، ومع الظروف التي يمر بها البلد الآن ، وليس أداة لإشاعة الفوضى والتمرد على السلطة والقانون ، إن هذه الدماء والأسلحة والاعتدة  التي تهدر بالنزاعات العشائرية نحن بأمس حاجة إليها اليوم ، ونحن نخوض حربا مقدسة وشرسة مع اعتى قوة همجية بربرية في تاريخ  البشرية المتمثلة بداعش وأذنابها … ولكي لا تفقد القبيلة جزء من رصيدها التاريخي الذي له أوجه مشرقة ومشرفة من تاريخ العراق الحديث كثورة العشرين ، فعليها بما تمثله من منظومة اجتماعية مهمة وحجر الزاوية في بناء النسيج الاجتماعي العراقي ، أن تعيد صياغة الكثير من المفاهيم والسلوكيات التي يعتقد الكثيرين بأنها ثوابت عرفية وان تعمل على تحجيم نطاق هذه النزاعات وجعل الصدارة للقانون والقضاء في حلها .

أحدث المقالات

أحدث المقالات