لا يكاد يخلو مذهب من المذاهب الإسلامية بأجمعها من مشكلة توجيه الروايات والأحاديث المنقولة في مصادر التشريع الروائية التي ترافق القرآن الكريم من ناحية سن القوانين والتعاليم الدينية وبيان تكليف الفرد اتجاه معتقده ودينه وتعامله مع الآخرين.
بل ان كل مذهب من المذاهب يحاول ان يخطئ الأخر ويغض النظر عن ما موجود في تراثه الروائي من روايات وأحاديث يصعب العمل بها أو تصديقها, وهي تبرز لنا بوضوح تعاطي المحدث والمؤرخ آنذاك وكيف ان المحدث كان لا يُعمل عقله ولا يتدبر في الرواية التي ينقلها في مدى انسجامها مع ذوق الشريعة العام وهذا الكلام يشمل جميع المذاهب الإسلامية, والذي يطلع على تلك المذاهب بصورة عامة فانه سوف لا يجد فرق في تراثا لأنها لا تخلوا من التناقض والتشويش والخلط في النقل وتضارب في المعتقدات والأحكام الشرعية مما يوهن صورة الدين ما لم تنقح وتدقق تلك الأحاديث والروايات وان تنسجم نصوصها مع المفهوم القرآني والتوجه الديني للإسلام وتحافظ على ذوق الشريعة.
وإنا هنا لا أريد الحديث عن التراث الروائي لتلك المذاهب لأنه يحتاج إلى مراجعة جملةً وتفصيلاً لما يحمل في طياته من خرافات وتناقضات كثيرة وصادمات مع النصوص القرآنية الواضحة.
وإنما أريد الحديث هنا عن خصوص محدّثين المذهب الشيعي أي المدرسة الإمامية وكيف إنها مع حرصها على مطابقة الروايات والأحاديث للمصادر الشريعة الأساسية لديها “وهي الكتاب والسنة التي تشمل قول الرسول وقول المعصوم وأفعالهما وتقريرهما” إلا إنها وقعت بنفس المشكلة التي وقعت بها المدارس والمذاهب الأخرى من ناحية الخلط والتناقض في نقل الأحكام والروايات وشملت المجاميع الحديثية لدى المدرسة الإمامية على عدد كثر من الأحكام التي لا تتفق مع معتقدات وفقه المدرسة الإمامية مما أوقعنا اليوم في حرج شديد مع المذاهب الأخرى.
فإننا بصورة عامة نستطيع القول بأنه انطلق تدوين الحديث وكتابه الروايات الصادرة عن الأئمة الأطهار في القرن الرابع للهجرة بما يُعبر عنا بالأصول الأربعمائة التي كتبها أصحاب الإمام الباقر والصادق عليها السلام وتناقلت عبر الأجيال إلى ان وصلت إلى زمن الشيخ الصدوق والمفيد والطوسي والكليني وغيرهم من أعيان الطائفة والتحقيق في المدرسة, وسار العلماء على نهجهم في تدوين الحديث وعُبر عنهم بالمحدثين لأنه عندما ينقل الحديث يقول حدثني فلان عن فلان وهكذا.
ومن أهم المصادر الحديثية لدينا اليوم هي الكتب التالية: (من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق والاستبصار والتهذيب للشيخ الطوسي والكافي للشيخ الكليني والوسائل للشيخ الحر العاملي والبحار
ومرآة العقول للشيخ المجلسي) وغيرها كثير مما قام به العلماء من جهد جهيد في جمع وترتيب وتنظيم تلك الأحاديث والروايات جزائهم الله عنا خيراً في الدنيا والآخرة على عملهم هذا.
ولكن ورغم ان هذه المجاميع الحديثية حفظت لنا الشريعة الإسلامية من الضياع والاندثار إلا إنها لا تخلوا من مشكلة التناقض في متون ومضمون الروايات, ولعل المطلع على تلك المصادر يدرك ذلك جيدا.
ولعل ابرز تلك العوام التي أدت إلى وقوع المحدّثين في مشكلة التناقض هي:
أولاً: وجود روايات المغالين في الأئمة وحبهم لهم عليهم السلام مما جعلهم يختلقون بعض الروايات في تفسير آيات أو تبيان بعض المقامات التي تتصادم مع القرآن الكريم أو العقل فقد ورد عن الإمام الرضا عليه السلام: (إنّ مخالفينا وضعوا أخباراً في فضائلنا ، وجعلوها على ثلاثة أقسام: أحدها الغلو، وثانيها التقصير في أمرنا، وثالثها التصريح بمثالب أعدائنا، فإذا سمع الناس الغلو فينا كفّروا شيعتنا ونسبوهم إلى القول بربوبيتنا، وإذا سمعوا التقصير اعتقدوه فينا، وإذا سمعوا مثالب أعدائنا بأسمائهم ثلبونا بأسمائنا، وقد قال الله عزَّ وجلَّ: (ولا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدعُونَ مِن دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدَواً بِغيرِ عِلمٍ).
