حكومة التكنوقراط المستقلين والبعيدين عن الكتل السياسية في البرلمان، هي التعويذة السحرية التي يمكن فقط من خلالها الخروج من هذا الكابوس، بل الهوة السحيقة التي انزلق إليها العراق والتي تمثلت بسوء مطلق بالإدارة. ذلك لأن المتصدين لإدارة البلد، هم يقولون ولسنا من يقول، أنهم غير مؤهلين لتولي مناصب الدولة الوزارية ولا حتى وكلائهم ومدرائهم العامون.
هذه المجموعة الكبيرة من المسؤولين، وصلوا بالصدفة لتولي هذه المناصب القيادية في البلد، فهم، تقريبا، بل جميعهم، بعيدون عن الاختصاص الذي تولوا مسؤلياته، وحتى لو كان البعض منهم مختصا، فهناك من هو أحق منه وأكثر جدارة بتولي المنصب، وهذا غبن لكل الكوادر العراقية ما بعده غبن، وهو أن يتولى شخص بليد وفاسد وانتهازي مسؤلية منصب معين وحوله من النابهين الأذكياء وذووا الخبرة الطويلة والتأهيل العلمي المناسب، وهو تجاوز على مبادئ الدستور التي توصي بمبدأ تكافؤ الفرص لأبناء الشعب. أما الغبن الذي سيلحق بالشعب العراقي، وهو المعني بالاستفادة من مخرجات هذه الوظيفة أو تلك، سيكون كارثيا، وهذا ماحصل بالضبط. إذا الحل هو تشكيل حكومة التكنوقراط المستقلين من خارج الكتل السياسية. ولكي نوضح أكثر، لنبدأ بأم الكوارث:
أولا- المحاصصة والتوافق: “قوى سياسية هددت العبادي بأنها لن تقف متفرجة اذا تم استهدافها بالإصلاحات”، هذا ما قاله أحد النواب، وهذا ما سمعناه أيضا من المتظاهرين، وسمعناه أمس من المرجعية الرشيدة في النجف الأشرف بخطاب مدو وصادق، وهو أمر متوقع من معظم القوى السياسية المشاركة بالعملية السياسية “الكسيحة”، كونها لا تتقبل أي استهداف لها بحجة الإصلاحات، فالإصلاحات يجب أن تبقى بعيدة عنها وعن إمعاتها الذين دفعت بهم للتصدي لإدارة الدولة والشأن العام، ويعني أيضا أن امبراطوريات “الفساد والإفساد” التي أقامتها ستقوض اركانها بعد أن يتم اقتلاع أحجار الزاوية لبنيانها. العبادي نفسه صرح بذلك بشكل مباشر أو غير مباشر بأكثر من مناسبة، والشعب يعرف ذلك، والمرجعيات الدينية الرشيدة لكل الأديان والطوائف في العراق تعرف أيضا.
ما تقدم يعني أنه، أي العبادي، قد يتغافل عن مسألة حكومة التكنوقراط خضوعا منه لجبروتهم وتعنتهم وخوفا من مؤامراتهم وسطوة مافياتهم وكثرة الأموال التي نهبوها من الشعب، وسيعود التوافق كواحد من أهم الأدوات القاتلة التي ستوجه نحو صدر العبادي والشعب وعملية الاصلاح، فالتوافق بالنسبة لهم هو المصلحة المشتركة فيما بينهم، وأي مصلحة أهم من سيطرتهم على مفاصل الدولة برمتها، وبالتالي إبتلاعها؟
الكل لحد الآن متمسك بحصته، وبعضهم يسميها استحقاقه الانتخابي، فإذا بقيت حصصهم وتوافقاتهم كما هي، فهل من تغيير يرتجى؟ الحل برأيي المتواضع هو تشكيل حكومة التكنوقراط المستقلين من خارج الكتل السياسية، ومن لايقبل بذلك عليه أن يذهب ويشرب من البحر.
ثانيا- الفساد المالي والإداري: مئات الملفات للفساد تقبع في أدراج النزاهة المزعومة والقضاء المشلول فضلا عن ادراج الوزراء، كلها لا يمكن معالجتها لسبب بسيط هو أن الفساد والفاسدين والمفسدين، كلهم ينتمون للكتل السياسية، أو على الأقل ضالعين بها بشكل أو بآخر، فأي فساد يمكن القضاء عليه إذا كانت الأحزاب الحاكمة هي التي تتولى أمر معالجته، هل نضحك على أنفسنا؟ ومرة أخرى نصل لنفس الاستنتاج، إذا لابد أن يكون الحل هو تشكيل حكومة التكنوقراط المستقلين من خارج الكتل السياسية، لكي تستطيع تقديم الفاسدين والمفسدين للقضاء والنزاهة.
