مقدمة
من المعلوم ان الإنسان بطبيعته يتدرج سلالم العلم والثقافة في مراحل حياته بالدراسة لمجموعة من العلوم الأساسية , ثم يذهب الى احد فروع هذه العلوم لدراسته اكاديميآ وبشكل اعمق ليتخذ من تجارب ذلك العلم مهنة له في الحياة . ومن الشائع ايضآ ان الإنسان الضعيف من الناحية البدنية , يلجأ احيانآ الى الرياضة بشكل عام ليتخلص من ضعفه ثم يكتشف في نفسه أحيانآ اخرى ميلآ الى نوع او نوعين منها فيبدأ بتطوير جسمه بالتمرّن عليهما بطرق منهجية حتى يصل الى مبتغاه ,
اما الإنسان الكسول ففي كلا الحالتين لايلجأ الى الطرق المناسبة ليجعل من كيانه كيانآ فاعلآ بين الناس . وبالطبع ان الظروف احيانآ لها الأثر الكبير على تطور الإنسان بشكل عام , فالحياة قبل التطور التكنولوجي الذي نمارسه الآن مقارنة بالتطور قبل خمسين سنة مضت لم تكن قادرة على صنع الإنسان بشكل ملفت مالم يمتلك موهبة عقليه , كما كان الحال مع الكثير من العلماء الذين تركوا لنا رصيدآ كبيرآ من الدراسات والكتب العلمية والثقافية وهم في ريعان الشباب .
والكسول ثقافيآ , كالكسول مهنيآ , فالأول تراه منغلقآ على نفسه وإن حقق في الواقع درجة معينة من التعليم ولكن ليست بالدرجة التي دأب بها احد على دراسة التيارات الثقافية المتعددة , وحصد مخزونآ معرفيآ واسعآ استطاع به ان يقرأ الأحداث من الخارج والداخل وفرز مخاطرها وتهديداتها المتعلقة ببيئته او ببنية مجتمعه الأخلاقية ,
وفي مقابل ذلك ستتميز شخصيته بين الأوساط الثقافية وينظر اليها كظاهرة ثقافية يمكن ان يحتاجها حتى القائد السياسي , مثلآ , في تجربته السياسية للوقوف امام الفكر السفسطائي التدميري الذي تقوده امريكا, وخاصة عندما يرفدها بأعضاء آخرين من اختصاصات علمية اخرى تتوائم مع روح ورؤى المصلحة العليا للبلاد .
اما الثاني وهو الكسول المنغلق مهنيآ , ونموذجه الأصلي هو الإنسان الذي ينشأ على يد ابيه المهني صانعآ بمهنة واحدة يرثها عنه , ولا يغيرها وإن تدرّج بالدراسة الى مستويات متوسطة , إذ في الغالب ان مثل هؤلاء لايحصلون على شهادة اكمال المتوسطة او الإعدادية بسبب اعباء الحياة , وهناك بالطبع استثناء للمواهب ايضآ .
وعند تسلل هذين النموذجين في عالم السياسة كما حدث في الوسط السياسي قبل السقوط بعناصر ذات وجوه معروفة تقدر بالعشرات , وبإطار سياسي صارم تسلقته مسحة من العُبوس وسمات الملوكية فحسب , أما الجوهر فقد تجسّم باللهو واللعب واستمر حتى نهاية النظام على أيديهم لأنهم كانوا يؤمنون بأن دماء الأقرباء فوق العلم والمعرفة واستحقاق المنصب , فلم يقدموا بكل مايمتلكونه شيئآ للوطن غير الخراب بالحروب وثلم المساحات الواسعة منه وضياع الثروات , اما الشعب فقد تركوا له البكاء على القبور .
