العرب والخروج من التاريخ

العرب والخروج من التاريخ

يلخص عبد المنعم رمضان عام 2024 في جملة واحدة، وهي: “وكأن العرب يخرجون من التاريخ، وكأن الأحداث التي تحدث في المنطقة العربية عموما تؤذن بخروج العرب من التاريخ”.                                          

يؤسفني القول أيها السيدات والسادة إن العرب في العصر الحديث لم يدخلوا التاريخ بعد كي يخرجوا منه ! 

ولكن ما الذي تعنيه مثل هذه الكلمات الكبيرة : دخول الأمم الى التاريخ وخروجها منه ؟ 

لعل أهم نقطة في وصف أمة أنها دخلت التاريخ هي وصف مجتمعها بأنه مجتمع الكفاية والعدل، كانت بداية دخول العرب للتاريخ عندما أراد عمر بن الخطاب إيصال راتب راعٍ في جبال صنعاء إليه دون أن يجشم نفسه النزول إلى المدينة لقبض هذا الراتب، ربما لا يعرف هذا الفقير حقوقه ولم يفكر أن هناك في العاصمة البعيدة عنه – مسافة خيالية  بمقاييس اليوم – من يفكر فيه وفي راحته ، أما مسألة حصوله على راتب يعتاش منه فهذا أمر مفروغ منه ما دام تحت خط الفقر ، كما هو متعارف عليه في الوقت الحاضر.   

عندما جاء الموظفون الى عمر بن عبدالعزيز وسألوه ماذا يفعلون بالفائض الكبير في المال الموجود لديهم، إذ لا وجود لفقراء، طلب منهم أن ينثروا الحبوب على رؤوس الجبال لإطعام الطيور، فلا ينبغي وجود حتىطيور جائعة في الدولة. 

في المثلين السابقين قديماً مقياس واحد:  تفكير رأس الدولة وهمه في أصغر أفراد الدولة وأفقرهم، بينما يتكفل بهذه المهمة  في الوقت الحاضر دستور كل بلد دخل التاريخ. 

ورغم أن التغني بأمجاد الماضي غير مستحب في ظروف الانحطاط التي نعيشها ولكن هذه بعض أمثلة على دخول العرب في التاريخ:

أهدى الخليفة العباسي هارون الرشيد  الأمبراطور شارلمان ساعة، ظن الكهنة في بلاطه أن في داخلها شيطاناً يخرج منها عدداً من الفرسان بعدد الساعات، فحطموها ولم يستطيعوا إصلاحها، خجل شارلمان من طلب فنيين عرب لإصلاحها1 

قد يقال إن هذا المثل لا يعني أن العرب كانوا داخل التاريخ ولكن عندما نذكر أن هواية المواطنين في الدولة كانت هي اقتناء الكتب وأن أهم مهنة في ذلك العصر هي مهنة الوراقين الذين ينسخون مؤلفات الأدباء والمفكرين والفلاسفة ، إنما أمثلة على مجتمع كفاية وعدل ، حيث يتهافت المواطنون على شراء الكتب قبل اثني عشر قرناً أما اليوم فإن معظم دور النشر تعاني من مشاكل اقتصادية كبيرة نظراً لأن الكتاب أصبح رفاهية والمواطن يفكر أولا كيف يدبر طعام أولاده.  

في العصر الحديث، الوحيد من بين زعماء العرب الذي كان يردد في خطب عديدة له، رغبته في تحقيق مجتمع الكفاية والعدل هو جمال عبد الناصر. 

وعلى وعد بالوصول الى مجتمع الكفاية والعدل ومع وجود حاكم محب للأدب والفن دخلت مصر الناصرية التاريخ، كانت كمية المنشور من الأدب في هذه المرحلة القصيرة  تعادل أضعاف ما نشر خلال سبعة آلاف عام من تاريخها الطويل،  فلم يوجد خلال هذه الفترة الطويلة سوى كتاب ديني واحد وهو كتاب الموتى يشرح كيفية التعامل مع الآلهة عند البعث. 

