10 أبريل، 2024 8:59 م
Search
Close this search box.

العقدة الدونية لدى أبناء الجنوب (الزيارة الأربعينية أنموذجا)

Facebook
Twitter
LinkedIn

ما أنفك أبن الجنوب في العراق فريسةً لعقده دونيه ضاريه تفتك به منذ العقود الأولى لنشوء الدولة العراقية وحتى الزمن الراهن. فهو لا يتورع عن القبول تحت مختلف أنواع الذرائع بتصنيفه مواطنا لا من الدرجة الثانية بل وحتى العاشرة بالرغم من الأعباء الجسام التي طالما أُلقيت على كاهله من ثورات و تمردات وتظاهرات عج بها تأريخ العراق المعاصر والمضطرب.

فبعد أن أفضت ثورة العشرين (منذ اندلاع شرارتها الأولى في جنوب العراق ) إلى اعتلاء الملك فيصل سدة الحكم في استعاره عرقيه مبتسرة (فهو ذو أصول سعوديه هاشمية مزعومة) راح أبن الجنوب يتعثر بلباسه البدوي ولكنته (المعيدية) ويخسر رهان ثورته أمام سلم أثني يجعله في خانه دونيه تأتي مرتبتها التصنيفية دون مرتبة أبن السعودية من العائلة الهاشمية الطارئة على حكم العراق, لا بل دون مرتبة أبناء الغربية الذين تشاطروا مع الملك فيصل الحصة الكبرى من كعكة الحكم .ولم يحظى جنوب العراق برمته سوى بتمثيل أخرق له في مجلس الأعيان كما لم يكترث أبناءه البتة بمصادرة ثورتهم ومنجزاتها التي لم ترى النور إلا على هذا النحو الممجوج بل راحوا ينشغلون بصراعاتهم القبلية العقيمة وتربية الأغنام وزراعة أراضي الإقطاعيين.

واستمرت ثورات أبن الجنوب تستعر دون هوادة. .ففي عام 1936 اندلعت سلسله من الثورات في منطقة الغراف والرميثة والديوانية بعد الإذلال المستمر الذي تعرضت له رموزه القبلية من شيوخ العشائر في الجنوب والفرات الأوسط حيث أحجمت الأسرة المالكة آنذاك عن منح هؤلاء الشيوخ أي صفه رسميه أو امتيازات تنسجم مع حجم الدور الذي لعبته هذه القبائل في ثورة العشرين والتي كبدت القوات البريطانية خسائر فادحه مهدت لقيام الملكية العراقية.

وأستمر مسلسل الدور المسروق والمصادر لأبناء الجنوب في تغيير أنظمة الحكم عبر آلية الثورات الجماهيرية. إذ أتخذ هذا النوع من التغيير سلوكا انقلابيا عسكريا متنطعا أسس لمرحله جديدة من السلوكيات التعسفية والنخبوية في قلب أنظمة الحكم. فقام بكر صدقي بانقلابه العسكري خالعا الملك مما أثار حفيظة الحكومة البريطانية فقررت التدخل لحماية مصالحها وأعادت عبد الإله إلى عرشه مصحوبا بنوري السعيد الذي أعتاد أن يكون أحد أفراد الحاشية العثمانية المسيطرة سابقاً. ونجحت بريطانيا في ترسيخ سلام قمعي ينتشر تحت ناظريها وأبن الجنوب لا

حول له ولا قوة في كل ما يحدث مكتفيا بلعب دور المتفرج السلبي الذي يتحسر على المصير الذي آلت أليه ثوراته الثمينة ومكتسباتها التي لم تعود عليه إلا بالانكفاء السياسي الذي سيتطور فيما بعد ليصبح انكفاءً سيكولوجياً واجتماعيا أيضا.

