حدث في إحدى اﻷمسيات الثمانينية الكئيبة ونحن متحلقون بعد معارك عنيفة في كل الجبهات خلال الحرب العراقية – الإيرانية حول نار مشتعلة بحثا عن الدفء داخل أحد المعسكرات المخصصة لإعادة الهيكلة حيث يجتمع بالعادة اﻷميون مع الخريجين الجامعيين جنبا الى جنب رغما عن أنوفهم ، أن تحول حديث السمر الليلي كله وبعد المرور بالسحر والحرمل وأم سبع عيون والسعلوة والبعيوة والكرطة وفريج اﻷكرع عن – القمل ..تصوووور – وكيف أنه كان و بعد انتزاعه من فروة الرأس من قبل الجدات الحنونات في القرى واﻷرياف النائية ورميه في النار يصدر نغمة – إززززز- ولو كان الهاتف المحمول مخترعا وقتئذ فلربما إقترح بعضهم على شركتي أبل وسامسونغ اضافتها الى قائمة النغمات للتنبيه ..اززززز !!
يومها تدخلت مقاطعا بعد أن سئمت من كم الجهل والتجهيل التي ساقها اﻷميون وخريجو الابتدائية بصوت عال الى مسامعنا وقلت ” ياجماعة الخير هل لي بسؤال الى من حاز منكم شرف (التقميل والتقمل ) و(الجرب والتجريب ) من قبل ، أن يصف لنا شكل القمل على الطبيعة بعيدا عن صور الإيضاح في كتب اﻷحياء والحياتية المنهجية ..لطفا !
ساد الصمت المكان لوهلة قبل أن تنطلق القهقهات عاليا لتصدع أرجاء المعسكر ، حتى إن أحدهم كاد يغمى عليه من الضحك ، وسألني ” ليش شنو جنابك ، ماشايف قمل على حقيقته من قبل ؟؟!”.
قلت : وﻻصغرا بالقمل ، الصراحة..ﻻﻻﻻﻻ !
فجاء كبيرهم وهو برتبة رئيس عرفاء وقال متهكما وكأنه إكتشف سر الخرتيت ” عوفة عوفة ، هذا نزاكة ، بزر نستلة ، عايش على الشامبو وعمره ماشايف قمل وﻻجرب بحياته ، هاهاها!!
قلت : قصدك أنتم من ﻻيعرف الغسل وﻻ النظافة مع أنها من اﻹيمان ،وقد أمرنا الاسلام الحنيف بالنظافة والغسل والوضوء والطهارة البدنية والقلبية والمكانية ، وعلى حد علمي أن مياه النهر تبعد عن مناطقكم بضعة أمتار لا أكثر بوجود صابون غار الحسني في كل مكان وبأرخص اﻷثمان !!
شاهدنا من تلك الواقعة المحفورة في ذاكرتي تماما كنظيراتها من ظواهر تحطيم نوافذ المدارس بالحجارة ، تدمير الرحلات وتمزيق الكتب المدرسية ، سرقة قطع الحلويات من المحال التجارية ،العبث بمقاعد وسائط النقل العامة ،مهاجمة القطارات بالحجارة في بعض المناطق ما دفع وزير النقل العراقي قبل أيام الى أن يستحلف المواطنين ممن يسير القطار في مناطقهم الى الكف عن هذا التخلف فضلا عن التحذير من وضع اﻷتربة والرمال على السكة الحديد لعبور السيارات والتي اسفرت عن إنقلاب بعض القاطرات على طريق (أم قصر ) وإصابة العديد من الركاب بجروح مختلفة ، الكتابة على الجدران الخاصة والعامة ، قلب حاويات القمامة وسط الشارع ، السباحة في البرك والمستنقعات اﻵسنة ،التصفيق والصفير بصوت عال ، استخدام اﻷلفاظ الفاحشة وترديد العبارات النابية والخادشة للحياء من دون مراعاة لمشاعر المارة والمتبضعين ومعظمهم من النساء واﻷطفال ، التدخين بعمر مبكر وربما الخمور بأنواعها أيضا وغيرها الكثير كلها وفي بعض المناطق كانت تعد من معايير الشجاعة ومقاييس الخشونة في العرف الفاسد مايؤشر الى غياب التوجيه السديد والتربية الدينية القويمة ، صحيح ان بعض تلك المفاهيم والعادات قد تراجعت نسبيا ، اﻻ إن مفاهيم جديدة أشد منها خطرا وأبعد أثرا قد حلت محلها في العقل الجمعي الشاطح الناطح ولعل من أخطرها أن بحثك وتحريك الدائم عن الحلال والحرام أثناء توليك المنصب – أي منصب- مهما كبر أو صغر يعني أنك – زووووج – ، إمتناعك عن إستخدام أقلام وأوراق وأحبار وكابسات وثاقبات وفايلات