23 ديسمبر، 2024 2:14 ص

العرب والخيار الأوروبي

العرب والخيار الأوروبي

كان مهماً بعد النكسة التي أصابت أوروبا، إثر تفضيل بريطانيا الخروج منها، أن تستعيد الفكرة الأوروبية نفسها، شيئاً من حيويتها في مقابل قدر من يأس أوروبي عام كان قد بدأ يتجذر في طول القارة العجوز وعرضها.
وفي الحقيقة أتت الانتخابات الرئاسية الفرنسية التي أسفرت عن فوز لا بأس به للمرشح الذي كان الأكثر حماسة في الدفاع عن تلك الفكرة، لتبعث شيئاً من الأمل، بل أكثر من هذا، شيئاً من الحيوية في تلك الفكرة الأوروبية التي آن الأوان كي ندرك- نحن العرب- أهميتها وحيويتها بالنسبة إلينا.
لعل الخبر الجيد في هذا كله هو أن ما سميّناه سابقاً بالاستثناء الفرنسي، لم يأت من فراغ، بل وسط سلسلة من ترددات أوروبية سبقت فوز الرئيس ماكرون ومهدت له، في بلدان أوروبية مجاورة لم تلق فيها الأفكار المناوئة لأوروبا، ذلك الدعم الذي كان كُثُر يتوقعونه لعام أو عامين.
ففي ذلك الحين، عندما وصلت قضية تدفق اللاجئين الآتين من الجنوب إلى ذروتها وأبدت أوروبا الجماعية والرسمية المؤسساتية قدراً ولو محدوداً من الكرم تجاه بائسي الأرض الجدد أولئك، ثار سخط شعبي كبير وتبدت إرادات انفصالية صحيح أن اليمين المتطرف كان في قيادتها، لكنها استقطبت أصواتا شعبية بدت مستعدة للتضحية ولو على مضض.
بالقيم الأوروبية، التي يمكن اعتبارها، إلى جانب الاقتصاد، في أساس الفكرة التي تقوم عليها أوروبا، فبات متوقعاً إما أن تتراجع المؤسسات الأوروبية عن كرمها، وإما أن تنفرط أوروبا، لكن شيئاً من هذا لم يحدث، حتى ولو اتُّبع بعض التضييق على زحف اللاجئين.
من هنا، إذا كان في إمكاننا أن نوصّف الفائز الحقيقي في الانتخابات الرئاسية الفرنسية الأخيرة، سنشير مباشرة إلى القيم الأوروبية، تلك التي تلوح دائماً في أفق القارة المجاورة لنا في كل وقت تبرز فيه الأخطار.
ونشير منذ الآن إلى أن المرشح ماكرون حين توجّه قبل شهور من انتخابه إلى الجزائر معلناً فيها ذلك الموقف الإنساني والحضاري الذي أعتقد كُثر أن من شأنه أن يكلفه طموحه كله، لم يكن حالة فريدة.
نحن نعرف، منذ الجبرتي ورفاعة الطهطاوي، وصولاً إلى شكيب أرسلان وطه حسين ومئات من المفكرين والمبدعين العرب الذين توجهوا دائماً بأنظارهم صوب أوروبا وتحديداً في الأزمان التي كانت فيها الجيوش والسياسات الكولونيالية الأوروبية تحتل بلادنا، وهم واثقون أن ثمة ما يمكنهم أن يعثروا عليه فيها من سند ودعم.
ودائماً على غرار ذاك الذي قدمته الكاتبة والمناضلة الاشتراكية الفرنسية جولييت آدم إلى مصطفى كامل الساعي لإقناع فرنسا وأوروبا بالمساعدة على تحرير بلاده المصرية من نير الاحتلالين العثماني والبريطاني.
حينها كان المفكرون العرب يعلمون يقيناً أن في إمكانهم الاتكال على القيم الأوروبية التي يقوم على حراستها مفكرون أوروبيون ولو على الضد من سلطات بلادهم.
واليوم، إذ يبدو واضحاً أن تلك القيم هي التي انتصرت بفوز إيمانويل ماكرون وانهزام اليمين المتطرف- الذي ويا للغرابة- وجد من يسانده ويتعاطف معه في بعض الشارع العربي، وكذلك بالترحيب الشديد الذي جُوبه به هذا الفوز في طول أوروبا وعرضها، كما كان الحال قبل حين يوم تراجع اليمين المتطرف في هولندا .
وفي إيطاليا، رغم أن محور المعارك كان في الحالات كافة، قضية المهاجرين، اليوم بات من المهم للفكر العربي، أن يستخلص الدرس في مجال بناء سياساته وتطلعاته الخارجية.
لا نتوخى بهذا، اقتراح أن يكون أي تقارب وتفاعل مع أوروبا قد يكون في كلامنا دعوة واضحة إليه، تقديم نوع من المكافأة لأوروبا التي اختارت النزعة الإنسانية والكرم- ولو القسري- تجاه أبنائنا في الخارج.
بل نقصد الدعوة إلى التنبه جيداً إلى أن المسألة ليست مسألة هيام ماكروني بالجزائر، أو أوروبي بالعرب وغير العرب اللاجئين، بل مسألة شعوب تعرف كيف تحافظ على قيمها والجانب المضيء من تاريخها جاعلة من شعارات مثل الحرية والمساواة والأخوّة، ليس مجرد يافطات انتخابية، بل برنامج عمل حقيقي.
هذا الدرس الثمين والإنساني الذي لن نعثر على ما يترتب عليه لا في القارات والأمم البعيدة، ولا حتى في داخل صفوفنا نفسها، هو نفسه الذي التقطه مفكرونا العرب الكبار منذ حملة بونابرت التي فرقوا فيها بين جانبها العسكري الاستعماري المتوحش، وجانبها الحضاري الفكري والعلمي.
من هنا من البديهي اليوم أن نتوجه إلى مفكرينا بضرورة العودة إلى التعاطي مع القيم الأوروبية، تلك القيم والأفكار نفسها التي إذ تمازجت طوال القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، مع ما هو مضيء من تراثنا العربي الذي كان قد سبق أن فعل فعله في الفكر الأوروبي نفسه في العصور الغابرة، عرفت كيف تنتج معجزات صغيرة على المستوى الفكري على الأقل، وفي يقيننا أن ما يحدث في أوروبا اليوم، جدير بأن يعيدنا إليها.
* نقلا عن “البيان”