ونجم عن هذا الضعف والقصور السياسي للجنوب أن يلجأ الأخير إلى التسربل بلباس النزعة القومية كميكانزم دفاعي أخير فأنغمس أبناءه في رفض معاهدة بورتسموث وحكومة (صالح جبر) الذي يعد أول رئيس وزراء شيعي تسلم الحكم بعد مرور قرابة ثلاثة عقود طويلة من تجاهل رموز أبناء الجنوب الشيعة. فاندلعت الوثبة عام (1948) محتجين على توسع التعاون الأمني المزعوم مع بريطانيا وسيطرتها ألأخطبوطيه على القواعد الجوية في العراق. وراح (محمد مهدي ألجواهري) وهو من أسره شيعيه عريقة في النجف يحرض تحريضا منقطع النظير على إسقاط حكومة (صالح جبر) وألهب حماس المتظاهرين بقصائده النارية التي سقط على أثرها أخوه (جعفر) قتيلا برصاص شرطة هذه الحكومة فأنشد قصيده رثا فيها أخيه الصريع وأعتقت غضب الجماهير على نحو دراماتيكي فقال في مطلعها:

أتعلمُ أم أنت َ لا تعلم ُ بأن جـِراح الضحايا فم ُّ

يصيح على المدقعين الجياع أريقوا دماءَكمُ تـُطعموا

ويهتف بالنفر المُهطعين أهينوا لئامكم ُ تـُكرموا

وأنتفض أبن الجنوب من جديد رافضا, بكل ما يحمله هذا الرفض من دلالات, النزعة الطائفية التي طالما أُلصِقَت به فاحتدمت المصادمات مما أسفر عن مقتل (سبع وسبعين) متظاهرا فوجد الوصي نفسه مجبرا على شجب هذه المعاهدة التي كان قد وافق سابقا على توقيعها فضلا عن إقالة صالح جبر بتأريخ 27/1/ 1948 .

واحتشدت التظاهرات بعد ذلك لتصبح مشهداً مألوفا في الشارع العراقي فمنذ 1952 أتسع سقف مطالب الجماهير الغاضبة لتعلن عن رغبتها المصيرية بأجراء الانتخابات المباشرة والحرة والنزيهة فأعلنت حكومة نوري السعيد الأحكام العرفية وحظرت العديد من الأحزاب السياسية ومنعت إصدار الكثير من الصحف وانتهى الأمر بإعلان حظرا للتجوال شكل بدوره تصاعدا خطيرا في المشهد السياسي العراقي. كل ذلك قاد العميد عبد الكريم قاسم (أبن الجنوب القادم من مدينة الكوت) إلى تحريك اللواء التاسع عشر الذي كان مسؤولا عنه في 14 تموز 1958 والإطاحة بالأسرة الملكية الهاشمية التي حكمت العراق عقودا طويلة.

وجاءت هذه الثورة متميزة بخلوها نسبياً من العنف وبكونها علامة فارقه في تطور السلوك الثوري والتغيري لدى أبناء الجنوب حيث بدا كما لو أنهم قد استفاقوا هذه المرة من غيبوبة الأدوار المغيبة والمُصادرة من وعيهم التاريخي والسياسي. ثم ما لبثت هذه اليقظة أن غُيِبَت من جديد فأُعدِم عبد الكريم قاسم عام 1963 على يد البعث ونفذَ حكم الإعدام فيه (علي صالح السعدي) الذي حرمه حتى من شربة ماء طلبها ليفطر بها قبل إعدامه حيث كان صائما وهي حادثه تثير الكثير من الدلالات في المخيال الشيعي لأبناء الجنوب. وأُعدم معهم ما يقارب الثلاثة آلاف شخص.

وأكتظ الشارع العراقي بعد ذلك بسلسلة دموية من الانقلابات المناهضة لحرية الفرد العراقي عموما وحرية أبناء الجنوب على وجهٍ خاص لينتهي المطاف بتتويج صدام حسين (الذي كان يترأس جهاز الاغتيالات في حزب البعث) رئيساً مطلقاً وتوتاليتاريا للعراق بعد أعداد أمريكي تكتيكي عالي المستوى له ولزمرته التي جثمت على أنفاس أبناء الجنوب في أكثر مرحله دمويه ومظلمة شهدها التأريخ السياسي للعراق المعاصر. حيث أتسمت هذه المرحلة بمستويات غير مسبوقة من القمع للثورات في الجنوب وخاصة انتفاضة 1977 والتي انتهت بغلق كربلاء تماما أمام الزوار بعد التظاهرات الحاشدة والحضور الغفير لأبناء الجنوب الذي أستدعى تدخل الجيش وانتهى بترحيل ما يقارب مائتا ألف منهم إلى إيران بعد تجريدهم من ملكياتهم وجنسياتهم التي أصبحوا متهمين فيها حتى هذه اللحظة.

