العقل الجمعي هو تلك القوة الخفية التي تتحكم بسلوك المجتمعات وتوجهها من دون أن نشعر. هو تراكم الموروثات والعادات والتصورات المشتركة، التي تتحول مع الوقت إلى مرجعٍ يحرك مشاعر الناس وأفكارهم ويقود قراراتهم حتى من دون وعي. لكن الخطر الأكبر يبدأ حين يتعرض هذا العقل الجمعي إلى غزو منظم عبر أدوات الإعلام الجديد ومواقع التواصل الاجتماعي.
اليوم، نعيش فوضى إلكترونية عارمة، وانفلات غير مسبوق في فضاء الفيسبوك وتويتر والتيك توك. ملايين العراقيين يفتحون هواتفهم يومياً ليواجهوا سيلاً من الصفحات والبيجات، كثير منها يدار من خارج العراق، من قبل أشخاص لا يعرفون وجع العراقي، ولا يعيشون يومياته، ولا تهمهم معاناته. هؤلاء يصنعون “رأي عام افتراضي”، ثم يوجهون العقل الجمعي نحو قضايا تخدم مصالحهم، لا مصالح العراقيين.
لقد أصبح من السهل جداً أن يتحكم شخص يعيش في دولة بعيدة بعقول آلاف الشباب هنا، عبر خطابٍ شعبوي أو فيديو قصير أو إشاعة مغلفة بعبارات براقة. بل الأخطر أن هذه الأدوات تُستخدم أحياناً لزرع الشك بين مكونات الشعب العراقي، أو لضرب ثقة الناس بمؤسساتهم، أو لتلميع وجوه فاسدة وتسقيط أخرى وطنية.
الفوضى هذه لم تأتِ من فراغ؛ بل جاءت بسبب غياب الرقابة المجتمعية أولاً، وضعف الوعي الجمعي ثانياً. نحن كعراقيين صرنا أسرى “الموجة الإلكترونية”؛ إذا ارتفعت قضية ما على صفحات الفيسبوك، صارت حديث الشارع، حتى وإن كانت فارغة من الحقائق. وإذا أطلق أحدهم هاشتاغ من خارج الحدود، وجدنا آلاف العراقيين يرددونه وكأنه حقيقة مقدسة.
وهنا يجب أن نتوقف بجدية:
من يملك السيطرة على مواقع التواصل يملك القدرة على تشكيل عقل الأجيال القادمة. هذه ليست مبالغة؛ إنما حقيقة نعيشها يومياً. العقل الجمعي العراقي اليوم مهدد بأن يُصاغ في غرف مظلمة خارج الوطن، بينما نحن نكتفي بالتفرج.
إن مواجهة هذه الفوضى لا تكون بالمنع ولا بإغلاق المنصات، بل ببناء وعي جمعي مضاد، يقوم على التربية الإعلامية، وتعزيز الثقة بالخطاب الوطني الصادق، ودعم المنابر العراقية الأصيلة التي تعرف وجع المواطن وتدافع عن هويته.
فالعراق اليوم بحاجة إلى حماية عقله الجمعي بقدر حاجته إلى حماية أرضه وحدوده، لأن الهزيمة تبدأ من العقل قبل أن تصل إلى الميدان.