تعرضت الاوضاع الاجتماعية للنساء والفتيات الى انتهاكات خطيرة على مر العقود الاخيرة جراء الحروب العبثية التي اقدم عليها النظام السابق وتركت آثارها في ظواهر عديدة, ابرزها الترمل بفقدان الزوج وتحمل الزوجة اعباء الإعالة وتضيق فرص العيش الكريم في التربية والتنشئة الاجتماعية للفتيات وللأسرة بصورة عامة, وأشد اوضاع المرأة تراجعا ما حصل لها بعد عام 2003 بدءا من الاحتلال ومرورا بصعود التيارات والحركات والاحزاب الدينية والطائفية الى السلطة, وصولا الى عودة أثر الاعراف والتقاليد القبلية والعشائرية, وكان للحروب الداخلية وما سببته من تهجير ونزوح وتشتيت للمكونات, وتدهور الحياة الاقتصادية وتدني مستويات العيش وانتشار البطالة على نطاق واسع وفي اوساط النساء المتعلمات وفي المجتمع بصورة عامة, أثره الواضح في تصدع منظومة الاستقرار القيمي وتدهور في المعايير وانحسار لخيارات التكافئ والتكافل الاجتماعي وقد جعلت من الحياة الاجتماعية أكثر قتامة. ويكفي ان نشير هنا الى حجم الكارثة الاجتماعية عندما نتحدث عن نسبة العوانس وقد بلغت اكثر من 80%, كما بلغ عدد الارامل والمطلقات حسب احصائيات 2016 بحدود المليونين, وبلغ حجم الأيتام والارامل خمس السكان, وتصاعد نسبة السكان دون خط الفقر الى 35%, الى جانب زواج القاصرات حيث تم تسجيل 500 حالة زواج دون 18 سنة, وبعضها لا يتجاوز 11, 12 سنة في بغداد لوحدها من قبل منظمات حقوق الانسان والطفولة في العام الماضي” وهي غير مثبتة لدى الدولة “.
في ظل نظام طائفي ومذهبي محصصاتي تأسس ما بعد عام 2003 لابد ان تكون هناك تداعيات خطيرة وانعكاسات سلبية على مستوى التدخل وصياغة قانون الأحوال الشخصية, كما هي الحال في تداعيات هذا النظام سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وأمنيا وثقافيا وتربويا وصحيا وخدميا بصورة عامة, واستنادا الى ذلك جاءت محاولات النظام للعبث في قانون الاحوال الشخصية المرقم 188 لسنة 1959 وقد توجت آخر تلك المحاولات بقيام مجلس النواب بتاريخ 31ـ10ـ 2017 بالموافقة من حيث المبدأ في التصويت على مقترح قانون تعديل مشروع قانون الاحوال الشخصية.
وقد اثار ذلك غضبا شعبيا واسعا في اوساط بعض من البرلمانين والمتخصصين بهذا الشأن وكذلك في اوساط منظمات المجتمع المدني والحركات التقدمية النسائية, العراقية منها والعربية والعالمية والمنظمات الدولية ذات الصلة بحقوق الانسان, وقد اعتبر خطوة خطيرة ومحاولة لتفكيك النسيج الاجتماعي والوطني والثقافي, واللجوء الى حكم الطوائف والمذاهب في تقرير شؤون الاحوال الشخصية, من سن زواج ” مثلا للطفلة بعمر التسع سنوات وللذكور بعمر 15 سنة ” واعطى ضوء اخضر للزواجات المؤقتة, ومنع زواج المسلمات من غير المسلمين, وكذلك اجحافات اخرى في الأرث والشهادة والطلاق واعتناق الدين للمولود الجديد والحرمة من الرضاعة وغيرها من الامور ” ممكن للقارئ ان يرجع الى نصوص التعديلات ” , وجميعها محاولات تهدف الى اضعاف الدولة والقضاء العراقي في تدخله وحمايته للشؤون الاسرية والاحوال الشخصية من الانهيارات والابتزازات.