وسادت روح قوميه عربيه شوفينية غير مسبوقة طوال عقود ثلاث من حكم البعث أفرغت أخر ما تبقى من شعور بالانتماء والتميز السياسي والاجتماعي لدى أبناء الجنوب. فأصبح الفلسطيني والأردني واليمني والعراقي (السني) هم مواطنو الدرجة الأولى المتميزة أما أبناء الجنوب فراحوا يشغلون خانة تصنيفية متدنية زرعت في وعيهم الجمعي بذور العجز العضوي والنفسي والاجتماعي الذي ما أنفك يتفاقم ويتغول. إذ ترسخ هذا العجز في سلوكيات أبن الجنوب الشيعي ليصبح صوره نمطيه بات عاجزاً تماما عن الانفلات من ربقتها وتلفيقاتها التي ساهم حزب البعث من جهة في التنظير لها كما عززتها سلوكيا وعلى نطاق أوسع الحكومات التي أعقبت سقوط حزب البعث في 2003 مما فاقم من النكوص السياسي والاجتماعي لدى أبناء الجنوب, لاسيما أن تسنم الأحزاب الشيعية المنبثقة عن الجنوب سدة الحكم جلب معه سلما أثنياً جديدا وغريبا هو الأخر ولا يختلف كثيرا عن السلم الذي نظّرَ له حزب البعث في أدبياته لا بل أنه أكثر إيلاما وفداحة لأنه يفتك بصغاره ويوصد في وجوههم أخر أبواب الأمل في الخروج من فخ هذه الدونية الأثنية .إذ اعتادت الطبقة الشيعية الحاكمة أن تجعل من إيران موطنها البديل والحاضنة

الاستعارية لحكومة المنفى التي داعبت أحلامها طوال فترة حكم حزب البعث البغيض. ولا ننسى أن المجتمع الإيراني الحاضن لهذه الطبقة يمتلك هو الأخر سُلمه الأثني الذي يبوب فيه هذه الطبقة ويركنها في خانه دونيه هي الأخرى وهو سلوك يتسم بلون من ألوان العنصرية الخفية (racism Aversive ) وأن زعمت الحكومات الإيرانية غير ذلك. فحتى النشاط العسكري المقاوم الذي انضوت تحته بعض عناصر هذه الطبقة لا يعدو كونه مجرد جناح عسكري إيراني تتمركز قياداته في مقرات يشغل فيها المواطن الإيراني مواقع السلطة الفوقية المطلقة ولا يمتلك الشيعي العراقي من أبناء الجنوب أي مراكز قياديه في الصف الأول بل تكتفي هذه العناصر بكونها مجرد أداة تنفيذيه طيعة تعيش وهم المعارضة المستقلة عن متبنيات المنفى الاجتماعية والسياسية.

بقيت هذه الرؤية التراتبية متأصلة في المنظومة المفاهيمية للطبقة الشيعية الحاكمة الآن, وأنسحب هذا التأصيل على سلوكياتهم وقراراتهم بصفتهم رجال دوله بعد إطاحة أمريكا بصدام حسين وحزب البعث المنحل. غير أن هذا التأصيل أمتد ليؤسس مرحله جديدة من الممارسات الأثنية ضمن سياق الشعائر الدينية هذه المرة ومنها شعيرة (الزيارة الأربعينية للأمام الحسين عليه السلام).

فبعيدا عن التفسيرات والتعميمات المبنية على الصور الدينية النمطية والتي تتعلق بعِظَم أجر خدمة زوار الأمام الحسين والسائرين نحو مرقده المقدس . . لا يمتلك أبناء الجنوب إلا الانخراط في هذه الخدمة لا بل ويأخذ هذا السلوك بعداً دلاليا محتدماً حينما يبالغون في خدمة السائرين من الجنسيات الأخرى وخاصةً الإيرانيين منهم. ربما بوسعي أن أتفهم تماما أن المغزى خلف ذلك هو بعد الشُقة على هؤلاء السائرين وتحملهم لعناء الطريق و وعثاء السفر . .لا بأس بذلك ولكن أن يتفاقم هذا الأمر في مرحلةٍ ما ليصبح المسير على الأقدام أو في أحسن الأحوال الانزواء في أحد الأحواض الباردة للوريات النقل البري حقاً حصريا لا بل وقسرياً على أبناء الجنوب في حين يتنعم الإيرانيون والباكستانيون والبحرينيون والسعوديون بركوب الحافلات الفارهة وهم يلوحون بجوازاتهم كإشارة تمييز فوقيه لهو مؤشر على حضور بُعد أثني جديد أسست له هذه الطبقة الشيعية الحاكمة.