وبدلآ من ان تُستنبط التجارب من الماضي ويشيَّد نظام سياسي اشد صلابة من الماضي , تم إقحام اشكال اخرى من النماذج نفسها في بداية مشوار الواقع السياسي الجديد بعد السقوط بفعل التغيّر الذي جرى على اقدارهم وكأن التأريخ يعيد نفسه ثانية , مستغلين الظروف الغنية بالضبابية وبدرجات الغفلة التي مر بها العراق , فضلآ عن صلاتهم الوثيقة بالتركيبة السياسية والحزبية , كالقرابة والمصاهرة مثلآ او الصداقة والزمالة منذ ايام الصبا ,
وهؤلاء نصيبهم من الوعي السياسي كان محدودآ بالرؤية السياسية إن لم يكن معدومآ , إذ عندما يتبوأ احدهم منصب النائب في البرلمان مثلآ , لا يرى منه اي نشاط في جانب التحليل لأي موقف سياسي , بل يتوارى شكلآ ومضمونآ بسبب تلك المحدودية حتى انتهاء الحقبة البرلمانية , ويكون البرلمان قد خسر صوتآ وهمزة وصل بينه وبين الحقيقة التي يحتاجها العراق في الظروف الحالكة .
اما نماذج الذين تجسّموا بأسم أصحاب سرقة القرن فهؤلاء حقآ كانوا يؤمنون بان الحياة لهو ولعب , فلم يقدموا للبلاد سوى السمعة السيئة , وهناك آخرين على شاكلتهم باعوا قطعآ مبهجة من جمال العراق الى بشر مهوس بالدناءة والخسة وباعوا معها اجسامهم الدنيئة ومازالوا بالخفاء , وهكذا دواليك عمل كل الأجسام الهجينة التي ترتفع في سماء السياسة بالعالم .
لذلك اطلق على هؤلاء من حيث الواقع السياسي بـ ” السياسي المدمج ” , أي المدمج مع طبقات السياسيين مثلما يدمج الممثل البديل في بعض المشاهد من أي فلم من دون روح او اصالة كالتي يتمتع بها البطل الرئيسي فيه . إذن مثل هذا السياسي المدمج لايتمتع بالعقلية السياسية العميقة القادرة على تحليل اسباب الصدمات الإقتصادية او السياسية وإيجاد الحلول المناسبة لها في حال وقوعها, بل لايؤتمن ليكون عضوآ بأي مفاوضات وربما يكون مضللآ للحقائق أو يتعمد اخفاء ادلة لها علاقة بموضوعة المفاوضات .. الخ
العقلية السطحية
وإذا قارنا صدى المفاهيم اعلاه بصدى السياسيين في العراق او الوطن العربي , فإننا حتمآ سنكتشف ان لدينا سياسيين بدرجات اكاديمية متميزة وآخرين كذلك بدرجات اكاديمية ولكن غير متميزة بسبب الكسل عن التعمق بالأختصاص العلمي من خلال البحوث والزمالات الدراسية العملية والحضور الشخصي لكي ينمو لديه الوعي العلمي التحليلي على خطى , مثلآ , الطبيب اللبناني مايكل الياس دبيكي الذي يعتبر مفخرة للبنانيين ولمهنة الطب في العالم .
ففي التجارب المستنبطة من الحقل السياسي , هناك فلسفة تدميرية تقول ان الحقيقة على الأرض لابد ان تقرر قيام حقيقة اخرى معاكسة لها , عندما توظف عوامل معينة لإنتاج تلك الحقيقة , ففي عملية استهداف الإدارة الأمريكية لدولة العراق بتهمة انها احد اضلاع محور الشر بسبب سياسة النظام السابق , مختلقة في ذلك سلسلة من الحجج والإدعاءات الكاذبة والمضللة ,
ماهي إلا مثال على دور العقلية السياسية المضللة التي اتبعتها امريكا في اثبات صحة المقولة السابقة , إذ بها يسهل السيطرة على الشعوب من خلال العوامل التي تمتلكها وهي ; أولآ , ان حقيقة السياسة الخارجية والداخلية للإدارة كانت ومازالت ترتكز على السفسطائية , التي ترى في جوهرها ان الحقيقة على الأرض ليست ثابتة على الدوام ,
ولكي تكتسب التهمة عناصر اقناع للشعب الامريكي , فقد اضافت الى محتواها فضلآ عن مبالغتها بقدرات العراق العسكرية الكبيرة الخاصة بامتلاكه لأسلحة الدمار الشامل , مبالغة اخرى وهي ان العراق يمد يد العون الى قوى الإرهاب في العالم متمثلة بتنظيم القاعدة , وهناك حجج اخرى كثيرة , ثم قامت بالحشود العسكرية على العراق مثلما فعل الصليبيون في حملتهم على الأراضي المقدسة في فلسطين بدواعي دينية مزيفة , إذ ان التأريخ يتضمن تجارب اصلية مماثلة لاتنقطع بالصلة مع تجارب الحاضر وإن كانت مبتذلة .