ومن الناحية البحثية الخالصة والموضوعية لايمكن القول ان قانون الاحوال الشخصية المرقم 188 لسنة 1958 جاء مخالفا للدين الاسلامي وتشريعاته كما يخطئ البعض, بل هو جاء مستفيدا منها بطريقة تضمن السلامة الاجتماعية والوحدة الوطنية وترضي جميع المكونات المذهبية للدين الاسلامي, الى جانب الخصوصيات الاخرى التي منحها القانون للديانات الاخرى كالمسيحية واليهودية, وكل ذلك يخضع للدولة والقضاء, وقد اعتبر القانون في حينها نقلة نوعية في التشريع للأحوال الشخصية وابتعادا عن التمترس الطائفي والمذهبي الذي ساد في العراق حتى نهاية الخمسينيات, وكذلك اعتبر القانون اعلاه انجازا كبيرا في محيطه الاقليمي العربي والاسلامي. وبالتأكيد للقانون عيوبه كأي ظاهرة قانونية يجب ان تخضع لاحقا للتطوير والتغير بما يستجيب للمتطلبات الحياة الاجتماعية المعاصره. ولعل اهم مبادئ القانون هي:
تحريم الزواج الحاصل بالإكراه وعد عقد الزواج الواقع باكراه باطلاً اذا لم يتم الدخول؛ تجريم النهوة العشائرية؛ تحريم الزواج خارج المحكمة واجازة طلب التفريق اذا جري الزواج خارج المحكمة وتم الدخول؛ جواز التفريق لارتكاب أي من الزوجين الخيانة الزوجية؛ جواز التفريق اذا كان عقد الزواج قد تم قبل اكمال أحد الزوجين الثامنة عشرة دون موافقة القاضي؛ اجازة للزوجة بطلب التفريق اذا تزوج الزوج بزوجة ثانية دون اذن من المحكمة؛ عد هجر الزوج لزوجته وعدم مراجعتها مدة سنتين سبباً من أسباب التفريق؛ اعتبار عدم طلب الزوج لزوجته للزفاف خلال سنتين من العقد سبباً من أسباب التفريق؛ اعتبار امتناع الزوج عن تسديد النفقات المتراكمة سبباً في طلب التفريق؛ مساواة البنت بالابن في حجبها ما يحجبه الأبن من ارث أبيها أو أمها؛ تحديد سن الزواج للجنسين ب 18 سنة.
النكسة الأشد مرارة اليوم هو ان مجلس النواب العراقي وبعد مرور على ما يقارب الستين عاما على قانون الاحوال المدنية المرقم 188 لسنة 1959 وفي ظل تغيرات دولية كبيرة على مستوى ضمان حقوق المرأة ومساواتها وحماية الطفولة ورعايتها, يأتي بمشروع تعديل قانون الاحوال الشخصية أقل قيمة اجتماعية وفلسفية وفقهية واخلاقية من القانون الأصل. أنه انتكاس للمرأة العراقية كما عبرت عنه الاوساط المعارضة له واعتبرته دعشنة لحياة المرأة العراقية وتكريس أذلالها, الى جانب ما يلحقه من اضرار نفسية وصحية واجتماعية وتربوية للطفلة العراقية بشكل خاص وللطفولة بصورة عامة.
لقد عكس مشروع تعديل القانون والتصويت المبدئي عليه العقلية الذكورية المنحدرة من ثقافة العائلة البطريركية في ظل بنية اقتصادية ـ اجتماعية متخلفة, بأعتبارها المؤسسة الاجتماعية الأولى التي تؤسس لاضطهاد المرأة واستلابها, حيث يأخذ هذا الاستلاب طابعا مقدسا يستمد شرعيته من تفسير النصوص الدينية الوارد على ألسنة المشرعين والمفتين الذين يتدخلون بالتفاصيل الدقيقة لحياة المرأة وفرض الوصاية عليها, من طريقة لباسها وكيفية معاشرتها للآخرين وكذلك تقرير سقف ومدى مساهمتها في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية, والتحكم بها باعتبارها تابعا للرجل وجزء من ممتلكاته الشخصية, كما وصل بهم الإفتاء إلى إباحة أجزاء من جسدها لغير زوجها ” كإرضاع الكبير ومفاخذته “, وإيجاد أشكال ظرفية عديدة ومختلفة من الزواج المؤقت, ويأخذ الاستلاب طابعا أكثر مرارة عندما يندمج الدين مع السياسية, ليتحول أكراه واستلاب المرأة إلى قوة قانونية ملزمة عليها من السماء والأرض.
