يقول منظرو البراغماتية ﺈنها قد ﻭﻟدﺕ ﻣﻦ تجريد ﺍﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ، وهي كلمة ابتكرها بيرس المتوفى عام 1914م واستخدمها في مقال ذهب فيه إلى أن تصورنا لموضوع ما هو إلا تصورنا لما قد ينتج عن هذا الموضوع من آثار عملية لا أكثر ، وقد وصفت فيما بعد بانها فلسفة تدعُ الواقع يفرض معنى الحقيقة بعكس الفلسفة القديمة التي تذهب من التصورات الى النتائج بمنهج عملي يركز في بحثه على النتائج وما يمكن ان تقدمه من فوائد ولا يقيم وزنا للبحث النظري لانها وليدة واقع لاحقته لعنة الماورائيات وما تقوم عليه من لاهوت اختزل الحياة كلها في وصايا ومفاهيم ثم تفرد في تقديم تلك المفاهية والوصايا كما يرى هو ليس كما يتطلب الواقع من خلال تاويل زائف استنطق النصوص وما لحق بها من تراث شفوي لتقول ما يريد هو قوله.
بلا شك ان البراغماتية قلبت المعادلة وطوحت بكل الفكر المثالي فكانت فلسفة الثورة الصناعية التي دابت على حساب فوائدها ، ولكن هذا لا يعني انها فكرة طارئة وليدة حراك عابر على مقطع زمني ظهر ثم انزلق الى طيات دوامة الدهر التي ما انفكت تطحن الاجيال وافكارها بل هي فكرة انسانية اصيلة تتسق وتطلعات الذات في تحقق اللذة وتجنب الالم ، وهذ امر لا يتعارض مع ارقى القيم والمبادئ بل انه لا يعارض حتى تعاليم السماء ، فالاسلام شريعة يقوم على كثير من قيم حساب المنفعة وان الله سبحانه وتعالى لم يعلق بابا من ابواب اللذة بالتحريم او الكراهية الا وفتح بابا بالوجوب او الاستحباب ، ولم يشرع بابا من الالم او العناء وجوبا او اسحبابا الا وفتح باب مقايضة اكبر ، وان كانت قيم الاسلام لا تتوقف عند حدود اللذة المادية انما هي قيم قد تبدا بالانسان من هذا المستوى لترقى به الى مستويات رضى الله تلك المستويات التي تفصح فيها الاشياء عن حقائقها لتصبح الروح رهينة عشق يتجاوز اي شعور باللذة او الالم ، وهو شعور الاندكاك في ذات الله تعالى وهو العالم المنفتح على العرفان الذي ما دخله احد وخرج ومنه ، وهو يشبه تماما مستوى الجنون العبقري الذي يدخله المبدعون فياسرهم ولا يستطيعون الخروج منه ، فكما دخل الى عالم العرفان العبقري الحلاج والبسطامي والكرخي ولم يخرجوا ، فقد دخل الى عالم الابداع العبقري بودلير ورامبو وفانكوخ ولم يخرجوا منه
لا احد ينكر ان العالم اليوم ، كما هو بالامس ، وكما سيكون غدا ، عالم قائم في علاقاته على براغماتية اذا ما كانت مفهوما ذا معنى محدد فانها ذات مظاهر عدة ، تتحدد على وفق نوع المصالح واحجامها والقوى التي تعمل على تحقيقها وعلى سبيل المثال هناك مصالح استراتيجية لا يمكن حسابها من دون استحضار كامل الشبكة التي ترسم المداخل والمخارج التي تشكل الاساس الحامل لتلك الشبكة او غيرها من الشبكات التي تحتملها مصالح القوة الاقليمية المعنية ، فالقضية ليست قضية حسابية بسيطة يقوم بها تاجر او خبير اقتصادي او مالي وانما هي قضية معقدة لا يحل عقدها الا فريق استراتيجي يضم كل هؤلاء ومعهم خبراء السياسة ودهاة التخطيط وفوق هذا كله توضع مصالح الامم المشكلة للقوى الاقليمية من خلال منضماتها الاجتماعية والثقافية والدينية والمدنية
العالم الذي خبر البراغماتية من خلال تجربة طويلة تعامل معها كما ينبغي مستفيدا من كل السياقات المتاحة لتحقيق اكبر قدر منها في علاقاته ، فهو عالم اتسق والبراغماتية في سياقات فكرية وثقافية وعقدية ، فكانت سلاحه الفاعل في توسيع دائرة نفوذه الفكري والثقافي والعقدي ، ولا عيب في البراغماتية ، كما اسلفنا ، لانها تخرق ناموسا خلقيا ولا تخالف دينا ولاعقيدة ، ولكن العيب في الاستخدام غير الاخلاقي لها بحيث ياتي تحقيقها متصادما مع الدين والاخلاق ، اما الاستخدام المنضبط بضوابط الدين الاخلاق فهو حكمة محمودة
المشكلة اننا كعرب نتعامل مع البرغماتية بمراهقة فاضحة اكاد ارى دهاقنة البراغماتية في العالم الاخر يضحكون ساخرين منا لاننا لم نملك من المصالح الا ما تفرزه الثروة النقدية المكدسة من واردات النفط والغاز ، من دون ان نعي ان الاخرين ينظرون الى ابعد بكثير مما ننظر فهم لا ينظرون الى الدجاجة كما ننظر نحن بنهم وانما ينظرون الى بيضها وفراخها المستمرين فالبيض ينتج بيضا والفراخ تنتج فراخا وتقودهم عقليتهم البراغماتية الى السؤال عن البيضة والدجاجة ايهما اولا ، اي انهم لا يفهمون المنافع على انها ما يتحقق عبر ما تكدس من ثروة الآن او في المستقبل بل يفهمون التاريخ بكل تفاصيله الفاعلة في وجدان الجماعة وذاكرتها فهما براغماتيا عندما يحركونه في اتجاه استنهاض الحاضر ، وليس كما نفعل نحن عندما نحرك التاريخ لتاجيج الاحقاد والضغائن ، ليكون تاريخنا وبالا على حاضرنا ومستقبلنا
وهذه هي البراغماتية الغربية سواء عند الامريكان وفريقهم الغربي او عند الروس وفريقهم الشرقي ، فامريكا ما زالت بشقيها المنتصر والمنهزم تعتبر معارك الاستقلال ملكا المجتمع ، وروسيا اليوم التي انقلبت على الشيوعية ما زالت تحتفل بصمود ستالينغراد الذي قاده الشيوعي جوزيف ستالين وتضعه في ايام مجدها
ما قادني الى هذا الحديث هو اللقاء الذي جمع الروس والسعوديين بهدف تسوية الاوضاع في سوريا والذي تحرك من خلاله السعوديين ممثلين ببندر بن سلطان ببراغماتية عندما طرحوا على الروس مشاريع صفقات السلاح ووعود مرور الغاز الروسي من دون مزاحمة الغاز القطري من اجل تخليهم عن دعم بشار الاسد ، اي انهم طرحوا على الروس منافع مقابل مضار تخليهم عن دعم بشار الاسد ، وهذا تصرف مراهق ، لانه لا يقدر حقيقة المصالح التي يدافع عن الروس في سوريا وهي مراهقة لم يتجاوزها العرب رغم تربيتهم في صالات الغرب وتكلمهم الانجليزية بطلاقة ، والسبب انهم عندما تربوا في صالات الغرب تربوا كدخلاء ولم يتربوا كاصلاء ، اما اللغة فانها لا تقدم لمتكلها الا نسق الافكار التي تدور في راسه ، فبندر بن سلطان الذي عاش في الغرب لم يعش فيه كما عاش منظرو البراغماتية وفلاسفتها وانما عاش فيه كبدوي لا يعني امريكا البراغماتية بشئ ، انما يعنيها ما امتلات به جيوبه من الدولارات ، ولا اعتقد ان شخصا بهذا المستوى يستطيع ان يفاوض على وفق منهج براغماتي ، قيصرا كبوتن ، يتزعم روسيا أكبر بلد في العالم تبلغ مساحته 17,075,400 كيلومتر مربع ، اي 1/8 من مساحة الأرض المأهولة ولديها أكبر احتياطيات العالم من الغابات والبحيرات، التي تحتوي ما يقرب من ربع المياه العذبة في العالم.
العجيب ان العرب الذين ايتلوا بزعماء فرضوا بالقوة الغاشمة ، الى اليوم لم يعوا ان الحجم الحقيقي الذي يفرض الدور الاقليمي ويخول المفاوض الورقة الانفد باسا في فرض مصلحته هو الامة ، والامم لا تكون منجزة ثابتة بل انها تتكون وتنجز باستمرار من دون توقف لان اي توقف كفيل بان يمحق كيان الامة بل يحوله الى وهم تقات عليه الجماعات الخارجة على منطق الحياة وناموسها كما هو حال الامة الاسلامية الان التي يقود حاضرها نحو المستقبل خوارج عتاة يقتاتون على الدماء والتجارة المنافية للاخلاق والدين بفتاوى يصدرها وعاظ يتبجحون بالتقوى والله يشهد ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم على نفاقهم ، وعاظ يتلقفون اوامر السلطان الذي يدين بالاسلام ظاهرا ويكفر به باطنا ، يتلقفون تلك الاوامر ليحولوها الى فتاوى من امثال القرضاوي وغيره ، واذا ما كان القرضاوي واعظ سلطان يدعي الحرص على السنة والسنة منه براء فمن امثاله في الساحة الشيعية ذلك الشيخ السئ المدعو الله ياري الذي يبث سمومه على قناة مشبوهة لا يعلم من اين تبث تلك الترهات المليئة بالسباب والشتائم لصحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مدعيا انه شيعي والتشيع منه براء ، بين هذا وذاك يتحرك نظام سياسي عربي مهتئرئ ليوظف الدين في خدمة مشاريعه مجندا الفقراء والمعدمين من ضحاياه ليحولهم الى قنابل موقوتة تستنزف الاخر المختلف وليس الاخر المخالف ، وهذا الاخر لا يقل في توظيف الدين ، والضحية هي الامة التي انساها هذا النزف المستمر اهدافها وحولها الى جماعة ذات سقف محدود من الطموح لا يتعدى سوى العيش بامان من شظايا هذه الحرب القذرة ، وهو هدف قد تجاوزته معظم امم الارض فاصبح وراءها منذ زمن بعيد.