وقد فشلت الأسرة الدولية الممثلة في مجلس الأمن في حينها على إتخاذ قرار ملزم ولو بحد أدنى لتجنب اعلان الإنذار بالحرب من قبل الرئيس بوش الأبن , بل ان الجميع تجاوزوا عن اعطاء حق الحياة للشعب العراقي مما اعطى تفسيرآ ان ظاهر الأسرة الدولية يتناقض بجوهرها الخاضع لفردية القرار الأمريكي , وهكذا اعلنت الحرب لتنهار الدولة العراقية من الأساس في 2003 ,
ثانيآ , تفعيل افكار لعلماء في علم النفس مثل الأسكتلندي المولد دونالد ايون كاميرون Donald EwinCameron والعالم في الإقتصاد الأمريكي ملتون فريدمان Milton Friedman , لكون الفلسفة السفسطائية الأمريكية ومن خلال التجارب السياسية الماضية , ترتبط بالأساس مع افكار هؤلاء العلماء ارتباطآ جدليآ في تأسيس عالم يكون فيه الإنسان بكل مايملك على الأرض عبدآ للولايات المتحدة الأمريكية ,
وعلى هذا الأساس تم توظيف افكار العلماء والفلاسفة السابقين والمعاصرين من كل حدب وصوب لخدمة صناعة وجود جديد يلغي الوجود الحالي المبني على وجهات النظر الفطرية للإنسان بغض النظر عن أضرار الوسائل المتبعة في صناعة الضائقة الإقتصادية والحصار والمؤامرات والإغتيالات وصناعة الحرب بالنيابة كما تطبق الآن على ايران واوكرانيا والعراق وسوريا وفنزويلا وكوبا , فضلآ عن دور السي آي أيه في تمجيد وتجنيد داعش والنصرة الإرهابيين لخدمة ذلك الوجود الموعود الذي يخول امريكا بالسيادة على العالم .
ثالثآ , اختلاف الرؤى في العقلية السياسية للنظام البائد بالمقارنة مع تلك الفلسفة الواسعة بالرؤى المضللة , والمدعومة من مراكز فكرية مختصة بتقديم الإستشارات والبحوث السياسية للإدارة الأمريكية , وهي بحد ذاتها تتراوح بين ستة عشر الى عشرين مركز , ابرزها معهد كارنيغي Carnegie Institution ومعهد بروكينغز Brookings Institution المرتبط بالحزب الديمقراطي و مركز الكونغرس للخدمات البحثية Congress center for research ومؤسسة راند RAND Corporation .
وهذه المعاهد والمراكز لاتعمل بنزاهة ولا بتجرّد لأن مهمتها الأساسية هي دعم امريكا بالافكار التي تتيح تسلطها على الشعوب ومنع قادتها من اتباع مناهج سياسية تعتمد على التقنية الحديثة لبلوغ هدفها .
ومثل هذا الإختلاف ينطبق بشكل عام على العقلية السياسة العربية بالقياس مع مواقفها من القضية الفلسطينية , فضلآ عن إتساع الفجوة التي احدثتها بين الطبقة الحاكمة في العراق حينئذ وبين طبقات الشعب المختلفة وخاصة الأغلبية الشيعية منها من جراء حكم الطبقة المستبد .
ولو بحثنا وكتبنا عن اخطاء وحكايات وحروب تلك الطبقة السياسية الحاكمة للنظام السابق وعن الطرائف التي كانت تؤلف بحقهم من قبل الشعب وفقآ للثنائية المتناقضة ( المضحك المبكي ) , بسبب القرف الذي تشكل بالنفسية العراقية لإحتجنا الى البحر مدادآ لذلك .