وعلى الرغم مما حققته المرأة في مجتمعاتنا من انجازات فردية على صعيد انخراطها في التعليم بمختلف مراحله, ودخولها عالم المهن المختلفة من طبية وهندسية وتعليمية وإدارية وجامعية, وصولا إلى تبوئها مناصب عليا وزارية أو عضوية برلمان وغيرها, فهذا لا يعني بأي شكل من الأشكال أنها حققت تقدمها في المساواة مع الرجل, بل المهم في ذلك كله هو المزاج والموقف العقلي والفكري من مساواتها. فهل يعقل ” على سبيل المثال ” لدولة ترغب في بناء الديمقراطية والتعددية والمساواة, وفي برلمانها 82 عضوا من النساء لا يتبادلن معظمهن التحية بالمصافحة في البرلمان, انطلاقا من مسوغات ” شرعية ” بعدم الجواز في ملامسة الأيدي, والمشكلة ليست في المصافحة من عدمها, بل المشكلة كيف تؤسس لمزاج المساواة في أعلى هيئات حكومية, وليست لبناء جدار عازل من الريبة والشك بين الجنسين. أن تعليم المرأة ودخولها إلى سوق العمل وتحملها مسؤوليات عليا لا يعني مؤشرا لتحررها, بل يعني في مجتمعاتنا انه إضافة للمرأة لتزيد من قيمتها في المنافسة في الزواج والعمل أو دخلا إضافيا للأسرة يسهل ابتزازه, على الرغم من ضرورة ذلك للارتقاء بها وكخطوة أولى بسيطة على طريق المفهوم الشامل للمساواة بين الجنسين.
وتبدأ المرأة كمشروع للاستلاب منذ نعومة أظافرها, حيث تفرض عليها الوصاية التربوية والوعظية, خارج إطار والديها, من أخوانها الذكور الصغار والكبار, حتى إذا بلغت اشتدت دائرة الرقابة عليها من الجميع, ثم يستقبلها زوجها فيعيد إنتاج تربيتها وفق لما يرتئيه مناسبا له, بل حتى أطفالها الذكور يساهمون في ” تربيتها ” وفرض دائرة من الممنوعات على حركتها وحريتها الشخصية, وتتعرض إلى شتى مظاهر الإساءات كامرأة أو زوجة, من الإذلال وجعلها تشعر بعقدة الذنب, وإساءة معاملتها جسديا بالضرب والتهديد والوعيد, ومنعها من التعاطي بالمال وإيجاد فرص عمل لكسب المال وجعلها معتمدة كليا على مال الرجل أو اغتصاب مالها الخاص والتصرف به, وعزلها اجتماعيا ومنعها من الاتصال بالآخرين إلا بموافقات مسبقة وبشروط محكمة في الصرامة ومراقبة تحركاتها عن كثب, إلى أين تذهب ومع من تلتقي, وجعلها تشعر بالذنب أمام أخوانها أو أولادها وتهديدها من عدم رؤية أولادها وحتى ممارسة الضرب والاهانة لها أمامهم, وممارسة الإكراه والتخويف والتهويل لها وإجبارها على القيام بمختلف التصرفات التي قد تؤذي فيها حتى نفسها.
