بات معلوما ولا يختلف في شأنه عاقلان، أنّ العالم العربي الإسلامي اليوم قد فقد بوصلته وضلّ الطريق. فهو تائه في مرحلة فارقة من تاريخه وفي مفترق طرق وعرة، يصعب عليه إستبيان معالم تضاريسها ونتوءاتها، ولا إدراك إلى اين تؤدّي في النهاية. لذلك، فهو لا يعرف أين يتجه، ولا على أيّ ساق يرقص، ولا على أي وتر وإيقاع يعزف. والحقيقة أنّه لا مبرّر لحيرته وارتباكه، لأنّه في واقع الأمر أمام مسارين متعاكسين لا ثالث لهما. أحدهما في اتجاه المستقبل بما فيه من بناء و أمل ورمزيّة لبهجة الحياة و رَغَدُ العيش وتوسيع لمساحة الحرّيات والحقوق المكفولة. وهو المسار الحداثي الذي سلكه الغرب، والذي بالإمكان تكييفه مع خصوصيّة واقعنا العربي الإسلامي المغاير. فيما الآخر في اّتجاه الماضي بما فيه من ضيق الأفق وضنك العيش وصعوبة الحياة، واستحالتها أحيانا بالتضييق على الحقوق والحرّيات الشخصيّة. وهو المسار الذي يسلكه الدواعش والسلفيون التكفيريون عموما، بمختلف تصنيفاتهم المعادية للحياة الكريمة.
ووفق إحدى زاويا النظر، فإنّ التقدّم العلمي الذي بلغه الغرب يفرض على العالم العربي الإسلامي الإلتحاق بركب الحضارة ومواكبة العصر بنسق من الأنساق، يقوى ويضعف وفق إرادة من بعهدتهم السلطة، بما لا يجعله خارج العصر، بحيث لا تشمله منجزات الحداثة وإبداعاتها التي لا تنتهي. ضرورة أنّ الحداثة تغاير الماضي وربّما تنفيه أو تلغيه، ليس فقط لأنّها تسلك مسارا وفق خط متطوّر، مستقيم ولا نهائي. بل و لأنّها كذلك، سياق يتموضع فيه الوعي الكوني المرتفع لإنسان القرن الواحد والعشرين، طالما كان عقله مستنيرا، لا معوّقا أو متكلّسا. ولكن ووفق زاوية نظر ثانية، فأنّ هواة الماضويّة وأقطاب عمليّة الشدّ إلى الوراء والحنين إلى الماضي والإرتداد إليه، بما هو دوران مكرور، يشعر صاحبه بالغثيان، ولا ينتج إبداعا جديدا يراكم المعرفة، لا يزالون يراهنون على وقف عجلة التاريخ، لأنّهم مهوسون بوهم إعاقة قاطرة التقدّم، بتعلّة الرجوع إلى مفاهيم ومنجزات السلف الصالح البسيطة والبدائيّة، التي كانت عظيمة بمعايير زمانها الذي لا يتعدّى حدود القرن السابع للميلاد. واستدلالهم الوحيد عن ذلك، هو وجوب فهم الكتاب والسنّة وفق فهم السلف دون إضافة أو نقد. بما يعني الإعتماد كليّا على مجرّد النقل عن السلف ، لا على قوّة حجّة العقل كأداة تشريح نقدي تطال كل شيء بما فيه المقدّس و – من باب أولى- من نسمّيهم بالسلف الصالح. وفي هذا المعنى أستحضر ما قاله المؤرّخ والفيلسوف الفرنسي “غوستاف لو بون” (Gustave Le Bon)في كتابه الشهير ”سيكولوجية الجماهير ” من أنّه : « لا يمكن تحريك الجماهير و التأثير عليها إلّا بواسطة العواطف المتطرّفة. و بالتّالي فإنّ الخطيب الذي يريد جذبها ينبغي أن يستعمل الشعارات العنيفة، ويبالغ في كلامه و يؤكد بشكل حازم، و يكرّر دون أن يحاول إثبات أيّ شيء عن طريق المحاججة العقليّة ». وهي مقاربة يتّفق فيها مع المفكّر الفرنسي ” نيكولا دي كونْدرْسِيه ” Nicolas de Condorcet) (، المناصر الشديد لفولتير وأحد اقطاب الثورة الفرنسيّة*، الذي قال في ذات السياق: « إن قدرة الدجّال والمشعوذ على تضليل الجماهير أشدّ من قدرة العبقري على إنقاذها»
ولعلّ سبب نزوع الماضويين إلى التعلّق بتلابيب الماضي دون سواه، أنّهم وجدوا أنفسهم بلا منجز يذكر و لا دور فاعل في الحاضر، فارتدّوا إلى الماضي السحيق الذي كان لهم فيه منجز، بمعنى من المعاني، كتعويض لهم عن حاضرهم البائس وعن مستقبلهم الأكثر بؤسا وقتامة وفق كلّ المؤشّرات. وهو مستقبل سوف لن يكون لهم فيه، حتما، لا ناقة ولا جمل
ولا وزن – حتّى ولو كان وزن الريشة- لأنّ قطار التقدّم لا يلتفت أبدا إلى الوراء مهما كانت المعوقات.
ونتيجة لهذا الوضع الخانق والمتأرجح، بين ضرورة الحداثة التي يتوق إليها البعض المستنير، الذي يفضّل العيش على وقع العصر، المنفتح على منجز الحضارات الأخرى ،من جهة، والحنين إلى الماضي بغثّه وسمينه، وهو ما يتوق إليه البعض الآخر من هواة التحجّر والجمود والتكلّس والتقوقع والأسر داخل إطار منجز حضارة العالم العربي الإسلامي دون غيره ، من جهة أخرى، فإنّ العرب والمسلمين باتوا يعيشون اليوم حالة صراع وضياع مطلقة. هي أقرب إلى حالة من فقد هويّته وأصبح منعزلا، يعيش أزمة ذاتيّة عميقة، تحيله إلى مستلب /مغترب بالمعنى الفلسفي، فيما يشبه وضعيّة التائه في أرض ليست أرضه وفي زمن غير زمانه، يعسر عليه، بالضرورة، التأقلم معه ومسايرته على المستوى الزمكاني، ليستفيد من التحوّلات التاريخيّة الكبرى ومفاعيلها في العلوم والتقنيات الحديثة. وهي حالة مرضيّة عبّر عنها الشاعر الفلسطيني الرّاحل محمود درويش بالقول: « سأصرخ في عزلتي ، لا لكي أوقظ النائمين *** ولكن لتوقظني صرختي من خيالي السجين».
ومن الإستتباعات الخطيرة لهذا الوضع المتمزّق، المأزوم والمهزوم، الذي يراكم الأزمات والهزائم دون محاولة حلّها جذريّا، أن فقد العرب والمسلمون ثقتهم في أنفسهم وغدوا يشكّكون في قدراتهم-ولو أنّها متواضعة وربّما ضئيلة- على تجاوز التحدّيات الكثيرة التي تواجههم على مختلف الصعد، ولا سيّما منها السياسيّة و الإقتصاديّة و الإجتماعيّة. ولعلّ تحدّي مواجهة الإرهاب بالحزم الذي تفرضه المرحلة، لا يقلّ أهمّية عن التحدّيات المذكورة، لا سيّما وأنّه أطلّ برأسه ومخالبه الفتّاكة بشكل مكشوف وجرأة نادرة وبنسق غير مسبوق، بعد موجة الثورات العربيّة التي انتهت إلى نموذجين لا ثالث لهما إختزلتهما وضعيتان غير مريحتين ولا مقبولتين أو متوقّعتين، ليس فقط من مفجّري الغضب الشعبي العارم وقادته، بل وكذلك -وهو الأهمّ- من الجماهير الشعبيّة الثائرة. فالثورات العربيّة التي انطلقت من تونس ذات النظام البوليسي الإستبدادي البشع
آنذاك، قد آلت -للأسف- إمّا إلى الوأد في المهد وبروز أمراء حرب، ما بين متشدّدين دينيّا ينتمي أغلبهم إلى السلفيّة الجهاديّة ذات الوجه الكالح بمفهومها الوهابي المتخلّف بكلّ المعايير و معارضين لنظم بلدانهم ومرتزقة من كلّ الأصقاع، يتقاتلون وينهكون الدولة المستهدفة ويستنزفون قدراتها وفق النموذج الليبي السوري اليمني، وإمّا إلى الفشل الذريع الذي مكّن الحرس القديم والدولة العميقة من العودة بقوّة إلى صدارة المشهد السياسي والإمساك بزمام السلطة من جديد، وفق النموذج المصري التونسي مع حفظ الفوارق، كما لو لم تحدث ثورة مطلقا، ولا ربيع عربي كما يحلو للغرب تسميتها رغم أنّها على النقيض من ذلك تماما.