كأن شعب مصر خلال ربع قرن قد عوّض عن صمته الطويل بسبب قهر الفراعنة الذين حكموه دفعة واحدة. 

قد يذكر بعض القراء مكتبة الإسكندرية ولكنها كانت تحتوي  فقط على مخطوطات باللغة اليونانية في عهد البطالمة. بينما ما كتب في مصر أثناء الدولة العباسية، على قلته، إنما يحسب لهذه الدولة.  

كلنا يعرف كيف تم سحق هذه التجربة الرائدة على يد الغزو الأجنبي المتمثل في إسرائيل والرجعية العربية المتواطئة مع أمريكا.   

ومنذ اسدال الستار على التجربة الناصرية، لم توجد دولة واحدة من الدول العربية تحقق فيها الكفاية والعدل حتى نصفها بأنها دخلت التاريخ، حتى دول الخليج التي تمتاز بقلة عدد السكان، يمكن القول إنها حققت الكفاية لمواطنيها ولكنها لم تحقق العدل بينهم، إذ لا يكفي إعطاء المواطن ما يكفيه مقابل أن تأخذ الطبقات الحاكمة المليارات، خاصة وأن الدخل القادم هو من بيع النفط ، حيث يستخرج من الأرض، وهو ملكية عامة. ومما يزيد الطين بلة حرمان فئات عديدة من الجنسية أو سحب جنسيات من المواطنين لدوافع سياسية، ما يذكرنا بعصر الإقطاعيات التي يستأثر فيها الحاكم بالسلطة والنفوذ، واذا استمر الوضع كما هو عليه فسوف تقوم ثورات كبرى في  الدول التي يبلغ عدد المقيمين فيها أضعاف عدد المواطنين. 

عندما نفكر مَن مِن الدول دخلت التاريخ في العصر الحاضر نجد الصين والهند والاتحاد الأوروبي، وهناك محاولات حثيثة من الولايات المتحدة بدأت في تسعينيات القرن الماضي لإخراج روسيا منه، ولكنها محاولات فاشلة حتى الآن، نظراً للقوة العسكرية الضخمة التي تتمتع بها. 

لو أخذنا الاتحاد الأوروبي كمثل على دخول التاريخ: نجد دولاً قاتلت وغزت بعضها بعضاً عبر التاريخ، فلكل شعب لغته وعاداته وتقاليده الخاصة وطائفته الدينية حيث تجد الكاثوليك والبروتستانت والأرثوذوكس، ولكن هناك عامل يربط بينها وهو المصلحة وشرط خاص توفر الديمقراطية في كل بلد من بلدانها. ولكن توفر الكفاية والعدل في كل بلد على حدة موجود وناتج أساسي من نواتج الديمقراطية. 

 عودة الى منطقتنا نجد أنه بعد سقوط الناصرية واستباب سيطرة الرجعية العربية بدأ يتكشف التطبيع السري لهذه  الرجعيات مع الكيان الصهيوني منذ البدايات والذي سمح لهذا الكيان بإقامة دولته على أرض فلسطين، ومع انهيار الاتحاد السوفييتي مع أفول القرن العشرين بدأت القواعد الأمريكية بالظهور الى العلن في مناطق عديدة من العالم العربي،  وهي مؤشر على هيمنة الولايات المتحدة  المكشوفة على المنطقة ومقدراتها. ولو شبهنا علاقات الدول في منطقتنا بمثلث نجد على رأسه الولايات المتحدة وفي قاعدته ركن لإسرائيل وركن لجميع الدول العربية بلا استثناء.  

هل يمكن للعرب الدخول في التاريخ؟ : 

وبعبارة أخرى هل يمكن إقامة مجتمع الكفاية والعدل من نواكشوط وحتى صلالة ومن جوبا وحتى الموصل؟ أمر في غاية الصعوبة إن لم يكن مستحيلاً. فلا وجود لقوة دافعة في هذا الاتجاه الآن أو في المدى المنظور، والقوة الدافعة هي الأحزاب الطليعية التي تنتجها الطبقة الوسطى في كل مجتمع بعد أن تم تدمير هذه الطبقة بالفقر والهجرة وبفعل سياسات الحكام التي تتبع إملاءات البنك الدولي. فلا نجد منذ ثمانينيات القرن الماضي سوى أحزاب الطبقات الفقيرة التي نشأت بسبب التوغل الإسرائيلي في قلب المنطقة ، كمثل على ذلك حزب الله الذي نشأ في جنوب لبنان المهمش طيلة التاريخ اللبناني منذ نشوء لبنان، وحركتا حماس والجهاد الإسلامي اللتان نشأتا في مخيمات اللجوء في غزة والضفة، وفي الحالات الثلاث كان اللجوء للدين كنهج وعقيدة.  

كشف طوفان الأقصى الحقائق التالية : 

1. أن الشعوب العربية وبالرغم من المسافة ومرور الزمن ما زالت تجمعها وحدة الهدف والمزاج والإحساس بالمصير المشترك، رأينا نماذج على ذلك في عدد المتظاهرين في أقصى المغرب العربي إلى الاعتصام في فصل الشتاء في بادية الشام على الحدود الأردنية للمتظاهرين العراقيين علهم يستطيعون الدخول إلى فلسطين،  ولعل بائع الخضار المصري الذي كان يرمي البرتقال الى الشاحنات المتوجهة الى غزة علها تصل الى جائع هناك خير مثل على الأحاسيس الرفيعة والعالية التي يتمتع بها المواطن العربي من المحيط الى الخليج، وبالطبع لن نذكر الشعوب التي اشتركت فعلياً في الحرب وقدمت التضحيات الجسيمة . 

2. أن النظام العربي الرسمي برمته سار عكس رغبات شعوبه وتواطأ مع إسرائيل وسمح للولايات المتحدة بتقديم دعم غير محدود للآلة العسكرية الإسرائيلية. إضافة لتخريب الجهد اليمني المميز في إغلاق البحر الأحمر أمام السفن المتجهة إلى إيلات بتشغيل خط بري عبر الإمارات – السعودية- الأردن وتشغيل خط الاسكندرية – أشدود البحري لنقل الأسلحة إلى إسرائيل. 

نصل الى نتيجة حتمية : أن تغيير النظام الرسمي العربي الموجود هو ضرورة لدخول التاريخ.    

ماذا يعني تغيير النظام الرسمي:

هو تغيير نهج الحكم الدكتاتوري الذي يسمح لرجل واحد سواء كان ملكاً أو رئيساً بإملاء إرادته على خط سير الدولة بأكملها، هكذا وجدنا عسكرياً بسيطاً جاهلاً لا يستطيع صياغة جملة مفيدة على رأس دولة عربية في المنطقة، أو أميراً هدفه إشباع غرائزه في اللهو والمتعة على رأس دولة أخرى. وغير ذلك من حكام يندى الجبين من ذكر صفاتهم وأفعالهم. وهذا يعني النضال من أجل ديمقراطية حقيقية في كل بلد، ملوك تملك ولا تحكم ورؤساء لا يستطيعون الحكم أكثر من فترتين زمنيتين لا تتجاوز العشر سنوات مهما كان الرجل / المرأة رائعاً، في دستور لا يتغير حسب المزاج والأهواء. وما يتبع ذلك من حرية تكوين المؤسسات والأحزاب والنقابات، وعدم استعمال الدين لأغراض سياسية.  

لا شك أن هذه مهمة في غاية الصعوبة نظراً للوضع الذي وصلت إليه مجتمعاتنا العربية كما أسلفت ولكن طريق هذه الديمقراطيات الوليدة هي الاتحاد والوصول الى مجتمع الكفاية والعدل.