والجميع يتذكر ليلة بدأ سريان الإنذار الأمريكي على العراق , عندما عرض التلفزيون العراقي الأوحد عن اجتماع حضره رئيس النظام ومعه اثنان من نتاج الرحم السياسي الذي ولد منه , لمناقشة الإنذار ( الخسيس ) كما وصفه البيان الحكومي بغطرسته المعروفة في تلك الليلة ,
وكيف تسائل المواطن العراقي ومعه العالم بدهشة عن القناعة التي توفرت لدى تلك الطبقة الحاكمة لجعل اثنان ممن اكتسبوا رتبآ عسكرية بغير استحقاق , وثالث مدني لم يراه أو يسمعه احد من الشعب وهو يتكلم أمامهم طيلة فترة حكم النظام لكي يعطي عن نفسه صورة ثقافية , ان يجدوا حلولآ تحمي البلاد من عنجهية ووحشية امريكا ؟
وهؤلاء الثلاثة كانوا بمثابة الإدارة التي بيدها تقرير مصير شعب بأكمله على وشك ان يقع بين فكي هذه الدولة الصهيونية بالجوهر والعدوة للعرب من ناحية ,
ويمثلون حالة القلق نيابة عن الدولة والشعب من ناحية اخرى , وهم بالحقيقة وبكل المعايير السياسية والمقاييس الأخلاقية التي رآها الشعب منهم طيلة فترة حكمهم , كانوا حفنة من اشخاص استفادوا من اقدار اقرباء لهم بأنظمة الحكم السابقة فتحولت اليهم ليتسللوا عن طريق السياسة والمغامرة ليكونوا رموزا لذلك النظام من دون رغبة الشعب بهم , ثم انتهى بهم فور الإصطدام بالواقع السياسي الأمريكي المدجج بالرؤى ذات الأعذار المضللة الى مصيرهم المحتوم ,
وانتهى معهم العراق الى دولة فاشلة بلا مقومات عسكرية كأولوية رئيسية وبلا قوى سياسية مؤهلة لقيادة البلد كأولوية ثانوية من شأنها ان تلعب دورآ مؤثرآ في سياسته الداخلية او منافسآ نزيهآ في سياسة دول المنطقة , إضافة الى خضوع البلاد بالكامل للإرادة الأمريكية والتدخلات الخارجية وتحوّله الى مسرح للصراعات المتعددة.
بهذه العقلية المدمرة ومعها استهجان الشعب كانت تجري مفاوضات رموز النظام مع الأمريكان الذين خططوا على الغاء حقبة حكمهم منذ خيمة صفوان ولغاية السقوط , كأنهم في تلك المفاوضات نسخة طبق الأصل عن الفلسطينيين في مفاوضاتهم السابقة والحالية مع الكيان الصهيوني المتبرّم والمدعوم من امريكا .
تلك المفاوضات السياسية التي حوّلت الكيان الجبان الى كيان مستهتر وغيّرت كل اساليبه السابقة والتقليدية في تعاملاته مع الشعب الفلسطيني وخاصة في سياسة قضم الأرض والتهجير والترحيل وهدم البيوت والبقاء على رفاة الشهداء لديهم لغرض إعداد الشعب الفلسطيني من الناحية النفسية ليتقبّل واقع الحال الذي سيصبح مملآ وتكون المطالبة بفكرة حلى الدولتين بلا مبرر رغم الترويج الكاذب لها من قبل الأمريكان الذين لا يتعاطفون معها , بل هم من وراء تشجيع الصهاينة على تلك الأساليب .
