لعل القارئ المتابع يعلم علم اليقين ، كما بات لا يخفى على أحد من العراقيين ، إن تجّار الحروب الأهلية وسماسرة الفتن الطائفية ودهاقنة الكراهيات العنصرية ، ليسوا فقط غير جديرين بتحمل المسؤولية الوطنية ، والاهتمام بالمصائر الاجتماعية ، والانهمام بالمصالح الاقتصادية ، والاضطلاع بالمهام التاريخية ، والاعتبار بالاصول الحضارية فحسب ، إنما كونهم لا يصلحون بتاتا”لأن يكونوا نماذج سياسية يقتدى بمواقفهم ، كما لا أمل مطلقا”في أن يستحيلوا إلى أمثلة أخلاقية يحتذى بمناقبياتهم . إلا أن ذلك لا يمثل – في إطار هذا الموضوع – سوى الوجه المنظور والمكشوف لجسامة الفجيعة المحيقة ؛ لا بالواقع العراقي الحالي كمجتمع موحد وثقافة مشتركة وهوية جامعة وذاكرة راسخة فحسب ، بل وكذلك بمصيره المستقبلي كتاريخ متواصل وجغرافيا ثابتة ووطن قار وكيان متجذر . فمنذ أن أسقطت دعائم النظام السابق وتهاوت قلاع سلطته وتناثرت أشلاء هيبته ، لم يترك المعنيون بشؤون الدراما العراقية ركنا”من أركان النظام السياسي القائم حاليا”، دون التعرض لسياساته بالنقد ولإجراءاته بالإدانة ، كما لم يهملوا زاوية من زوايا السلطة الحالية ، دون التنديد بانحراف مؤسساتها والتشهير بمفاسد رموزها . لا من باب أنها فشلت فشلا”ذريعا”بتجاوز ما كانت تزعم أنها تركات النظام الدكتاتوري البائد ومخلفات السلطة التوتاليتارية المقبورة ، مثلما أخفقت إخفاقا”ذريعا”بتحقيق ما توهمت أنها جاءت بصدد ؛ إنهاء التجاوزات السياسية ، وتعويض الحرمانات الاقتصادية ، وإشباع الاحتياجات الاجتماعية ،وتوفير الأجواء الديمقراطية . إنما من منطلق كونها ضاعفت من أشكال ذلك الاستبداد ، وعمقت من ضروب تلك المساوئ . والواقع إن كل الذي تعرضت له الحكومة الحالية من وابل النعوت السلبية والأوصاف المستهجنة – التي بالتأكيد تستحقها وتليق بها – لا يوازي ما اقترفته بحق هذا البلد من آثام وقبائح ، كما لا يرقى إلى مستوى ما اجترجته ضد هذا الشعب من كوارث متلاحقة ومصائب متتالية . بيد أن تناول مسألة ما من منظور ذاتي /معياري شيء ، والتعامل مع ذات المسألة من منظور موضوعي / إجرائي شيء آخر تماما”. بمعنى إن الادراكات الشخصية والتصورات الذاتية ، لا ينبغي لها أن تكون معيارا”يركن لحياديته عند تقييم وتقويم القضايا المتعلقة بآليات سلطة الدولة وخيارات سياسة الحكومة وتطلعات حراك المجتمع ، ما لم تطرح على بساط البحث وتوضع تحت مشارط التحليل ، جميع أطراف القضية المعنية وكافة عناصر المشكلة المقصودة . بحيث تأني الاستنتاجات وتتمخض التوقعات أقرب إلى الواقع الملموس منها إلى الهلوسة ، وأدنى إلى الحقيقة المعاشة منها إلى السفسطة . ومن هذا المنطلق فانه قلما أشار أحد من أولئك الكتاب والباحثين لدور الطرف الآخر (الشعب ، الجمهور ، المواطنين) من العقد الاجتماعي ، حيال تحمل قسطه – وهو وافر وأساسي كما نعلم – من المسؤولية الوطنية ، فضلا”عن التقيد بالتزاماته الأخلاقية وتنفيذ واجباته الاجتماعية ، بعد أن ذاق وبال أمره وتجرع مرارة تصرفاته . صحيح إن روابط الثقة المفترضة بين الدولة والمجتمع مقطوعة ، وان أواصر الصلة المتخيلة بين الحكومة والمواطنين منعدمة ، على خلفية غياب شروط الشرعية وفقدان المشروعية بين أطراف ذلك العقد . وهو الأمر الذي يفسر لنا سرّ إمعان الإنسان العراقي في إهمال وتجاهل كل ما له صلة بسلطات الدولة في الحالة الأولى ، كما ويكشف عن خلفيات إسرافه في تخريب ونهب كل ما له علاقة بممتلكات الحكومة في الحالة الثانية . إلاّ إن نداء الواجب وسياق الضرورة يحتمان علينا ألاّ ننسى – ونحن في إطار توجيه اللوم إلى الدولة الحالية وكيل الاتهام إلى الحكومة القائمة ، على خلفية استشراء مظاهر العجز المؤسسي وتفشي ظواهر الفوضى المعيارية – إن ينال المواطن قسطه من الإدانة القاسية ويحظى بحصته من الاتهام الجارح . ليس فقط لأنه شحيح الإحساس بالمسؤولية الوطنية ، وقليل التعاون مع السلطات الحكومية ، وضعيف الإدراك لواجباته الاجتماعية فحسب ، وإنما لكونه – فضلا”عن ذلك – لم يتردد بإطلاق العنان لعبث غرائزه البدائية ، ولم يحجم عن تسعير نزعاته التدميرية ، ولم يسعى لكبح طيش نزواته الانتقامية . ذلك لأن جوهر مفهوم العقد الاجتماعي لا ينطوي على معنى الإذعان لرغبات النظام السياسي – بصرف النظر عن طبيعته – وهذا ما دعا (روسو) إلى القول ((إن الشعب الذي يعد بالطاعة والخضوع يفقد صفته كشعب)) ، أو التماهي مع توجهات الدولة – بصرف النظر عن ماهيتها – بقدر ما يتضمن مغزى الالتزام بمتطلبات الشأن العام وتواضعات المصلحة المشتركة . ناهيك بالطبع عن الذود عن حقوق الإنسان – بصرف النظر عن أصوله وخلفياته – والدفاع عن الحريات العامة – بصرف النظر عن طبيعتها ومضمونها – . ولأن التذرع بتقصير الحكومة حيال تأمين الاحتياجات وتحسين الخدمات وتوفير الضمانات – وهو واقع لا يمكن إنكاره – لا يمنح المواطنين المحرومين من تلك المطالب المشروعة ، الحق في التجاوز على الممتلكات العامة أو يبيح لهم سرقة المال العام ، تعبيرا”عن السخط والاحتجاج الذي يضمرونه حيالها . كما إن التعكز بحجة تنصل الدولة عن مسؤوليتها في الحفاظ على أمن المجتمع وضمان استقراره ، فضلا”عن طمأنة حقوقه واحترام كرامته ، لا يعطي الأفراد والجماعات المسلوبة حقوقهم والمنتهكة كرامتهم ،غطاء الشرعية لإضعاف هيبتها السيادية والتطاول على رموزها الجمعية ،استجابة لمشاعر الرفض والممانعة التي يكنونها ضدها . ولذلك فان محاولات تجسير الفجوة المتوطنة بين الدولة والمجتمع ، وردم الهوة المزمنة بين الحكومة والمواطنين سوف تبوء بالفشل ، طالما تجري على أساس الوعظ الأخلاقي المقرون بالطوباويات ، أو تتم بالعزف على أوتار الأصالة التاريخية المشفوعة بالأسطوريات – كما يجهد بعض الكتاب دون جدوى للأسف – إذ إن توجّه كهذا قمين بتكريس عوامل التصدع في الذهنيات بدلا”من تماسكها ، والتقطّع في السيرورات بدلا”من تواصلها ، ومن ثم تحفيز الانتماءات الهامشية خلافا”لوحدة المجتمع ، وتنشيط الولاءات التحتية خلافا”لسلطة الدولة ، وتفعيل الحميات التعصبية خلافا”لشرعية الحكومة . وفي ضوء ما تقدم فان وسائل الإعلام بكل أصنافها وعناوينها ، باتت مطالبة اليوم قبل أي وقت مضى ، بإطلاق حملات توعية وطنية / سياسية واسعة ومكثفة ، لا تستهدف رموز الدولة التي شلت قدراتها المحصصات الداخلية وعطلت إرادتها الأجندات الخارجية . كما لا تضع في اعتبارها رموز الحكومة التي استهلكتها الصراعات الطائفية واستنزفتها الاستقطابات الجهوية ، بقدر ما تركز وابل (قصفها) على عقول المواطنين الذين اختلطت في تصوراتهم المعايير ، وتداخلت في إدراكاتهم الأبعاد ، وتلابست في أذهانهم العلاقات . بحيث يكون بمقدورهم التمييز بين الأولويات والتفريق بين الخيارات ، التي من شأنها أن تتيح لهم استدخال الوقائع واستبطان الحقائق التي مؤداها ؛ إن تحطيم آلة الدولة في مصنع ، أو سرقة أداة من ورشة ، أو تزوير وثيقة في مؤسسة ، أو الغش في امتحان مدرسي ، أو التجاوز على شبكات الماء والكهرباء ، أو حتى رمي الأنقاض والنفايات في غير الأماكن المخصصة لها ، سوف لن يضعف جبروت الدولة بقدر ما يجعلها أكثر تغولا”بزعم تميكن السلطة ، ولن يقلل من تعسف الحكومة بقدر ما يجعلها أكثر توحشا”بحجة فرض النظام ، وبالتالي فان الضرر سيقع أولا”وأخيرا”على المجتمع الذي لم يحسن الحفاظ على عقده الاجتماعي ، وان المعاناة ستطال دائما”وأبدا”المواطن الذي لم يشأ القيام بمسؤوليته الوطنية ، كما يفترض به أن يفعل ! .
[email protected]