الجزء الثاني
وتتسارع الأيام وتمر السنين، وفي إحدى زيارات الأستاذ عبد الحق إلى إحدى المدارس داخل المدينة، وعند دخوله إلى غرفة إدارة المدرسة، استقبلته المديرة، وكانت هي نفسها تلك المعلمة التي تعرف عليها قبل سنوات، ولكن هناك اختلاف واضح في ملامح الوجه. فسألها مباشرة عن الأسباب، فقالت له: لقد حاولت مرارًا مقابلتك لأشرح لك الظروف التي مررت بها، ولكن دون جدوى. وقد انتهى كل شيء يا أستاذنا الفاضل، فأنا كما تعرف من عائلة إقطاعية، وبما أن الحكومة الجديدة قد قضت على الإقطاع وأممت القطاع الزراعي بشكل كامل، فقد صادروا كل أملاكنا. ولولا حكمة الله وعملي الوظيفي، لكنت أنا وعائلتي الآن في ظرف صعب جدًا. هذا هو قدرنا في الحياة ولا مفر منه. أراد أن يبوح لها بكل ما في قلبه، وأن يقول لها: أين كنت أيها الضوء الوهاج في عالمي المظلم؟ لقد شغلتني أيضًا عنك أمور الحياة، وكلما أتذكرك بين الحين والآخر ربما الحواجز الوظيفية تمنعني أنا أيضًا من البحث عنك. وها أنا اليوم ألتقيك صدفة، ورب صدفة خير من ألف ميعاد. سألها هل هي متزوجة أم لا، فقالت له بطريقة رسمية: سوف أهدي إليك، أستاذي الفاضل، كراسة تتحدث عن حياة تلك المعلمة التي وصلت إلى قريتكم ولم تدوم فرحتها هناك كثيرًا. وفعلاً، أخرجت من الدرج الموجود أمامها كراسة صغيرة، فأخذها وأنهى زيارته إلى المدرسة وعاد إلى عمله في المديرية العامة للتربية. ومن باب الشوق وحب الفضول، ما إن وصل إلى مكتبه حتى بدأ يقلب صفحات تلك الكراسة التي وجد بها عجب العجاب. كانت تكتب فيها ذكرياتها يومًا بيوم منذ بدايتها في مدرسة القرية وتعارفها على الأستاذ عبد الحق، حيث تقول في أولى صفحاتها: هنا في القرية النائية تعيش بنت المدينة ليصطدم قلبها في الأيام الأولى بذلك الشاب القروي الأسمر البنية، مفتول العضلات، ذكي بشكل مفرط. تقرأ في ملامح وجهه الطبيعة الريفية وتجد في طيبة قلبه أنه يستطيع أن يزرع الطيب في كل مدن العالم. فأين سيكون موقع تلك المعلمة ابنة المدينة لدى هذا الشاب ابن هذه القرية؟ أرى حركاته وعيونه لا تفارقني، ولكنه من باب الخجل والحياء والعادات والتقاليد المتعارف عليها هنا بين أبناء الريف يفرض الاحترام المتبادل بكل شيء بيننا… أحاول أحيانًا أن أصارحه بما في قلبي، ولكنني لا أستطيع البوح به حتى لا يعتبرني سلعة رخيصة أو فتاة غير ناضجة. كل ما أعرفه وأستطيع أن أكتبه أن قلبي يقول إنني أحبه وأعشقه كثيرًا وأتمنى أن أكون زوجة له في المستقبل. ثم قام بتقليب أوراق الكراسة ليصل إلى إحدى الصفحات وهي تكتب: لقد فارقتنا الأقدار شئنا أم أبينا، وعادت بنت المدينة إلى ضجيج الشوارع وإلى البروتوكولات الرسمية في العوائل التي يعتبر أصحابها أنهم من العوائل الراقية، لا يعرفون داخلهم ما هو الحب ولا يعرفون شيئًا عن حياة الفقراء. كل ما يهمهم جمع أكبر ثروة من المال، رغم أنهم لم يشعروا بالسعادة يومًا بسبب هذه الأموال والأملاك الطائلة. ثم تكتب في إحدى الصفحات وتقول: اليوم يعتبر أسوأ يوم في عائلة النجار، هذه العائلة التي كانت بالأمس تملك آلاف الدونمات من الأراضي الزراعية والأملاك، وأصبحت بقرار واحد من الدولة عائلة فقيرة لا يعرف أفرادها أي عمل آخر. والذي كان بالامس القريب يستهزئ بالراتب البسيط الذي أستلمه كمعلمة يأتي إلي اليوم وهو بأمس الحاجة إلى ذلك المعاش. ما أقسى الحياة عندما نتصور أننا ملوك فيها لنكتشف أننا عبيد ومن الطبقات الدنيا. كل عائلتي كانت خسارتهم مادية كبيرة، إلا أنا فقد خسرت المادة كما خسرت قبلها ذلك الحبيب ابن الريف، ذلك القروي الذي ربما ابتعد عني بسبب فارق الطبقات الاجتماعية، لأنه لم يتكلم معي ولم يحاول بشجاعته المعروفة أن يصارحني بما في قلبه..انتهى..
. وما إن قرأ هذه الكراسة ودققها بكل تفاصيل كلماتها حتى توجه فورًا عائدًا إلى نفس المدرسة ليسألها نفس السؤال عن وضعها الاجتماعي، فتقول له: ما زلت غير متزوجة، أنتظر ذلك الفارس الذي أخشى أن لا يكون لي منزلة في قلبه. فتبسم لها الأستاذ عبود وأعلنها بكل صراحة أن الشعور المتبادل موجود داخله منذ أول لقاء، وأن كل الكلمات التي كتبتها في الكراسة هي واقع الحال. فتقدم لها ووفقهم الله للزواج وبارك به، وهكذا اكتملت قصة الحب العذري الذي بدأ في تلك القرية النائية بين تراب تلك الحقول واكتمل بين جدران المدينة وضجيج الأسواق بالباعة، لتولد عائلة جديدة تجمع بين المدينة والريف وتشق طريق حياتها بكل طمأنينة ومحبة وسرور…
ملاحظة:- هذه القصة من الواقع والخيال جرت احداثها في احدى المدن والقرى العراقية ولكن مؤلفها قد قام بتغيير الاسماء… شكرا لكم لقرائتها…