ورغم تعرض المرأة في مجتمعاتنا إلى مختلف صنوف التعذيب والعنف الجسدي والنفسي والأخلاقي, إلا أن العنف الرمزي هو أكثر الأشكال ضررا وإيغالا في معاناة المرأة, وهو عنف غير فيزيائي, ويتم أساسا عبر وسائل التربية وتلقين المعرفة والايديويوجيا, وهو كما يصفه بورديو بأنه ” شكل لطيف وغير محسوس من العنف “, وهو غير مرئي بالنسبة للضحايا أنفسهم. كما أن العنف الرمزي يمارس على الفاعلين الاجتماعيين بموافقتهم وتواطئهم, ولذلك فهم غالبا ما لا يعترفون به كعنف, بحيث أنهم يستدمجونه كبديهيات أو مسلمات من خلال وسائل التربية والتنشئة الاجتماعية وأشكال التواصل الاجتماعي. فالتربية “الذكورية ” ابتداء من البيت والنشأة الأولى وما تتركه من انطباعات سيئة عن الأنثى بأنها مخلوق ثانوي تلقي بضلالها على الكثير من السلوكيات اليومية المذلة للمرأة, والمدرسة وتخلف مناهجها وما تبثه من معلومات حول الفرو قات بين الجنسين واستخدامها بشكل سيئ لتوجيه الطعون ضد المرأة وأهليتها الاجتماعية, الفصل بين الجنسين في المدرسة وخاصة في مراحله الأولى يؤسس منذ البدء للريبة وسوء الظن بالجنس الآخر, والاستعانة بالتراث السلبي وانتقاء أحداثه بطريقة متحيزة بما يضفي إلى تصور المرأة كائنا شريرا وناقصا ولا يحمل إلا المنعطفات والأحداث السيئة, الأفكار والإيديولوجيات السائدة التي تكرس الشائع واللامنطقي عن المرأة وعدم مقدرتها على تجاوز الواقع, الاستعانة بتفسيرات الكتاب المقدس والسنة النبوية بما يفضي إلى تكريس اللامساواة وتشويه قدرات المرأة وإمكانياتها, كما يرد في ” المرأة ناقصة عقل ودين “, وكذلك الفتاوى الدينية المختلفة التي تتدخل في التفاصيل الدقيقة للمرأة ووضعها في غير مكانها المناسب. أن هذا النمط من العنف الثقافي والتربوي الرمزي والخفي يجد له انعكاساته ليست فقط في ممارسات الرجال ضد المرأة, بل الأخطر من ذلك أن المرأة تعتبره قدرا وتتفاعل معه إلى درجة الدفاع الخفي عنه وعن مرتكبيه ” أي الضحية تدافع عن الجلاد “, فلا نستغرب ان نجد نساء برلمانيات يتقاتلن للدفاع عن زواج القاصر واذلال شقيقتها المرأة. وهذا الفرق الواسع بين العنف في مجتمعاتنا وبين العالم المتمدن, حيث في الأخير لن يلقى الدعم والإسناد من المنظومة القيمية والفكرية السائد وبالتالي هو مدان على نطاق واسع بما يحد من إعادة توليده, وهو بعكس ما سائد لدينا حيث يلقى التفسير والإسناد والإثابة في أحيان كثيرة.
في تلك البيئة المتخلفة والمختزلة في عقل المشرعن البرلماني يجري التعامل مع قضايا المرأة المصيرية, من حرية واستقلال واكراهها على مسارات للعيش, ولا نستغرب ان الثقافة الذكورية تخترق عقل الكثير من البرلمانيات وتستدمجها في ثقافتها الشخصية, فنجدها تقف الى جانب التصويت على مشروع تعديل قانون الاحوال الشخصية وبشكل خاص مع زواج القاصر وتستميت للدفاع عن اذلال اختها او جارتها وصديقتها بواجهات الدفاع عن مستقبلهن. انه التخلف ينتشر كالنار في الهشيم ويعاد انتاجه بسهولة وخاصة عندما تعالج الازمات الاجتماعية بغير اسبابها الحقيقية.