22 ديسمبر، 2024 11:59 م

العشق الذي مات قبل ان يولد…. قراءة في رواية ” ياسمين ” لأيلي عامير

العشق الذي مات قبل ان يولد…. قراءة في رواية ” ياسمين ” لأيلي عامير

من بين الروائيين الاسرائيليين الجدد ، الروائيون ذوو الاصول الشرقية ، نجد بينهم روائي اسرائيلي حاذق ومتمرس ينتقي موضوعاته بعناية وبدقة متناهية لم نجد لها مثيل لدى اقرانه. انه الروائي الإسرائيلي ” ايلي عامير ” المنحدر من اصول عراقية . عامير ابن حي البتاوين في بغداد ، يمتاز بدهائه المنقطع النظير في اسلوب الكتابة وراويا وعارفا باهله و مجتمعه وما يدور في نفوس اناسه ، اذ انه ذاق مرارة الظروف السياسية التي مر بها يهود العراق والتهجير إلى إسرائيل ، ارض الاحلام والميعاد . ثم المكوث في معسكرات الايواء أو ما تسمى بالـ ” المعبرا “، ادت هذه الأمور إلى جعله انسانا ملما بجراحات اهله وما الم بهم على مر عقود من الزمان ، وما تلاها من انعكاسات اثرت في حياة المجتمع اليهودي الجديد منه والمعاصر.
” ياسمين ”
صدرت رواية ” ياسمين” عام 2005 ، وتروي قصة عشق لم يكتب لها النجاح بين “نوري” وهو جندي اسرائيلي من أصول عراقية مع ” ياسمين ” الفلسطينية المراة المثقفة ، تدور أحداث الرواية في الفترة التي تلت حرب حزيران ( حرب النكبة عام 1967 ). في الحقيقة فان هذه الفترة ، قد شغل المؤلف فيها مستشار لرئيس الوزراء الإسرائيلي لشؤون العرب ، ونشط على وجه الخصوص في القدس الشرقية . وتستعرض الرواية ما يجول بخاطر المؤلف في تلك الفترة ، وما واجهه فيها وما صادفه من السكان العرب هناك . من خوف وهلع إبان هزيمة الجيوش العربية مرة أخرى .
بطل الرواية ، نوري ، هاجر من العراق مع عائلته ، يقطن والداه في القدس ، اخاه يعمل جاسوسا لصالح الموساد ، واصيب في المعركة . أما نوري فقد عمل مستشارا لشؤون العرب . في إطار عمله هذا يحاول مساعدة السكان العرب بغية تغيير الفكرة السائدة على الاحتلال الصهيوني . إذ أصبح بذلك صديقا للعديد من العوائل العربية الراقية في القدس الشرقية ، على أثرها وقع في حب ابنة احد التجار ، واسمها ياسمين ، وهي مسيحية مثقفة ، حاصلة على شهادة الدكتوراه من فرنسا ، يحاول والدها تفريقها عن زملائها في الدراسة المنضمون إلى حركة فتح ، ويطلب من نوري إن يجد لها عملا يليق بها . وفعلا ، وجد لها عملا ، ومع الأيام أخذت علاقتهما بالنمو والتطور إلى درجة الجنون ، حتى ايقن الاثنان بان هذا الحب لن يكتب له النجاح . تنهي ياسمين الرواية بمقطع من اغنية أم كلثوم ” أنت عمري “. ويشير عامير إلى اعتراف بطله نوري باشتياقه إلى بغداد ونخلها ، وبكنه يابى الرجوع إلى هناك كي لا يصبح مواطنا من الدرجة الثانية :
” إنني اتوق شوقا لدجلة وللنخيل ولبيتي في بغداد ، بيد إنني لن اعود إلى هناك أبدا ، فلا ارضى إن اكون مواطنا من الدرجة الثانية ” ( ص 352 )
وهنا يمكننا إن نقول : إن عامير يحاول إن يعرض لنا صورة الإسرائيلي المكبّل بقيود الماضي ، ذلك الاسرائيلي الذي ينحدر من أصول عربية وما يلاقيه من صعوبات بتأرجحه بين الماضي الذي لن يعود والحاضر المرير والمستقبل المجهول .