إذ وجهت السلطات الحاكمة جميع سواق الحافلات الصغيرة منها والكبيرة في مدينة النجف بوجوب نقل الزائرين من جميع الجنسيات (عدا العراقيين) مباشرةً نحو المرقد المقدس للأمام الحسين سالكين الطريق الإستراتيجي المحفوف بنقاط التفتيش التي تعمل على تسهيل مرور هذه

الحافلات حصراً. فحينما انتهيت من زيارة مرقد (الأمام علي) عليه السلام في النجف الأشراف أردت التوجه من هناك نحو كربلاء. فلم أجد سوى مجموعه مقهورة من أبناء الجنوب وهم يتخبطون كالمتسولين بين السواق يسألونهم عن الحافلات المتجهة نحو كربلاء ولا يمتلك هؤلاء السواق إلا السخرية منهم وتوجيههم بضرورة السير على الأقدام للوصول إلى كربلاء. إذ لا يُسمح إلا لغير العراقيين بركوب الحافلات, وراح هؤلاء السواق يخبروننا كيف أن عراقياً ما من أهالي الناصرية أندس بين الركاب الإيرانيين علهم يتعاطفون معه فيصل إلى كربلاء المقدسة حلمه الذي لم يتحقق للأسف الشديد, فلم يكن من أحدى نقاط التفتيش المزروعة على طول الطريق الإستراتيجي إلا أن اكتشفت أمره وأنزلته بقسوة من الحافلة وتركته في عرض الصحراء المترامية على جانبي الطريق الإستراتيجي الذي يبدو أنه أُعِدَ لغير العراقيين!

الأمر الملفت حقاً هو هذه السحابة الخانقة من النكوص والانسحاب التي حلقت فوق رؤوس أبنائنا. فلم أرى أي نظرة ازدراء لهذا الأمر في عيني أحدهم ناهيك عن مجرد إيماءة سخط بسيطة وتافهة. فهم ألفوا السير ضمن حدود خانتهم الأثنيه ولا يجرؤن على تخطيها أو على مساءلة المنطق الذي ارتهنهم في هذا النطاق الدوني الضيق الذي جعلهم مرمى لنظرات الاستعلاء و الفوقية وهي ترتسم على وجوه الإيرانيين وغير الإيرانيين وهم يمرون بحافلات أبناء الجنوب مروراً خاطفاً يترك سُحباً من الغبار تستقر على أرصفة مواطني الدرجة العاشرة ربما.

أن ميكانزمات الدفاع السيكولوجي التي يلجئ إليها أبناء الجنوب غاية في التلفيق والنمطية. فهم ينكرون تماما أن تكون عقدة الدونية هي ما يبرر سلوكياتهم المذعنة والمتخاذلة سواء مع الطبقة الحاكمة الشيعية الآن أو مع مواطني الجنسيات الأخرى بل يميلون إلى درجة الانصهار في تبريرات دينيه وغنوصية واضحة التطرف. هذا الانغماس في الإنكار والتعويض السيكولوجيين يوفر بيئة تبريريه آمنه تكفل نوعاً خبيثاً من الميكانزمات السيكولوجية التي تخفف من وطئة القلق والصراع الأثني المضطرم في لاوعي أبناء الجنوب. والنتيجة الحتمية لكل ذلك هي بلا ريب المزيد من التنازلات والإذعان و الانقياد الذي تعلوه سحابة قاتمة من التبريرات التي لن تتوقف على ما يبدو عند مصادرة حق أبناء الجنوب في الحكم والوقوف بصفتهم أنداداً حقيقيين لغيرهم من الأثنيات داخل وخارج العراق فحسب بل وستعمل على أفراغ الرابط المقدس بينهم وبين رموزهم الدينية من كل محتوى. وقائمة التبريرات لا زالت طويلة وتعد بالمزيد وإحدى هذه التبريرات لا بل ومن أبرزها هي (أن الحسين ليس ملكاً لأحد بل هو رمز أنساني يمتلكه الجميع,

فلا ضير أن سبقنا الإيرانيون إلى زيارة مرقده المقدس . .فنحن سنزوره أيضا عاجلا أم أجلا وسيكون أجرنا أضعاف أجر الإيرانيون وغيرهم . .لأن الأجر على قدر المشقة)!!!!!!!

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب