الانهيار السريع لمنظومة القيم الاجتماعية والسياسية والدينية بعد سلسلة من الهجمات المتوالية للكوارث والازمات والنزاعات والصراعات والحروب هي اقرب الى موت الامة منها الى الانكسار او الانتكاسة التاريخية,لان الانحطاط والانحراف يحكم قبضته بطريقة شاملة,كما تحكم الانظمة الشمولية شعوبها بقبضة حديدية قاسية…
الاختلاف بين مصطلح المجتمع الاثني او العشائري وبين العشائرية الاجتماعية(او الاثنية اوالطائفية او العنصرية او الاصولية والرادكالية الاجتماعية),يعني انها مصطنعة على يد جماعات نفعية او انتهازية متطرفة,او جاءت نتيجة طبيعية لماحدث من ازمات كارثية كبيرة(كظاهرة عسكرة المجتمع),واسباب وظروف اجتماعية وسياسية محلية ودولية عديدة(كالحروب والحصار الاقتصادي,او انهيار الانظمة او الاحتلال الاجنبي الخ.),
بعد ان يتراجع الوعي الشعبي العام الى ادنى المستويات,ولعل من اسباب تصاعد اليمين المتطرف السياسي والاجتماعي في اوربا,ومجيء رؤساء لاحزاب وحكومات فيها غير اكفاء(بل لايفهمون لا في السياسة ولا الاقتصاد),ادت الى ماوصل اليه العالم اليوم في التعامل مع الازمة او الحرب الروسية الاوكرانية
(السؤال هل كان بالامكان تجنب الحرب؟ الجواب نعم ممكن بشروط:عندما يفكر القادة والرؤساء الاذكياء بأن مناطق الحياد التي ولدت بعد انهيار الاتحاد السوفيتي يجب ان تبقى كذلك,وان يتم التنافس او صد التمدد الروسي الصيني في منافذ ومناطق مابعد الحياد اي في ميدان الصراع والتنافس الدولي المشروع على الموارد والمنافذ وطرق التجارة والهيمنة والاقتصاد العالمي الخ.)….
منظومة القيم الاجتماعية العامة لاي امة او شعب يختلف تبعا للتاريخ وللحضارة والتراث وللمقومات والانجازات والمقدسات الخاصة بها,ففي البلاد العربية تستند اسس تلك المنظومة او تعود مرجعيتها الاساس الى الدين ومن بعد الطائفة,ثم يأتي دور الاعراف والتقاليد الاجتماعية العربية(القبلية والعشائرية والبدوية),والثقافات او الحضارات الخارجية المؤثرة فيها(الحضارة الفارسية والتركية وحتى مايقال بالهندية),
فالصراع والتنافس والغلبة او المعركة الدائمة التي تؤثر بشكل مباشر في تركيبة النظام السياسي والمجتمع,هي التي تندلع بين الدين(والطائفة)من جهة وبين القوة القبلية او العشائرية الاجتماعية المسلحة,مع طبيعة النظام السياسي من جهة اخرى,
اذا تغلبت الاولى بمساعدة الدولة والنظام, استقرت منظومة القيم وهدأت الدولة ونامت الفتن الاجتماعية(ولهذا كان الاستعمار العثماني وحتى الانكليزي يتفاوض بين تلك القوتين دائما اي القوة الدينية والقبلية قبل الاتفاق مع القوى والاجزاب المدنية),
وان تفوقت الثانية بحكم الظروف السياسية السيئة,تنتقل الدولة والمجتمع الى مرحلة الفوضى العارمة,اي حالة غياب سلطة الدولة والقانون,وصعود سلطة العشيرة ولغة السلاح والدكات والفصول العشائرية الخ…
كما يحصل الان في العراق ,الذي جاء نتيجة التقلبات السياسية ,مابين فترة حكم العشائر الغربية بعد 1968,وبين عشائر الجنوب والعشائر الكردية في الشمال بعد 2003…
العودة الى منظومات القيم البدائية ,تعني ان الدولة والمجتمع يسير عكس حركة التاريخ او الحضارة الحديثة,
بعد ان شهدت مدن تلك الدولة نوعا من الحياة المدنية العصرية,فالعراق -بلاد الرافدين ليس مجتمع قبلي او عشائري انما مدني منذ فجر الحضارات الاولى,هذا لايعني ان البلاد ليس فيها قبائل وعشائر عريقة ومتجذرة في الارض منذ القدم,ولكن المجتمعات المتنوعة او المتعددة الاديان والطوائف والاعراق والثقافات
ليست مجتمعات مغلقة على لون او طائفة او عرق واحد,بل هي امم مفتوحة ومتداخلة مع الاخرين,تارة بحكم الدين ,وتارة متعلقة بحكم الجغرافية او طرق التجارة والنقل الخ.