إن الغاية من استعمال شخصية النساء العربيات التي يعرضها الأدباء الشرقيون أمثال ” سامي ميخائيل ، شمعون بلاص وايلي عامير ” بوصفها تجربة لحرية الثقافة الإسرائيلية ، هي قدرتها على خلق وجود حقيقي لثقافة اسرائيلية عريقة – على ما يبدو – . بيد إن وجهة نظر هؤلاء الأدباء الحديثة لا تترك مجالا للشك حيال خلق مواقف قومية وسياسية . إذ إن السؤال حيال الوجود الإسرائيلي في فلسطين أو الوجود الفلسطيني في إسرائيل لم تظهر بين صفحات الكتب وهذا المؤلفات الأدبية القيّمة. إنما تطرقت فقط إلى آلية الصراع العربي – الإسرائيلي فضلا عن مواضيع اجتماعية وثقافية فقط.
أما في رواية ” ياسمين” فإننا نجد – ولاول مرة – إن الهوية المزدوجة (العربية اليهودية ) قد تُرجمت للعلاقة السياسية الشاملة. إذ تتطرق الرواية إلى السنة الأولى لانتهاء حرب النكبة ، فضلا عن وجهة نظر العرب في القدس الشرقية ، والتي يعرضها عامير في شخصية ابو نبيل المسلم المتطرف وابو جورج المسيحي المثقف ، بين نظرتي تطرف وتطرف اقل ، وعلى وجه الخصوص ، وجهة نظر ياسمين ، التي ترمّلت وهي ما تزال صغيرة ، قضت خمس سنوات من الدراسة في باريس ، وعادت للمكوث مع اهلها .
ومن وجهة أخرى ، تتطرق الرواية إلى وجهة نظر نوري ، اليهودي من أصول عراقية الذي يشغل الآن منصب المستشار لشؤون العرب ، الخاص بالوزير الذي قتل والده أمام ناظريه قبل سنوات . وكذلك عائلة نوري ووالداه ، كما لو كانت صورة جماعية تعرض الاختلاف الايدولوجي للوعي القومي الإسرائيلي والفلسطيني من دون إيجاد أي رابط مشترك للاثنين . وبهدف وصف الحوار السياسي الدائر بين الجانبين ، فان المؤلف قد اضطر لاقحام جمل ذات جمالية أدبية للحوار بين اليهود أنفسهم ، وبين العرب وبين أنفسهم ، مع ذكر الحوار الساخن بين الطرفين : أحقية اليهود المزعومة بفلسطين ، واحقية العرب الشرعية فيها ورفضهم للوجود الصهيوني . فضلا عن وصف العادات والتقاليد لكلا الجانبين بصورة مفصلة ، وخصوصا في تلك الفترة العصيبة ، فترة حرب النكبة وما تلاها من أحداث وانهيارات المت بالمجتمع الفلسطيني .
في الحقيقة ، لم تلق رواية ” ياسمين” النجاح المعهود لها لولا انتشار الكتابة الذاتية في الأدب الإسرائيلي في الآونة الأخيرة ، كما هو الحال لدى كتب من أصول عربية أمثال ( يتسحاق لائور ، رونيت مطلون ، ميخال غوبرين وآخرون ) ، التي تطرقت إلى علاقة الحب المتناقضة ، أي اليهودي – العربية ، أو العربي مع اليهودية ، هذه المواضيع التي حجزت لها مكانا في الأدب الإسرائيلي . بيد إن عامير يعارض الكثير من الأدباء في طرحه لهذه الرواية ؛ فهو يختلف عن باقي الأدباء بعدم اقحامه لهويته العربية والأفكار الرجعية ، إنما تطرق إلى هويته بوصفه اسرائيلي – من أصول عربية .
إن معرفة عامير بالهوية المزدوجة ، مكنّت نوري بطل الرواية لعرض الخلاف الناتج بين مشاعر النابعة من بؤس المُحتلين وبين عمله الحكومي بوصفه مستشارا في حكومة الاحتلال . وبذلك فان فهم شعور الناس القابعون تحت وطئة الاحتلال منعته من اضفاء لون المحبة للاحتلال الإسرائيلي وخصوصا للفلسطينيين الذين يضطرون إلى التفتيش والى ممارسات الاحتلال اللا اخلاقية ، وهذا ما دفعه إلى تقديم استقالته . وفي حوار دار مع نوري وابو جورج يعرض فيه الآلام المواطن العربي الفلسطيني بعد الاحتلال : ” طردتم الآلاف من شعبنا واحتللتم مقدساتنا ” ( ص98)

إذ إن موقفه هذا لم ينبع من هويته العربية فقط ، أو مشاركة الآخر مشاعره ، كما هو الحال مع الأدباء المذكورين انفا ،إنما من شعور النازح والمهاجر القابع في اعماقه ،والذي سُلبت منه هويته ووطنه ، وهو بذلك يشارك المواطن الفلسطيني بمأساته . ويذكر عأمير في رواية حوارا دار بين ابو نبيل وابو جورج يوضح فيه وجهة نظر العرب تجاه اليهود :
” نحن نقنع انفسنا باننا سنرميهم في البحر واهمين ” ويجيبه ابو نبيل قائلا : ” إن الأموال والانفس والدماء تذهب إلى الحرب بدلا من بناء المجتمع وتطويره ” ( ص 257 ).
فضلا عن لقاءاته المتكررة مع الشخصيات العربية سمحت له بابداء وعرض المواقف السياسية الفلسطينية ، التي عارضها منذ البداية . أما اللقاء الشخصي بين نوري وياسمين ، الذي تحول رويدا رويدا إلى علاقة حب ، أثار في نفسها ثورة جذرية ليست في الحسبان : إذ تحولت من شابة مناهضة للاحتلال الصهيونية بشدة إلى انسانة متفهمة ، إذ تقول : ” إن المحتلين يسيرون ، مثلنا ، حاملين جراحات في القلب ” (ص 378 ) . ولم يرغب عامير بتحويل العدو إلى حبيب ، الآن إن هدفه هو الإشارة إلى إمكانية تقبل الآخر بجميع مساوئه وعلى اختلاف ارائه ووجهة نظره .
ومن ناحية أخرى ، ألقى عامير على بطله مهمة التقارب بين الحبيبين المزمعين ، لذا كان واثقا من إن لغة آبائه العربية ستفي بالغرض. بيد إن العاشق قد فشل في هذه المهمة ، ولم يفلح في توحيد اللغة بـ ” حوار الحب ” أو في الحوار السياسي الذي بُني عليه كل الحوارات بين الاثنين ، أو بين نوري وعائلة ابو جورج . حيث فضّلت ياسمين التحدث باللغة الانكليزية ، لا بالعربية لغة ابائهم ، ولا بالعبرية اللغة التي يجيدونها. وهنا إن دل الأمر على شيء إنما يدل على الطابع السياسي للعلاقة . ويصف نوري فشله هذا بقوله : ” اردت إن اخبرها ، اخبرها بالعبرية أو العربية أو بأي لغة في العالم ، كل الأمور التي حلمت بها طوال عام ، بيد إن ضعفي ووهني قد انساني كل شيء ” ( ص 393 ) .
إن موضوع الرواية هو موضوع مالوف في الأدب العبري الحديث ، وخصوصا العشق بين شابة يهودية وشاب عربي أو بالعكس . أول من تطرق إلى هذا الموضوع في الأدب العبري الحديث هو الأديب ( موشيه سيملانسكي ) بقصته ” لطيفة ” عام 1906 . إذ أشار إلى استحالة المهمة التي تقضي بقطف امراة عربية من مجتمعها وتهويدها ، فهو أمر في غاية الجنون . و يعزو كلا الاديبين الأمر إلى فشل العاشق بإيجاد امراة تبادره المشاعر في مجتمعه، الأمر الذي يدفعه إلى البحث عن المميز والجميل . فقد وصف سيملانسكي عن المرأة اليهودية التي تزوجها فقط لكونها تشبه تلك العربية ” لطيفة ” ، وكذلك الحال مع عامير وبطله نوري الضعيف في إقامة أية علاقة مع امراة إسرائيلية ، وبقي حبه منصبا في ياسمين الذي تحول شيئا فشيئا إلى وهم وكابوس انتهى بكلمات . إذ اضطر البطلان إلى الاعتراف بصعوبة علاقتهما بسبب اختلاف هويتهما القومية التي لا يستطيعان التخلي عنها .
