أحاول هنا أن أبين العلاقة بين العقل الحر والتعايش. فكما إن العقل الحر شرط للتفكير، إذ لا تفكير من غير عقل حر، وكما إن العقل الحر شرط للإبداع، إذ لا إبداع بلا عقل حر، فلا تعايش إلا بتحرير العقل البشري من وهم امتلاك الحقائق المطلقة النهائية اللامسموح مراجعتها.
نعم، العقل الحر وحده قادر على التفكير، ووحده قادر على الإبداع، وبالعقل الحر فقط نستطيع التعايش حق التعايش بسلام غير مهدَّد.
وحيث إننا عندما نتناول مفهوم العقل الحر، إنما نتناول مفهوم الحرية، وحرية العقل بالذات، هي حريتان، حرية من الداخل، وحرية من الخارج، ولا بد من السعي لتحقيقهما بالتوازي وبالتزامن وبالتكامل.
عملية التحرير الداخلي (الذاتي) للعقل، تحتاج إلى شجاعة؛ شجاعة التفكير، شجاعة الشك، وشجاعة عدم التنازل عن حق الإفصاح عما يُفكَّر به وعما يُشَكّ به، ما لم يتعرض المفصح للخطر على أصل وجوده.
لكن من معوقات الحرية في التفكير الاعتقاد (أو الادعاء) بامتلاك الحقيقة النهائية المطلقة، علاوة على الاعتقاد أو الادعاء بوحدة الحقيقة، كون المطلق واحدا غير متعدد. والمشكلة تكمن في عدم التمييز بين وحدة ومطلقية الحقيقة المفترضة في ذاتها وفي عالم التجريد من جهة، وبين تعددها ونسبيتها في الفكر من جهة أخرى.
وأعني بالذات الحقائق المفترضة لقضايا ما وراء الطبيعة. وقلت (مفترضة)، لأنها حقيقة عند البعض، وليست كذلك عند البعض الآخر. ونعتها بالمفترضة غير نعتها بالكاذبة، فالمفترض قد يصدق وقد لا يصدق. لذا فهي حقيقة مفترضة، سواء كانت صادقة أو مدّعاة، أو كانت تمثل ثمة وهما.
الحقيقة المفترضة في قضية ما إن صدقت، فهي حقيقة بذاتها، وبالتالي مطلقة، ومن ثم واحدة، لكنها مطلقة وواحدة حصرا في عالم التجريد، لكنها تبقى نسبية، وبالتالي متعددة في عالم الإنسان، في عالم (الذهن) أو (التصور)، فكل ما ينتج من (فكر) بشري هو نسبي، ومتعدد، سواء اعتُمِدَ العقل، أو التجربة، أو الوحي، أو ما يعتقد أنه وحي.
من ادعى أو توهم أنه يملك الحقيقة المطلقة النهائية، فقد ألـَّه نفسه، وأشرك نفسه بربه بالتالي من حيث لا يشعر، ومن حيث يعتقد أنه موحد.
وعندما نتناول التحرير من الخارج، لا بد لنا من تشخيص المعوقات الخارجية لتحرير العقل، وأهمها المؤسسة الدينية المتشددة والمتزمتة وغير المتسامحة، لاسيما إذا امتلكت السلطة، والمجتمع المتدين المتشدد والمتزمت وغير المتسامح، والأسرة المتدينة المتشددة والمتزمتة وغير المتسامحة.
من أهم الشروط التي يجب العمل على توفيرها لتحقيق التحرير من الخارج، ومن أهم شروط التعايش، ومن أهم شروط عمليات الإصلاح والتنوير الديني، هو ترويض المؤمنين بالدين على استقبال نقد الدين.
فنحن عندما نتكلم عن كل من القضيتين؛ قضية تحرير العقل، وقضية التعايش، فإن كلا منهما تمثل قضية فكرية، ثقافية، اجتماعية، سياسية، أخلاقية، وسايكولوجية، خاصة بالنسبة للتعايش.
وتحرير العقل من شأنه أن يجعل عملية التفكير تجري بمسار عقلي وعلمي وموضوعي وعلماني. وعلى ذكر العلمانية، لا بد من التذكير بأن هناك العلمانية الفكرية أو العامة، والعلمانية السياسية أو الخاصة. ومن الخطأ الخلط بين العلمانية الفكرية والعلمانية السياسية، وعندما نتناول السياسة ونتحدث كسياسيين، فنحن نعني بالعلمانية تلك العلمانية السياسية، بينما الدولة العلمانية الديمقراطية تكفل حرية الفكر العلماني، كما تكفل حرية الفكر الديني، وتدعو للفصل بين كل منهما من جهة، وبين شؤون الدولة والسياسة والحياة العامة، إلا بحدود – ما يتعلق الأمر بالحياة العامة – ما يزاوله الفرد من حرية التفكير، فيما يعتمده من فكر ديني أو بشري وضعي، وكذلك حرية التعبير عن ذلك. كما يجري خطأ الخلط جهلا أو عمدا بين العلمانية، سواء الفكرية أو السياسية من جهة، وبين الكفر والإلحاد من جهة أخرى.