والخاصية التي تميّزت بها المفاوضات السياسة الفلسطينية في مرحلة تحول الكيان من جبان الى مستهتر هي في نمط العقلية السياسية الكسولة والسطحية كونها فارغة من الإستراتيجية العميقة التي توسّع دائرة اهتمام الأسرة الدولية بالقضية الفلسطينة ومعهم دعاة التطبيع قبل التوقيع ,
وعديمة الجدوى في ظاهرها وجوهرها من ناحية الوعي الخلاق الذي يصنع نسلآ جديدآ برؤى سياسية مغايرة , تضع نهاية لإستراتيجية المطاردة والإغتيال وهدم المنازل ومصادرة الأراضي التي تبناها العدو الصهيوني .
والفلسطينيون لم يبتكروا لحد الآن نهجآ سياسيآ مرموقآ خارج نطاق السياسة القديمة , فكم انذروا الصهاينة بأن لايتجاوزوا الخطوط الحمر , وكم طلبوا من الأمم المتحدة قواتآ اممية لحماية الشعب الفلسطيني على لسان السيد محمود عباس والسيد محمد شتيه .. وكم انذروا الصهاينة بالكف عن الأغتيالات .. الخ
ولكن ذلك لم يكن مؤثرآ لا بالعالم ولا بهيئة الأمم المتحدة ولا بالصهاينة في تغيير سلوكهم أوتقهر جانبآ واحدآ من عنصريتهم في سياسة العدوان اليومي على شعبنا هناك , تلك السياسة التي يبغون بها بلوغ هدفهم النهائي وهو تطهير الأرض والإستيلاء عليها خالية من الفلسطينيين .
لذلك نرى الصهاينة قد ادركوا بالتجارب ان القادة الفلسطينيين مهما تقدموا ومعهم العرب بالقوة العسكرية , فهم مازالوا معتقلين في قحف العقلية السياسية السطحية الجاهزة بالمصطلحات الساذجة والموروثة التي لم تنجح في فلسطين الى الآن ان تضع حدآ , على الأقل , للعملاء المتعاونين مع الصهاينة الذين يتحملون وحدهم مسؤولية اغتيال القادة لأنهم ورثوا وتبنوا السوء وتكيّفوا معه بسبب ما رأوه من اخرين لهم مصالح وانحياز كبير وخضوع للصهاينة .
وهؤلاء العملاء قد تأقلموا على واقع مابعد 1967 الفاسد , إذ ان القوى السياسية التي لاتلقي بظلال تأثيرها المعرفي والأخلاقي على الشعب , ولم تبذل اي جهد في تغييّر انماط تفكيره قيد انملة لينعكس على هؤلاء في تعميق الوطنية وحب الوطن وكشف عدوانية الصهاينة وهيمنتهم على المدى البعيد وحتمية الطرد الذي ينتظرهم , فمن اذن يقوم بهذا الدور نيابة عنهم ليعيد الفرح والسرور الذي احرقته النكبة منذ 1948 وكيف يتم ذلك إذا لم يتوفر الوعي لديهم , بل والرغبة في ذلك ؟
مما زاد في بقاء العقلية السياسية الفلسطينية في ذلك القحف القديم , لاشك , هو الموقف الإنهزامي لدول التطبيع التي ورثت بدورها العقلية السياسية الكسولة والقديمة وصدّقت كذبة الصهاينة في عدم ضم الضفة الغربية وشرعت بالهجوم على القيادة الفلسطينية بحجة انها لم تحقق شيئآ طيلة العقود الماضية , بل وزادوا في اتهامهم بالأنقسامات الداخلية التي تحضّ على التخلي عنهم , لذلك خضعوا لإرادة الرئيس المتهوّر ترامب وانقادوا لدواعي اقتصادية وعسكرية وجدوها بالتطبيع انها ستجعل حياتهم افضل .
فهؤلاء الجهلة تعاملوا مع الفلسطينيين معاملة من يجلس على قبر ويشرح للميت كم هو نادم على إطعامه زمنآ طويلآ على حساب تلك الدواعي . بهذه العقلية التي ورثها اصحاب التطبيع , حكموا على انفسهم بالموت أولآ , وحكموا على همم الفلسطينيين بالإحباط ثانيآ , وهذا من ناحية اخرى اقصى مايمكن ان يصنعه الصهاينة في عملية التطبيع للإستمرار بسياسة افراغ الأرض من الفلسطينيين .
بهذه العقلية الراسخة عند عرب السياسة , تمكنت امريكا والكيان الغاصب من زعزعة دورهم الوطني في مقاومة الإحتلال , بل وفي حماية بلدانهم وثرواتهم , ناهيك عن صناعة البرامج الثقافية والتجسسية وتشجيع المثلية والإباحية التي تبنتها مواقعهم على الانترنت لغرض تقويض الإيمان في قلوب ماتبقى من المؤمنين العرب والأحرار بالدرجة الأولى بعد هيمنتها على البغاة في اوربا العنصرية والمروّجين للسياسة الأمريكية في الخفاء والعلن .
وفي العراق بعد السقوط الذي تم التخطيط له بتوظيف فكرة الصدمة التي جاء بها العالم دونالد كاميرون , والصدمة هي مفهوم سياسي يتم فيها الغاء صفحة تأريخية من حياة الإنسان او الشعوب بخلق ازمات سياسية متلاحقة لإعدادها فيما بعد للقبول بمقترحات تقدمها او تفرضها الإدارة الأمريكية لإصلاح النظام ,
وهكذا الغت امريكا بالحرب حقبة تأريخية من الحياة السياسية في العراق وفتحت صفحة اخرى كتبت بها ما تشاء . وهكذا فعلت بالشعوب كاليابان والمانيا وتشيلي إضافة الى العراق .
لكن الإدارة لم تتوقف عن نهجها العدواني في زعزعة نظامه السياسي المؤلف من بعض ادواتها المختصة بالعنف والسرقة والتدمير , ورغم الجدل عن صعوبة الوصول به الى تحقيق طموحات الشعب , فقد ثبت بعد وقت طويل انه بعد السقوط كان يسير بأول خطواته على طريق التدمير .
ولكي يستتب النظام السياسي , اقترحت الإدارة الأمريكية الى منح جولات التراخيص للتنقيب عن النفط الى الشركات الأجنبية الأمريكية والبريطانية , وآخرها انشاء انبوب النفط الممتد من البصرة الى العقبة
الذي توقف بسبب معارضة اعضاء من البرلمان لإنشائه , ولكن تم تفعيل المشروع بعد ان خلقت الأدارة الأمريكة الصدمة الإقتصادية التي عكّرت صفو الحياة الإجتماعية وحركة الأسواق من خلال ارتفاع سعر الصرف للدولارفي مقابل الدينار العراقي إذ بلغ اعلى سعر هو 1700 دينار لكل دولار واحد ,
وفي هذه العملية تكون الإدارة الأمريكية قد استلهمت فكرة الصدمة الإقتصادية من افكار عالم الإقتصاد ملتون فريدمان الخاصة بإخضاع اقتصادات الدول بعد غزوها تحت سيطرة الحكومة الأمريكية , وهكذا سارت الأمور وتغيّر سعر الصرف الى 1300 مقابل دولار واحد , مع ان السبب في تدهور سعر الصرف بحسب رأي الخبراء هو زيارة السيد رئيس الحكومة الى المانيا حول عقود الكهرباء مع شركة سيمنز التي اثارت غضب الأمريكان .
اما الأسرار التي اختبأت وراء الحاضر الخادع , فمن المؤكد انها ستجتمع مع اسرار الحكومات السابقة ليكشف عنها بالمستقبل حينما تتوفر عبقرية سياسية تغيّر كل الحقائق الجديدة التي فرضتها امريكا وخاصة في جانب وجودها العسكري وفي التراخيص النفطية وانبوب البصرة – العقبة .
ففي هذه التراخيص التي لم تخضع للدراسة سواء عمليآ من ناحية الجدوى الإقتصادية على المدى البعيد ولا من الناحية الأخلاقية , يتكبد العراق سنويآ بحوالي عشرين ترليون دينار عراقي حسب تقدير خبراء النفط , ولم تتخذ الحكومات المتتابعة ولحد الآن أي اجراء يعيد للعراق السيطرة على ثرواته النفطية كما كانت قبل السقوط .
