18 ديسمبر، 2024 11:46 م

العقلانية .. في الفعل السياسي

العقلانية .. في الفعل السياسي

عندما نتطرق الى الفعل السياسي، غالباً ما نستذكر المناقشات الطويلة بين العلماء والمفكرين حول طبيعة العقل الانساني، وهل هو متأصل في تكوين الانسان كطاقات او قدرات ذهنية على فهم العالم الخارجي مادياً ومعنوياً، ام ان طبيعة العقل تنجم في ظروف الوسط الاجتماعي وتأثيراته على الافراد. والواقع ان الاتجاه الاول يتبناه علماء النفس بصورة عامة، اما الاتجاه الثاني فيميل نحو علماء الاجتماع، ومع ذلك فليس هناك خطوط قاطعة بين الاتجاهين، اذ ان بعض علماء النفس لا ينكر تأثير العوامل الاجتماعية على تكوين عقل الانسان وبلوغه النضج، في حين ان بعض علماء الاجتماع لا يتجاهل تأصل العقل في بنيته وتكوين الانسان باعتبار ذلك خصائص ذاتية، ولكن التربية والتعليم والتجارب الشخصية والجماعية تأتي فيما بعد لتصوغ قوالب التفكير الانساني وتنضجها وتدفع بها الى التعامل مع معطيات الحياة.
وعليه، فعندما تعالج موضوع السياسة فاولى البديهيات التي ترد بهذا الصدد هي المعادلة التالية:
الفكرة+ الاتجاه+ الموقف= النشاط السياسي. وهذه المعادلة تنطبق في الواقع على كل من يعنى بالسياسة على نحو او آخر، اعتباراً من الفرد الذي يقتصر نشاطه السياسي على بعض الفعاليات البسيطة كالتصويت في الانتخابات مثلاً الى القادة المنغمرين كلياً في لجة المعمعات السياسية.
ومن ثم فان السؤال الذي يطرح نفسه بهذا الشأن هو: هل ان الاهتمام بالسياسة اولاً وممارستها ثانياً يتأتيان عن تفكير عقلاني وموضوعي ويأثر المصلحة العامة او بالاحرى مصلحة المجتمع؟ ام ان وراء ذلك دوافع ذاتية تبغى مصلحة شخصية وتتبرقع ببراقع مختلفة في مقدمتها خدمة الشعب؟ وبعبارة اخرى: هل ان السياسة تتطلب قبل كل شيء استعداداً نفسيا ومن ثم يصاغ السلوك السياسي اجتماعياً بحيث ينسجم مع توجهات مسيرة المجتمع؟
وبهذا الصدد نورد مفهومان: الاول- ان السياسة هي فن، اي كيفية ممارسة الحكم من خلال اختيار البدائل واستخدام الوسائل المختلفة لتحقيق الاهداف، ومن ثم فان السياسيون يتباينون فيما بينهم من ناحية تنفيذ المهام بسبب تباين تكوين شخصياتهم واختلاف طباعهم وامزجتهم حتى ولو شغلوا نفس المراكز وتصدوا لتنفيذ نفس المهام السياسية الملقات على عاتقهم. وعليه فان فن السياسة ينصب على كيفية ادارة الصراعات والمساواة وطرق الاتصال بالجماهير وغير ذلك. اما المفهوم الثاني- فهو ان السياسة هي علم، وهذا العلم ينطوي على اهمية بالغة الخطورة، لانه ينصب على ادارة المجتمع وتسييره والمحافظة على كيانه من التهديدات الخارجية. وتتوقف عليه نقلات المجتمع النوعية او التاريخية من مستوى معين الى مستوى آخر ارقى منه.
 وعليه، فان علم السياسة هو العلم السيد (Master science) او بعبارة اخرى هو سيد العلوم. اما موضوعياً، فان السياسة كانت وما تزال تتأرجح ما بين قطبين رئيسيين هما الاشخاص او بالاحرى الافراد والجماعات ثم الاشياء التي توجد في جوانب الحياة العامة في المجتمع، والاتجاه الاول هو يتعلق بكيفية تحريك القادة او الرؤساء او الزعماء لجماهير الشعب لتحقيق اهداف معينة. اما الاتجاه الثاني فهو النشاط السياسي الذي يهدف الى تسيير الاشياء في المجتمع وتوجيهها وجهة تخدم مصلحة الجموع، وذلك من خلال حل المشكلات التي تفترض سياقات الحياة العامة في قنواتها المختلفة وتنمية وتطوير الامكانات المتاحة واستغلال الطاقات المادية والمعنوية والبشرية.
ولكن الميل الى جانب احد هذين القطبين اكثر مما تحتمله طبيعة تكوين المجتمع، يؤدي ولا ريب الى فقدان التوازن بين العوامل المكونة للمجتمع السياسي ان لم نقل المجتمع بصورة عامة، ويؤدي من ثم الى خلل كبير في مسيرة النظام السياسي… قد يؤدي الى الطغيان او الدكتاتورية بمختلف اشكالها او الى غياب الحريات العامة. ان حكم الاشخاص هو تغليب للارادة وذلك بلا ريب قد يكون مجدياً عندما تتطابق هذه الارادة مع القوانين الموضوعية التي تحرك المجتمع بالرغم من ارادة بعض الحكام قد تتجافى لسبب او آخر ميكانيكية عمليات تحول المجتمع كلاً او جزءاً.
