يبدوا للوهلة الاولى ان طرح قانون ينظم عمل العشائر العراقية ويدفعها نحو زيادة اللحمة الوطنية امر مستحسن, ولكنه ينبأ ان تلك العشائر لم تقم بهذا الدور من قبل, ولم توجد لها ضوابط واليات تدفعها لذلك, ومن هنا يطرح سؤال هل تحتاج العشائر العراقية الى أمثال هذه القوانين؟ وهل هي فعلا تفتقد الى قوانين وان كانت ليست مكتوبة ومعتمدة لدى الدولة؟ هذا السؤال يأتي بعد التنزل عن الكلام في ان هذا النهج هل يتوافق مع الحياة المدنية التي نطمح لها ام لا؟!.
ان الغاية من كتابة اي لائحة سواء كانت دستور او قانون هو ان تشيع روح تلك اللائحة ومبادئها في المجتمع, لذا يغدوا من العبث ان تكتب قوانين لتنظم امرا يطبقه المجتمع بالفطرة, وهذا ما نلاحظها في بريطانيا اذ انها تستغني عن كتابة الدستور الذي يقر النظام الديمقراطي في البلد, لان روح الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة قد تأصل في ضمير الانسان البريطاني, فأي دعوة لكتابة من هذا القبيل هي للحماقة اقرب منه للحكمة.
يطالعنا التاريخ بوجود كيانات علمية واجتماعية ادى تقنين عملها والحاقها بالدولة الى تقزيم دورها العلمي والاجتماعي, فذلك الازهر الشريف بعد ان كان مدرسة علمية تزخر بالافذاذ, وتخرج العلماء الكبار في علوم الشريعة وكثير من العلوم العقلية, أدى تقنين عمله والحاقه بالدولة وتدخل السلطة في اختيار مشايخه؛ الى تراجع دوره العلمي والاجتماعي بشكل مخجل, وفي المقابل بقيت الحوزة العلمية في النجف الاشرف وغيره محتفظه باعرافها وتقاليدها دون الخضوع لارادة الحكام, ورفض اي قانون ينظم عملها واختيار قادتها, وقد ساعدها ذلك الى ازدهار وجودها العلمي, وتألق دورها القيادي في المجتمع.العشائر العراقية ايضا من تلك الكيانات التي نعتقد ان تأطير عملها بلوائح قانونية وربطها بالدولة, سوف يضعفها كثيرا ويؤدي الى تراجع دورها في المجتمع, ولكن هل من المعقول ان تنتج الفوضى النظام؟ (كما طرح بعض من دعى الى مأسسة المرجعية الدينية) !!
ان من يعتقد تلك الكيانات الرائدة في المجتع وعلى رأسها المرجعية الدينية والعشائر لايوجد لها قانون فهو من الخدوعين بضرورة ان تكتب القوانين, ولا يعي ان هناك قانون غير مكتوب تسير عليه تلك الكيانات المباركة, وهو ما يمكن ان نسميه بقانون القيم. فالمرجعية الدينية يحكمها قانون القيم والذي من اهم مواده الاعلمية بما تشمل من دقة, وبعد نظر, وحكمة في التعاطي مع جميع الامور, اضافة الى العدالة التي تشمل التقوى, والورع, والزهد, والكلام في هذا المجال طويل…
والعشائر ايضا يحكمها قانون القيم, الذي من مواده غير المكتبوبة الكرم, والشجاعة والنخوة والسعي في قضاء حوائج الناس, واكرام العشير, وعلى هذه الاسس يتم التفاخر بين العشائر, وبين افراد العشيرة الواحدة, وبهذا القانون الطبيعي, يسعى شيخ العشيرة ان يكون الاول في تلك القيم حفاظا على ود عشيرته واحترامهم له وهذا ما كان سائدا في تاريخ هذه العشائر الى ان تدخلت يد السياسة في تنصيب بعض المشايخ ودعمهم فشاعت الاقطاعية والظلم واخذ الشيخ يسعى الى ارضاء الدولة وان بالجور على افراد عشيرته ولاينكر احد ان كثير من الشيوخ قد بقيت مكانتهم محفوظة لدى ابتاعهم بما حافظوا على تلك القيم واصلوها.
ان مقترح القانون الذي يسعى بعض البرلمانيين الى اقراره يحاول عبثا ان يدرج عمل العشائر ومشايخها في اطار بيروقراطي غير منتج ويسلب منها فاعليتها كما انه يتجاهل دور قانون القيم الذي يحكمها والذي يجعل المفاضلة بينها على اساس تلك القيم الفاضلة وليس الولاء لاصحاب السلطة والمال, وهذا ما ينعكس سلباً على افراد العشيرة وعلى المجتمع بصورة عامة.