وعلى ذكر الإلحاد، فالإلحاد يمثل ثمة قناعة فيما يتعلق الأمر بفلسفة الوجود والرؤية الكونية للحياة، وبالتالي فالقناعة لا يمكن وصفها بأنها حسنة أو سيئة، لأنها لا يمثل قيمة أخلاقية، بل يمكن الحكم عليها، كما هو الحال مع تناول الفكر الميتافيزيقي، سواء الديني أو العقلي اللاديني، بالصواب والخطأ، مع تأكيد وجوب اعتماد النسبية في التصويب والتخطيء، فلا صواب مطلقا كما لا خطأ مطلقا، لاسيما في قضايا ما وراء الطبيعة. أما من حيث القيمة الأخلاقية، فإن هناك الإنسان الديني الطيب والسيئ، وهكذا هو الحال مع اللاديني، سواء الملحد أو المؤمن أو اللاأدري، وبالتالي وتعبيرا بلغة اللاهوت العقلي، فهناك ثمة ملحد إلهي النزعة، فيما هي النزعة الإنسانية المحببة عند الله، كما هناك ثمة ملحد ديني التفكير، فيما هو ادعاء احتكاره للحقيقة المطلقة ورفض ما سواها، وبالعكس هناك الديني التنويري ذو النزعة العلمانية. إذن من الممكن أن نجد دينيا – على سبيل المثال – مسلما متدينا علمانيا.
لمعالجة الخلط بين العلمانية العامة (الفكرية) والخاصة (السياسية)، أستخدم أحيانا (اللادينية) فيما هو الفكر، و(العلمانية) فيما هي السياسة، لأنه كما مر من العلمانيين من هم المؤمنون بالدين والملتزمون أي (المتدينون) من غير تزمت، فالعلمانية السياسية لا تعني حصرا عدم إقحام الدين في الشأن السياسي، بل عدم إقحام أي موقف عقائدي إيجابا أو سلبا من القضية الميتافيزيقية في كل من الشأن السياسي، وشؤون الدولة، والشأن العام. لكن دون أن يعني هذا أن ليس بإمكان السياسي اعتماد أي قناعة مما ذكر، والتعبير عنها، لكن فقط كمواطن، أو كمفكر، أو متعاط للفكر، وليس كسياسي. وكلما كان موقع السياسي متقدما في هرم مسؤولية الدولة، كلما كان الأجدر به أن يجمد قناعاته من القضايا الميتافيزيقية، أي إيمانه أو عدم إيمانه، أو تدينه أو عدم تدينه.
وكما أشير إلى الخلط بين العلمانية السياسية والإلحاد أو اللادينية، يجري الخلط بين اللادينية والإلحاد، بينما العلاقة بينهما هي علاقة خصوص وعموم مطلق، كما يعبر في المنطق، ففي الوقت الذي يكون فيه كل ملحد أو الأصح كل لاإلهي وكذلك الحال مع اللاأدري لادينيا بالضرورة، فليس كل لاديني هو لاإلهي، بل اللادينيون ينقسمون إلى إلهيين لادينيين ولاإلهين ولاأدريين، وهكذا ليس كل مؤمن، أي كل إلهي هو ديني بالضرورة، فالإلهيون ينقسمون إلى دينيين ولادينيين ولاأدريين دينيين.
وحيث إن موضوعنا هو العقل الحر كشرط للتعايش، يجب القول إن من لوازم العقل الحر، اعتماد ألّا جواب على سؤال إلا ويعقبه سؤال، كما من لوازمه هو اعتماد مبدأ أن ليس المطلوب منا كبشر أن نعرف الحقيقة في قضايا ما وراء الطبيعة، وثالثا أن ندرك أنه من الممكن، بل من المطلوب أن نتعايش بسلام، مع تعدد الحقائق أو الحقائق المفترضة التي يؤمن كل منا بها، وذلك باعتماد قاعدتي العقلانية والإنسانية، مع إدراك نسبية كل منهما.
ومن لوازم التعايش هو إننا نحتاج إلى التصالح والتعايش بين الدين واللادين، وبين الإيمان واللاإيمان على الركيزتين اللتين ذكرتا، أي الإنسانية والعقلانية، وثالثتهما المكملة لهما أي النسبية.