ومن ناحيته، ان حكم الاشياء يقوم على اساس التنظيم المبني على عمليات التخطيط واستخدام البرامج العلمية واجهزة الدولة، وكذلك في القطاعات الخاصة عبر آلية تنظيم بصورة طبيعية العلاقات مع القوى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تسيَّر المجتمع من ناحية وبين هذه وبين اجهزة الدولة او بالاحرى مؤسسات النظام السياسي.
ان حكم الاشياء يعني في التحليل الاخير مجموعة مراكز وادوار وصلاحيات واختصاصات مندمجة في بنية المجتمع ويمر عليها الافراد الذين يمتلكون مواصفات وشروط يتطلبها القانون. وتبعاً لذلك، فان اية محاولة للتحكم الشخصي مدانة بل ومعاقب عليها وفق القانون. والهدف النهائي من وراء كل ذلك تحقيق سياقات طبيعية لنشاطات الافراد والجماعات وتصعيد قدراتهم على العمل والابداع.
ومن ثم تطرح نفسها مشكلة اخرى بالغة الخطورة هي مركز الفرد في المجتمع باعتباره انساناً، وكذلك اعتباره مواطناً. والواقع ان المعادلة ما بين مفهوم الانسان كذات قائمة بنفسها وبين مفهوم المواطن كفرد له حقوق وعليه واجبات بحكم عضويته في المجتمع منذ اقدم العصور حتى الوقت الحاضر هي المعيار الذي يعين مستوى حضارة المجتمع، والمفاهيم السائدة فيه عن الرقي والتقدم والانسانية. ومع ذلك الافراط في التأكيد على المقتضيات التنظيمية من قبل النظام السياسي قد يؤدي الى التفريط بحرية الانسان نفسه او حتى بحياته. لأن تحكم الاعتبارات التنظيمية السياسية منها او الادارية يؤدي لا محالة الى تحكم الافراد او الجماعات الذين يشرفون على تطبيقها رغم كل التبريرات. والا كم هم عدد الافراد الذين ذهبوا ضحايا تطبيق مثُل الاحزاب العليا كانت تتوجه حقاً الى ان تخدم مصلحة الانسان، وكم هي حالات بعض النظريات او الايديولوجيات او المبادئ التي كانت تهدف من طرحها نحو خدمة الانسان وبناء حياته الشخصية والمجتمعية والارتفاع به الى مستويات التقدم والحضارة ولكنها غدت مجرد وسائل تبرير لاعمال تعسفية قمعية وبأسم المصلحة العامة او مصلحة المجتمع او غير ذلك.
ان معادلة الانسان/ المواطن، هي محور فلسفة سياسية، كما انها ايضاً الوسيلة التي تكشف طبيعة كل نظام سياسيا في سياقات تنفيذ اهدافه.
ان حكم الاشياء برز على نحو واضح خلال وبعد الثورة الصناعية، وكان للعلوم الصرفة اولاً والعلوم الاجتماعية والانسانية ودور هام في صياغة اهداف المجتمع وتوفير مستلزمات تنفيذها. ومع ذلك فان المخاضات التي تمخضت عنها المجتمعات المتقدمة لم تستطع ان تتفادى الرجات العنيفة التي تعرضت اليها والتي اتخذت شكل صراعات دامية. والثمن الذي دفعته مثل هذه المجتمعات كان باهضاً، بلا ريب، على الصعيد الداخلي من خلال الثورات والانقلابات والازمات العنيفة والبطالة والكساد وغير ذلك… وعلى الصعيد الخارجي من خلال الحروب الاستعمارية المتوالية بهدف البحث عن المواد الخام والاسواق الخارجية ومراكز القوة والنفوذ. ومع ذلك فقد استحصلت الدرس الازلي وحفظته ثم عكسته على نمط حياة مجتمعاتها عبر مؤسساتها وقيمها وصيغ التعادل فيها، وهو ان الانسان منطلق الحياة الاجتماعية ومألها.
ان الاشياء القادمة في بعض بلدان العالم المتقدمة سوف تفعل اثرها وبعمق في تكوين تلكم المجتمعات وكذلك في طبيعة العلاقات القائمة بين الدول ومن ثم، اليس جديراً بنا نحن العرب في مختلف ارجاء وطننا العربي ان ندرك اين نحن من هذه القوى العالمية حضارياً واقتصادياً واجتماعياً وعسكرياً؟ ليست سوى السياسة المبنية على العلم والعقلانية والمنطق التي بوسعها ان تقودنا الى عالم الغد عالم الانسان والعلم والرقميات…

[email protected]