ثالثا- إصلاح القضاء: كما هو معروف، أن القضاء فاسد ومكبل بسبب تسلط أحزاب المحاصصة على مفاصل الدولة، وهم ألائك المنتمين للكتل السياسية الحاكمة في البلد، ولكي يكون القضاء حرا باتخاذ قراراته وفرض القانون، يجب أن يتم إبعاد الفاسدين وغير الفاسدين المدعومين من كتلهم السياسية عن مفاصل الدولة، وهكذا نجد أن حكومة التكنوقراط المستقلين من خارج الكتل السياسية هي التي ستصلح من أمر القضاء وتقضي على الفساد في هذه المؤسسة العريقة.
رابعا- دوران عجلة الإنتاج: لا يمكن توقع دوران عجلة الصناعة والزراعة وتطوير القطاعات الإنتاجية والخدمية الأخرى دون التخلص ممن ساهموا بإيقاف دوران عجلة الإنتاج لصالحهم، فهم من وقف بوجه تنفيذ القوانين التي تعيد للاقتصاد العراقي دورانه، لأنهم عطلوا كل شيء لكي يستوردوا كل شيء، وهم الذين يقفون على رأس مافيات الفساد وتهريب العملة والاستيراد العشوائي وتكديس الموظفين في دوائر الدولة دون الاستفادة من طاقاتهم، وهم.. وهم.. وهم في كل مرة السبب وراء احادية الاقتصاد وريعيته وباقي أوجه الخراب في الدولة، لأنهم لا يعرفون كيف ينتجون الخيرات المادية، لكنهم يعرفون كيف يسرقون عائدات النفط، فهل من إصلاح يرتجى وهم على رأس السلطة؟ كمن يضحك على نفسه من يفكر بهذه الطريقة، فالحل بلا أدنى شك هو تشكيل حكومة التكنوقراط المستقلين من خارج الكتل السياسية.
خامسا- الحرب على الإرهاب: لاشك إن الفساد والإرهاب شقيقان متلاصقان، فلا يمكن القضاء على الإرهاب دون القضاء على الفساد، لأنه هو الذي يستنزف طاقات الدولة بالكامل، كالطاقات البشرية والموارد الطبيعية ويدمر وسائل الإنتاج، فهل من وسيلة للقضاء على الإرهاب دون القضاء على الفساد والمفسدين؟ واهم من يعتقد أن هناك وسيلة ناجعة غير القضاء على الفساد وحكومات المحاصصة والتوافق الكارثي، لأن توافقهم ما هو إلا نوعا من التآمر على مقدرات الشعب، وهكذا نصل إلى نفس النتيجة، وهي أن الحل يكمن بتشكيل حكومة التكنوقراط المستقلين من خارج الكتل السياسية.
سادسا- الرقابة البرلمانية: لاتوجد لدينا رقابة برلمانية، لأن الوزير ينتمي لكتلة ما، وعلى وفق مقتضيات التوافق، بل التآمر، حتى لو تم استجواب الوزير، فإن الاستجواب سيكون شكليا ونوعا من الضحك على الذقون، ويخرج الوزير وهو لا يفكر إلا بسرقته الجديدة، لكن لو كانت الحكومة من التنوقراط المستقلين من خارج الكتل السياسية، فإن الاستجواب ولا ريب سيكون حقيقيا، والتصويت حقيقيا، والعقوبات المترتبة على الوزير الفاسد او الوكيل او المدير العام ستكون صارمة، بل يدا حديدية ستضرب على رؤسهم.
فعلى الدكتور العبادي التحلي بالشجاعة والإطاحة برؤوس الفساد ويبدل حكومة المحاصصة بحكومة التكنوقراط المستقلين، ولو بقي وزيرا واحدا محاصصاتيا في الوزارة الجديدة، حتى لو كان عبقريا
بتخصصه، فإننا سنعود للمربع الأول، لأن الكل سيطالب بمعاملة بالمثل، كونهم لا يعرفون معنى الحرفية والمهنية بالعمل، حتى لو عرفوا ذلك، فإنهم يرفضون الاستسلام لهذه الحقيقة لأنها ضد مصالحهم.
تبقى العقدة الأهم المتمثلة بالبرلمان، فإذا لم يقر البرلمان حكومة التكنوقراط المستقلين والبعيدين عن المحاصصة الحزبية والطائفية والإثنية فإنه سيكون هو في خط المواجهة الأول أمام الشعب ومؤيديه من مرجعيات رشيدة والعالم والتاريخ، وسيكون الدكتور العبادي هو الرجل الذي سيخلده التاريخ للأبد.