العطار ليس بائعًا فحسب، بل حكاية تمتد من الماضي إلى الحاضر، تحضر فيها اللغة قبل البضاعة، والإقناع قبل الميزان. يدخل الزبون متجر العطار مترددًا: أيختار هذا العشب أم ذاك الزيت؟ هنا يبدأ العطار حديثه؛ لا يبيع السلعة مباشرة، بل يروي قصتها. يقول عن الحلبة: دواء الفقراء ورفيق الشتاء. وعن القرنفل: طارد الصداع وناشر الدفء. وكأنه يحوّل كل علبة صغيرة إلى عالم واسع من المعاني.
الإقناع عند العطار ليس إعلانًا صارخًا، بل حكاية بسيطة. يقارن بين تجارب الزبائن، ويضرب الأمثلة: فلان داوم على هذا الشراب فخفّ سُعاله، أو امرأة جاءتني تبحث عن علاج لبشرتها، فعادت بعد شهر تشكرني. هكذا يجعل الزبون يثق، لأن الكلمة عنده جزء من السلعة.
وجذور هذه المهنة تعود إلى زمن بعيد. يحكي عن جده الذي أورثها لأبيه ثم إليه، فيقول: جدي، رحمه الله، كان عطارًا في سوق المدينة القديمة. لم يكن يعرف القراءة والكتابة كثيرًا، لكن ذاكرته كانت دفترًا مفتوحًا للوصفات. كان يسافر إلى الهند، يقطع البحار ليعود بأكياس الروائح والبهارات والعلاجات. يقولون إنه تعلّم هناك أن العطار لا يبيع الأعشاب فقط، بل يبيع خبرته وصدقه، ويمنح الزبون الطمأنينة قبل أي شيء آخر.
واليوم، وإن تغيّرت الأسواق وظهرت الصيدليات الكبرى، يبقى العطار حاضرًا، يتوارث الحكاية جيلًا بعد جيل. يظل حديثه مع الزبائن مدرسة في فن الإقناع: خليط من حكمة وتجربة وذاكرة عتيقة، تحفظ في رائحتها بعضًا من تاريخنا.
غير أن السؤال يطرح نفسه: هل ما يُقال عند العطار اليوم صواب كله، أم أن بعضه يختلط بالخطأ؟ وهل تلك الوصفات ما تزال تحمل روح المهنة، أم أنها أصبحت خليطًا من اجتهاد فردي واعتماد على ما يقوله الآخرون؟ العطار اليوم يواجه تحديات جديدة؛ فالمستحضرات الطبية الجاهزة سرقت جزءًا من دوره، والزبون، وإن ظلّ وفيًا، صار أكثر حذرًا في الاختيار. ومع ذلك، يظل العطار محافظًا على مكانته، لأن الزبائن يجدون فيه حرصًا شخصيًا لا توفره الصيدليات الحديثة، وكأنهم يأتون ليشتروا الطمأنينة قبل أن يشتروا الدواء.
فمن يستطيع أن يختص بمثل هذا العمل؟ أهو مجرد بيع أعشاب وزيوت، أم هو صناعة تقوم على معرفة وتجربة طويلة؟ لعل الجواب لا يوجد في رفوف المحل ولا في أكياس الأعشاب، بل في العلاقة التي ينسجها العطار مع زبائنه، علاقة تبقيه شاهدًا حيًا على مهنة تقاوم الزمن بالكلمة والرائحة معًا.