في الاطار نفسه ينتقل الكاتب العارف باحوال الشريحة من خلال شهادات حقيقية وواقعية ، بهدف تحويلها إلى احداث سياسية او اجتماعية صنعت من حياة اليهود والعرب مجرد انتقالات ، وهم لا يكادون يستقرون على حال ، نظر اليها الكاتب بعين العدالة من غير تحيز ، بل بدافع الانسانية والتعاطف مع العرب – كما صرّح في احد اللقاءات الأدبية – ، إلا انه لم يتخلى عن هويته الصهيونية ، بل تفاخر بها ووصفها بأنها السبب في تحقيق حلم اليهود في احتلال فلسطين وارجاعها إلى أحضان اليهود. إذ يقول ابو جورج : ” نقتلهم ويقتلوننا ويتفرج العالم علينا كما لو كنا في مصحة للمجانين ” (ص 69 ).
ابتعد عامير في روايته هذه عن عقدة التهجير القسري ، والواقع المرير ليهود العراق في إسرائيل بعد التهجير. هذه العقدة التي رافقته وكانت الحبكة الرئيسة في رواياته السابقة ، وابتعد أيضا عن مواضيع الاضطرابات داخل العائلة والتفكك الاسري التي كانت لها وقع كبير في رواياته السابقة ، إنما عرض بطله كانسان مزدوج الهوية يقع في حب امراة مثقفة تعي خطورة الموقف . فهو لا يستطيع التخلي عن دولته التي يمثلها بمنصبه ، ولا عن كيانه كيهودي . ففي نهاية الرواية ياخذ نوري حبيبته ياسمين إلى مقبرة ” كينيرت ” وهي المقبرة التي دفن فيها مهاجروا الموجة الثانية أو ما يسمى – الهجرة الثانية – ليطلعها على اباء ومؤسسي الصهيونية ، وهنا تعي ياسمين استحالة تخلي نوري عن أهداف اسلافه ، وفي الوقت نفسه يؤكد نوري لها على ثبات موقفه ودعمه لابائه مؤسسي الصهيونية ويبقى محافظا على عهده لهم . وبعد تبادل النظرات ، يعي الاثنان انه قد مات حبهم إلى الابد وحان الوقت لدفنه ، ليرقد هو الآخر في المقبرة .
” إن قضيتكم على ما يبدو ، أكثر تعقيدا من يحلها الملك سليمان ، فهنا لا يمكن للانسان التنازل وعليه لا يمكن التخاذل والتغاضي ، افهم يا حبيبي ، لا يمكن سلك هذا الطريق ” ( ص 410)
ان ماتقدم يجعلنا نؤكد ان الكاتب بلا شك يعكس جزءا او كلا من ملامحه الشخصية في روايته ، اذ يحملها شخوصه ، فكاتبنا متميز بشكل مدهش بالاستماع والتقبل لفكر الاخر ، مما جعل يتيح الفرصة لشخوص الرواية بالافصاح عن مشاعرهم مهما ضؤل دورهم او ضعفت ثقافتهم ، فهيأ لهم المساحة الكافية للتعبير عن انفعالاتهم داخل النص .
واخير اقول ، لست بمعرض عن تقييم هذا العمل الملهم في تاريخ الأدب الاسرائيلي، لذلك اسمحوا لي بدلًا عن عبارات الإطراء والمديح التي تتذيل دائمًا كل قراءة لرواية مهمة أن اعترف بان عامير قد نجح بتوثيق رحلة الالم والمعاناة لبطل روايته والذين معه بل لشريحة كبيرة من المجتمع ” العربي – الإسرائيلي ” الذين طالهم الإهمال فجاء ليزيح عنهم غبار الزمن لتلك الرحلة ويشحذ بكلماته الذاكرة الجمعية الغافلة بل اصابها العطب بسبب تردي الوضع ولم يلتفت لمن كتب تاريخ اسرائيل السياسي حقا.