لا شك ان العصرنة بما افرزته من منافع وايجابات في سياق حركة التطور الحضاري والتقدم الإنساني، تظل ظاهرة إيجابية . الا انه يلاحظ من ناحية أخرى، ان الكثير من موروثنا الشعبي اخذ بالانحسار، والتراجع مع زحف العصرنة الصاخب .. وخاصة بوسائلها الرقمية المختلفة .. حيث جذبت اليها فئة الشباب بشكل خاص ، واستهلكت جل وقتهم، وأقصتهم بجلف عن معايشة الكثير من العادات، والتقاليد الاجتماعية،التي كانت حاضرة بحيوية في سياق الحياة اليومية العادية ، وأملت عليهم تبني أنماط سلوكية طارئة،بفعل الاعتياد عليها،ومحاكاتها بطول فترة الاستخدام، والانغماس المتواصل مع واقعها الافتراضي الى حد الادمان،وما يعنيه ذلك من عزلة حقيقية عن بيئتهم الاجتماعية..
وهنا تجدر الإشارة إلى أنه بقدر ما تمثله التقنية الرقمية الحديثة،وأجهزة التواصل الذكية من قفزة إلى الأمام في سياق تطور حياة الناس المعاصرة ، وبرغم كل ما تمثله من حافز مساعد للأطفال، والشباب في التعلم بدرجة كبيرة، وتوسيع أفاقهم الفنية، وتنشيط مخيالهم التقني، الا أنها أصبحت من الناحية الأخرى، خطرا يتهدد سلوكياتهم، ويشوه تكوينهم الوجداني، بنقلها لهم ممارسات غير مألوفة، تأباها عاداتنا،وتقاليدنا ، وذلك من خلال ما تتداوله من برامج ترفيهية، يهبط بعضها بقيمته إلى مستوى الابتذال، حيث تتسلل مفاعيلها السلبية عندئذ إلى نفوس المستخدمين، لتقضم المتراكم في دواخلهم من موروث، دون أن ينتبه أحد لمخاطر تلك التداعيات الضارة على مستقبل منظومة الموروث من التقاليد، والعادات الاجتماعية، وعلاقة الأجيال الحالية، والقادمة بها..
ولعل الملفت للنظر حقا، ان الجيل الجديد من الشباب يكاد يكون بفعل التصاقه الشديد بالواقع الافتراضي للفضاء الاعلامي، والمعلوماتي، وانغماسه الكلي فيه، والتماهي التام مع معاييره، قد انفصل عمليا عن واقعه الاجتماعي الحقيقي، فلم يعد يتفاعل مع الوالدين، والجدات،والآخرين، بنفس روحية، وحميمية الجيل السابق،فبدأ يفقد دفء العلاقة الروحية مع العائلة، والأقارب، ويخسر التواصل مع ذاكرة الماضي، بالانفصال عن الاستماع لحكايات كبار السن في مروياتهم في أحاديث السمر بالمجالس ، وخسارة تلقي احجيات الجدات في المساءات الحالمة أيام زمان ، وبذلك تعثرت سلاسة حركية الحال التراثية ، حتى وان كانت تلك الحال في جانب منها ذات طبيعة خرافية، أو اسطورية، الا انها تترك في نفس الجيل من الشباب، والصبية، والاطفال،ملكة الخيال،وتنمي لديهم القدرة على التصور، وتفجر عنده طاقة الإبداع ، وتزيد اصرة الألفة العائلية،والاجتماعية، من خلال اسلوب التواصل الاجتماعي الحقيقي التقليدي ، بما هو آصرة مجتمعية تراثية متراكمة، متناقلة من جيل الى اخر.