فعلى الرغم من الخسائر الفادحة التي لم تكتف بها امريكا وبريطانيا , بل ذهب نشاطهما الى نشاط تجسسي وخاصة عند البعض من الشركات الأجنبية العاملة في شمال العراق التي اعلن عنها في الصحف انها تعمل لصالح الموساد الصهيوني مستغلين الدرجة العالية من الحرية والإستقلال السياسي الذي يتمتع به الإقليم في الإدارة عن باقي محافظات البلاد .
بهذه الغفلة عن دراسة التراخيص والعجالة في ابرام العقود النفطية , تم الى حد بعيد وبعجالة ايضآ على التصويت على الخطأ الأول وهو كتابة الدستور الذي شارك في كتابته شخصيات من العملية السياسية نفسها وشخصيات اخرى ربما واقعية او متخيّلة , ولكن لم يكشف عنها لحد الآن ,
وصوّت عليه جميع افراد الشعب رغم ان البعض من فقراته خضعت لتلاعب المتلاعبين ليرتفع سقف المشاكل السياسية بعد التصويت كما حدثت مرارآ , أما إذا ارتفعت معها اصوات العقلاء في تفكيك او تعديل تلك الفقرات كما وعدوا الشعب , ليستوعبها العقل القانوني الصارم في بناء الدولة العراقية بعيدآ عن التنازلات , عندئذ سيكون العراق قد تهدم نصفه ليبقى نصفه الثاني الى حين .
كان بريمر بلاشك واحدآ من السفسطائيين الأمريكان شأنه في ذلك شأن العديد من السياسيين الأمريكان السابقين , فقد تدرب على يد عرّاب السياسة الخارجية هنري كيسنجر ردحآ من الزمن عندما كان يشغل منصب كبير مستشاريه ,
وعمل مع خمسة وزراء خارجية آخرين بصفة مساعد تنفيذي ومساعد خاص , وفي عهد الرئيس رونالد ريغان تم تعيينه سفيرآ لأمريكا في هولندا عام 1983 , وفي عام 1986 تم تعيينه سفيرآ لشؤون مكافحة الإرهاب .
وبالتجارب المستنبطة من هذه المهام , فضلآ عن إرث العمل الذي ارتكز لفترة طويلة على مبدأ السفسطائية , تم تعيينه من قبل الرئيس بوش الأبن رئيسآ للإدارة الأمريكية بالعراق بعد سقوط النظام البائد عام 2003 , لأن طريقة تفكيره العقلية تشكل خطآ موازيآ لعقلية سياسي الإدارة الأمريكية .
ومع مرور الأيام اكتشف بريمر المحتوى السياسي وآلية التفكير للمجموعة السياسية القريبة من مكتبه والتي اسماها بـ ” المنفيين ” انها بالجوهر تصب في تحقيق الطموح الشخصي فحسب , اي من غير رؤية سياسية مبدعة أو حتى إعتراضية للقرارات التي اصدرها والتي حملت في طياتها تساؤلات ينبغي ان تتم بين تلك المجموعة عن مستقبل العراق من ناحية الوجود او العدم , لكنه لم يكشف عن سرقة المليارات التي اختفت ومعها سبائك الذهب وخزائن البنك المركزي المخبأة فيه منذ عهود .
ولم يتم التساؤل , ولم يعترضوا أو نقروا بأصابعهم أو دخلوا باب مكتبه بصرامة الغراب الذي اشغل الشاعر الان بو , ليسألونه عن الفوضى التي صنعتها قراراته وعواقبها التي جثمت على صدر الشعب والبلاد من بعد , عسى ان يلمح بإعتراضهم عينآ حمراء واحدة لأحدهم ليرتد , ولكن لم يتم لهم ذلك وبقيت الإجابات مغلقة الى الآن .
وعندما اصبح بريمر راويآ في كتابه الذي اصدره تحت عنوان ” عامي في العراق ” , فقد المح من خلال الصور التي اعطاها عنهم الى ذلك بشكل خفي من انهم بآلية فكرية واحدة لاتعمل على إيصال صوت الوطن والشعب الى المحتل , وهذه لها اسباب اخرى كثيرة توضحت فيما بعد , من بينها ليس الجميع كانوا بين السطور ببراعة الميت بالقبر أو الأعمى في صمت الظلمة , ففي تطور الأحداث انكشف العميل والميت والحي والحالم والسائر في نومه .