خطورة العشائرية الاجتماعية تكمن في انها تكون سلطة غاشمة منفلتة في الدول الديمقراطية الحديثة,تقف عقبة امام ترسيخ سلطات الدولة الدستورية الثلاث(القضائية والتشريعية والتنفيذية),
تزداد وتضعف قوتها تبعا كما قلنا لطبيعة وقوة النظام السياسي القائم
(العشيرة تفرض عليها الظروف ان تكون سلطة غاشمة لرد اعتداءات بقية العشائر المعتدية او الضالة,مع ان الدولة لايمكن ان تبنى دون سواعد ابناء العشائر انفسهم, لانهم هم يمثلون النسبة الاكبر من الشعب,ولكنهم مجبرين احيانا على هذا الخيار, لاسباب الفساد والفشل السياسي وضعف السلطة القضائية والاجهزة الامنية,وهذه ظواهر ظهرت في اغلب الدول الفاشلة, بما فيها دول اوربا بعد الحرب العالمية الاولى وبدايات عودة الحياة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية مع الفارق),ماحصل بعد 2003 اصبح صوت ودور القبيلة او العشيرة مهما في زيادة عدد نواب الكتل البرلمانية,
اضافة الى ان قسم من العشائرالضالة تمتلك قتلة متمرسين, استفادت منها بعض التيارات السياسية المتطرفة والمليشيات المنحرفة لاسكات صوت المعارضين والمحتجين على اسلوب وطريقة ادارة الحكم,والاستأثار بثروات الشعب والاستحواذ على المناصب الحكومية,وهم من اشاع ثقافة الغدر(لان المسلم المؤمن لايغدر),لانها تعد من الاساليب المشهورة في تنفيذ الثارات العشائرية,
مع العلم ان اغلب ابناء العشائر وبالاخص المتعلمين منهم يرفضون الاسلوب الابوي البدائي
الذي يمثله شيخ العشيرة وابناءه عليهم,ويطمحون لرؤية دولة مدنية تشبه دول الخليج العربي المجاور لهم(وهم ايضا مجتمعات قبلية وعشائرية لكنهم منذ البداية عرفوا انهم ليس اهل تطور وحضارة تكنولوجية ,ولهذا سلموا امور دولهم للمندوب الاجنبي),بعيدا عن مطاحن الفتن والنزاعات المسلحة والثارات المتبادلة…..
ان احد اهم طرق معالجة الامراض بسهولة هو التشخيص,ومن ثم تأتي مرحلة طرح العلاجات,نعتقد ان اهم مراحل انطلاق اسس اصلاح المجتمعات البدائية ,هي ان تبدأ بالنظام السياسي, بهدم القواعد والاسس الخاطئة التي قام عليها,عبر التفكير الشعبي الوطني الجاد بضرورة صناعة وايجاد البديل الوطني المحكم,ومن اهم هذه الاسس او القواعد القابلة للتطبيق والانقاذ كما نعتقد هي كما يلي:
اولا:قناعة ابناء القبائل والعشائر ان الدول الحديثة المتقدمة هي اب وام المواطن وليس الاسرة او العشيرة الخ.
تقع على عاتقها مسؤولية توفير الخدمات العامة والصحة والتعليم المجاني,وكذلك الوظيفة والسكن والامن والامان الخ.
ثانيا:قناعة المجتمع بان الدولة كيان اجير عند الشعب,يعمل اربع وعشرين ساعة على مدار اليوم والشهر والسنة ,ويسهر على خدمته وصحته وامنه ورفاهيته,وفق شروط العقد الاجتماعي المبرم في الدستور
ثاثا:دولة الزعامات والمليشيات والمافيات وشيوخ القبائل والعشائر لاتبني دولة المواطن,انما هي تؤسس لطبقية اجتماعية جاهلية,وسياسية بدائية تتوارث الحكم والسلطة والثروة
رابعا:فلسفة البدائل وايجاد الحلول السياسية والاجتماعية والاقتصادية ليست فلسفة وقتية او مرتبطة بظرف او وظواهر معينة,
انما هي من السنن الكونية المتواصلة,فالحياة بلا تطور لامعنى لها ,ولايمكنها الاستمرار,ولهذا التفكير بالتغيير لايعد من الامور الثانوية او الجانبية,انما هي الاساس في كل شيء,
كيف وان ترك.. جاء الجحيم والكوارث والدمار والويلات بديلا عنه,
ولهذا هي تعد بمثابة واجب انساني اخلاقي قبل ان يكون وطني شرعي
خامسا:العشائرية الاجتماعية تجلب العنف وتزيد في نسبة التوحش في المجتمع,وهي تخالف طبيعة التطور الحضاري الانساني في العالم,الذي اسس لدول مدنية متطورة
(تلك التي لاتقدم خدماتها لمواطنيها فقط, بل حتى للاجئين,وقد استقبلت الملايين),
من هنا لابد ان يعمل الجميع على بناء مدن مدنية خالية من الاعراف والتقاليد العشائرية,تخضع للنظام والقانون الرسمي الحديث
سادسا:صناعة الفكر السياسي التنموي ,الذي يمكنه ان يضع البرامج والخطط المرحلية والمستقبلية,الكفيلة بتوفير اسس العدالة الاجتماعية وفرص العيش الكريم لجميع المواطنين دون تمييز..الخ.
التخلف والعودة الى الوراء ليس خيارا عقلانيا ,
انما انتحار بطيء,وموت سريري للنظام العام,واستمرار همجي لنظام الفساد والفوضى,
وضياع غير مبرر للعمر,وصناعة سيئة لطريقة الحياة العبثية,وسادية متوحشة لجني الثروات وسحق الفقراء والمحرومين…