ثانياً: عدم التدقيق في الرواة وأحوالهم مما ساعد في انتشار تلك الروايات الباطلة أو الكاذبة في أوساط تلك المجاميع الحديثية مما أوقعنا في مأزق مع التيارات الأخرى واتهامنا بالتحريف والغلو وغيرها من التهم.
ثالثاً: إهمال الأحكام الجزئية التي تتعلق بالرواية وطبيعة الراوي وما تضمنه جواب الإمام عليه السلام في تلك المسألة بالتفصيل بحيث لو وصلت إلينا اليوم لاستطعنا أن نميز هذه الرواية عن غيرها وما هو مرام الإمام منها وهل كانت عامة أو خاصة وهل تتغير بتغير الموضوعات أو إنها ثابة.
رابعاً: عدم توجيه الاختلاف في الروايات المتعارضة فيما بينها في ذيل كل رواية ينقلها لنا الراوي لكي لا يحدث خلاف في الفهم ونستغني عن التوجيه والتأويل لها لأنه يحتمل ان المحدث كان على علم ودراية في سبب الخلاف أو التعارض الحاصل بين هذه الروايات ولكنه تركه لشهرته آنذاك.
خامساً: وهو الأهم طبيعة المحدث آنذاك فانه كان يحاول جمع أكثر عدد ممكن أو كل ما يتعلق بذلك العلم أو الباب من الروايات والسعي للحصول عليها بشتى الوسائل والطرق دون التدقيق في متونها أو مضامينها أو سندها فنجده في الباب الواحد ينقل لنا رواية تتعارض مع التي قبلها أو انه ينقل الخبر مرسلا من دون ذكر المخبر وهكذا, وهذا الفعل ولد لنا نقاط ضعف في كثير من المعتقدات لدى المذهب الشيعي مما ساواه مع غيره من المذاهب الإسلامية الأخرى.
ولو عمل المحدث وفق القاعدة التي وضعها لنا أئمة أهل البيت عليهم السلام حيث قالوا اعرضوا كلامنا على كتاب الله فما وافق الكتاب فخذوا به وما خالفه فرموا به عرض الجدار أي العمل على عرض الحديث على القرآن والتدقيق والنظر في كيفيته وانسجامه مع القرآن ولكنهم غفلوا عن تلك القاعدة المهمة مما أوقعنا في مشكلة كبيرة, عندما تريد مراجعة الكتب العقائدية سوف تجد بان هنالك روايات خرافية لا تنسجم مع العقل أو الفطرة الإنسانية أو أنها تقول بتحريف القرآن أو ان في القرآن نقيصة أو
إنها تقول بسهو النبي أو عصيانه وغيرها, هذا من الجانب العقائدي وأما الجانب الفقهي فحدث ولا حرج فانه لا يكاد يخلو باب من أبواب الفقه من دون وجود التعارض في رواياته وأحاديثه او التعميم والتخصيص أو الإيهام والترديد مما يوقع المتتبع في حيرة من الأمر.
ولكن المشكلة تهون في مدرسة الإمامية عن غيرها من المدارس الأخرى لان المدارس الأخرى تقول بصحة كل ما موجود عندهم من التراث الإسلامي المنقول في صحيحي البخاري ومسلم ولا يفرقونهما عن القرآن الكريم.
وأما مدرسة الإمامية فإنها لا تقر بذلك وتجعل المجال مفتوحا أمام الباحثين والمحققين من العلماء لغربلة وتدقيق الأحاديث الواردة في المجاميع الحديثية كلها ولا قدسية أي كتاب.
فان ما موجود في مجاميعنا الحديثية اليوم لا يمثل لوحده المعتقدات أو الأحكام الشرعية الخاصة بمدرسة الإمامية وإنما الذي يمثل توجهات المدرسة الإمامية هو ما يجمع عليه اغلب الفقهاء اليوم ويقرون به, فان من يجد رواية معينة تتحدث عن مسألة فيها غلو أو تحريف للقرآن أو إساءة للأنبياء وغيرها فلا يحق لأحدٍ ان ينسبها إلى معتقدات المذهب الشيعي, فان في ذلك إجحاف لهم وتضييع لجهود العلماء والمحققين منهم الذين يسهرون الليل والنهار على تحقيق وتدقيق وتنقية التراث الإسلامي من تلك الشوائب والخزعبلات.