الخاتمة
اذن كل انسان مهمته ان يسعى الى الثقافة التي تحصّنه والى المهنة التي تحفظ له كرامته , لأن العقل البشري يرتبط , دومآ , بالقيم الإنسانية وبالتقنية التي تحمي بلاده وحريته , وان الدراسة هي بمثابة الحبل المتين والحائط الذي يقف ضد الأفكار التي تقوّض مصيره ووجوده , وهي المهمة التي تحفظ له وجوده , وهذه المهمة ذاتها من سمات القائد السياسي الذي يتخذ من خزين دراسته وتجاربه العميقة بوصلة يكشف بها مخططات الأعداء وطرقه الملتوية ليتخذ المواقف الصحيحة التي تفشلها .
والسياسي المتميّز بالعين والعقل هو الذي يفكر بطريقة نزيهة واخلاقية ليغدوا مثل من يؤمن بهم من الأعلام في تراثه الأدبي والأخلاقي , والشعب لايرتبط بأفكاره ولا يسلك سلوكه ولايحمل الطمأنينه به إلا عندما يراه بهذا السعي والإتجاه والخضوع الموضوعي للعقل والحكمة واستشارة الشرفاء من العقلاء الذين سبقوه بالتجربة وعدم الإنغلاق في ذاته ليحقق غرائزها الطبيعية التي لاتصنع إلا واقعآ مبتذلآ وتافه .
وامريكا لاتهدأ حين ترى علامات التطور تلوح في صفحات السياسة العراقية او العربية بشكل خاص , لأنها تعوّدت على رؤية سمات التخلف وملامح الضعف التي تشير الى عقلية القادة السياسيين الموروثة جراء الكسل او المرتكزة على عقلية سطحية معاصرة , والتي تُطمئن امريكا من ان القادة العراقيين أوالعرب مازالوا فاقدين لطاقة التغيير التي بفقدانها تحقق لها الهيمنة , لذلك فإن امريكا تحركت وحرّكت معها كل عملائها بالمنطقة عندما شرع العراق ببناء ميناء الفاو,
وتحركت ايضآ لرؤيتها حجم الفساد الذي تمثّل بسرقة القرن التي دلّت على ضعف الإدارة السياسية وإن كانت في حقبة السيد الكاظمي , فالأمر لايتعلق بحكومة دون الأخرى , لأن امريكا ,بالطبع , لاتعمل وفق الآية الكريمة ” ولا تزر وازرة وزر اخرى ” لأنها لاتؤمن اصلآ بالحقائق التأريخية للشعوب , بل تؤمن بالعيوب التي تصنعها سياستها العنصرية التي دأبت على صنعها لإلغاء الحقائق وإن كانت حقائق دينية .
وما ازمة الدولار إلا درسآ للسياسيين وللخبراء الأقتصاديين , على الرغم من ان قوى الشر والتدمير مازالت طليقة لاتؤمن بالتسليم لخيار الدولة , ومن المؤسف انه مازال يعبث من جراء اساليب اهل الأسواق في استهداف واضح لآلية البنك المركزي العراقي وإدارة الدولة .
وفي اطار هذا الوصف المسهب والعام , يستنبط القاريء الحصيف ان اشراك مثل هذه النماذج بالسياسة التي تمثل كيان اي دولة يعد إشارة مضمرة الى ان الدولة تسير الى التدمير على ايدي رجالها , إذ هكذا تستغل امريكا الشعوب فتلغي حقائق تأريخها لتخضعها لمثل هؤلاء للتدمير, أوهكذا تدمر سيادة البلدان , وهكذا تطهّر الصهيونية شعبنا في فلسطين عندما تتمتع العقلية السياسية هناك بالسطحية وتكون رؤوس اصحابها هي التي ترتكز عليها إدارة الدولة .