الدائرة خارجها في المنزل أو غيره يعني أنك – صااااااايررررر وطني – وكأن الوطنية سبة يعاب الساعون اليها والحريصون عليها ، وكأن الحفاظ على المال العام بمثابة تأييد للنظام السياسي الحاكم ، وكأن سرقة ممتلكات الدولة وتجييرها للمنافع الشخصية تعني معارضة نظامها السياسي والثورة ضده وضد أحزابه الفاسدة ، إمتناعك عن دفع الرشوة ودهن السير لموظف مرتش خسيس لتمشية معاملة تخصك تعني أنك – مغفل – لم تفهم واقع العراق بعد، رفضك القاطع بالحصول على قرض ربوي من البنك يعني أنك – متزمت دينيا – ، إمتناعك عن إحتساء الخمور أو تدخين النارجيلة في سهرة عمل – يعني أنك انطوائي – ، غض بصرك عن زميلاتك في العمل وجاراتك في المنطقة يعني أنك – معقد – ، محاولتك الإصلاح بين زوجين متخاصمين لحمايتهما من الطلاق وعدد حالاته وصلت الى 10 حالات كل ساعة في العراق ، يعني انك تتدخل فيما لايعنيك ” وياداخل بين البصلة وقشرتها ماينوبك إلا ريحتها ” ، توسطك لجمع رأسين بالحلال يعني – هاي شنو ، صاير خاطبة وما ندري ؟ !- ، إمتناعك عن قراءة اﻷبراج والحظ والطالع والتصديق بها يعني أنك – منغلق – ، حمل الشمسية صيفا للوقاية من ضربة الشمس وشتاء لإتقاء المطر ولبس القبعة أو الكاسكيت يعني – صاير نزاكة – ، إبتعادك عن مجالس الغيبة والنميمة ، وجلسات القيل والقال وإضاعة المال وكثرة التساؤل والفضول والسؤال يعني انك – إنعزالي – ، مساعدتك لزوجتك في غسل الصحون وأعمال المطبخ والمنزل يعني أنها باتت تسيطر عليك ، وأنت – صاير كمش – ،استخدامك للدراجة الهوائية في تنقلاتك يعني – بطران – ، حرصك على المشي والهرولة الصباحية والتمارين السويدية يعني – صاير اووووربي !، عودتك الى مقاعد الدراسة لتحصيل علم لم تتعلمه من قبل وتتوق لذلك كالعلوم السياسية والقانون واللغات مثلا يعني – بعد ماشاب ودوه الكتاب – ، ذهابك الى العمرة يعني – أنك جاحد لحقوق الفقراء والمساكين والنازحين والمهجرين ﻷن الإنفاق عليهم أفضل – ، عدم ذهابك الى مجلس عزاء لمتوفى عبارة عن قهوة وتدخين وتعارف ولقاء بين اﻷصدقاء ﻻ أكثر – يعني أنك كاره للميت وربما أحد المتسببين بوفاته – ، سلامك على من عرفت ومن لم تعرف يعني – انك لوكي – ، تبسمك بوجه الناس في اﻷسواق واﻷماكن العامة والتواضع لهم والتبسم بوجوههم يعني – هذا شبي .. مخبل؟ – ، دفع حساب زميلة لك في العمل أو جارة لك في المنطقة داخل وسائط النقل العامة يعني – انك متحرش جنسي -، مجيئك الى موعد بوقته المتفق عليه مسبقا بالدقائق والثواني يعني – شدعوة عمي … صاير انكليزي؟! – ..مطالبتك بدين بذمة شخص بموعده المقرر يعني – صاير شايلوك اليهودي – ، وغيرها العشرات بل قل المئات وكلها تؤشر الى أن بوصلة الثقافة والتثقيف المجتمعي والديني الحق قد شطت عن طريق الصواب بعيدا جدا وﻻبد من العودة سريعا الى التثقيف الجمعي عبر الوسائل المتاحة كافة بدءا من اﻷسرة مرورا بالمدرسة والجامعة والعشيرة والجامع والدائرة وإنتهاء بالشارع وبغير هذا التثقيف المتواصل سيظل العراقيون يكتبون على حيطان منازلهم باﻷسود ( هذا منزل واللي يذب الزبل هنا كلب بن 16 كلب ) ، فيما يكتب آخرون و لتلافي التبول وقوفا في كل مكان وزمان وعلى جميع الجدران بما في ذلك المدرسة المستنصرية وقد رأيت سكرانا بأم عيني ولم يخبرن أحد يفعل ذلك بينما كان أحد الصحفيين اﻷجانب يلتقط صورا للمدرسة اﻵثارية العريقة من جميع الجهات بكل جد ومثابرة لنشرها في بلاده وصحيفته ( هنا البول للحمير ) . اودعناكم اغاتي