وبالنتيجة، فإنّ العالم العربي الإسلامي يعيش اليوم، محنة إنبتات ذات أبعاد متعدّدة غالبا ما تعبّر عنها، تنظيمات متشدّدة تطفو كالفقاع هنا وهناك، وتنتمي إلى كلّ الطوائف والمذاهب والحلل والملل دون إستثناء، من خلال بعض الممارسات الدمويّة الوحشيّة، التي تعود عليها قبل غيرها، بالدمار والخراب. فضلا عن أنّها تسيئ أيّما إساءة، ليس فقط إلى صورتها كتنظيمات دينيّة، من المفترض أن تدعو إلى الحبّ لا إلى العنف والقتل، بل وكذلك إلى الصورة التاريخيّة ذات الجوانب المضيئة في الحضارة العربية الإسلامية، والتي تدّعي هذه التنظيمات تمثيلها والتشبّث بإرثها والمحافظة عليه. حيث أنّ هذه الممارسات لا تساهم –بالقطع- إلّا في إضاءة مناطق العتمة في هذه الحضارة. وهي كثيرة بالمناسبة رغم استماتة البعض في التستّر عليها عبر تاريخنا الطويل، واعتبار الحديث عنها من قبيل المحرّمات التي تلامس الكبائر. وهو أمر يكرّس إثارة الشكّ حولها ويطرح أكثر من سؤال حول حقيقتها المطموسة عن قصد. ونحن إن نلفت النظر إلى ذلك فلأنّ ديدننا إنّما هو كسر أغلال التفكير الديني الإنتقائي الذي ولّى عهده ومضى دون رجعة. وحقيق بنا في هذا السياق، الإقرار بانّ إخفاء مناطق العتمة في الحضارة الإسلاميّة قد ساهم بقسطه في التراجع الكبير لهذه الحضارة على النحو الذي أفقدها مكانتها بما لا يرضاه لها حتّى ألدّ أعدائها التاريخيين. وقد زاد في تكريس هذا الإنحدار المحموم، المراهقة الفكريّة للإسلام التكفيري الذي تمثّله بامتياز السلفيّة
الجهاديّة، سليلة الفكر الوهابي الساذج، واقطابها من “الدواعش” والمنتمين لتنظيم “القاعدة” و “جبهة النصرة” و “بوكو حرام ” ونحوها. وما يبعث على القلق اليوم، إنّما هو المدّ والتمدّد السريع لهذه التنظيمات الإرهابيّة التي كشّرت عن أنيابها وكشفت عن مخالبها وضربت بقوّة وعنف -على خلفيّتها التكفيريّة- هنا وهناك في كافة ربوع الوطن العربي المنهوب من حكّامه و المنهك من تبعات الإستعمار والدكتاتوريات العربيّة المتعاقبة عليه منذ استقلاله. وهو إستقلال منقوص قد حرّر الوطن العربي دون أن يحرّر الإنسان فكريّا ليكسبه المناعة ضدّ الفكر الرجعي المتخلّف. لذلك ظلّ هذا الإنسان العربي يعيش، عموما، على هامش الحضارة والحداثة، ولا ينخرط في المساهمة فيها أو حتّى، بالحدّ الأدنى، في استيعابها. لا بل كان في الأغلب الأعمّ رافضا لها بالأساس ومهوسا بالعودة إلى جاهليّته و وبداوته التي لم يتخلّص منها بعد، لأّنّها-ببساطة- تعيش داخله وتترجمها ممارساته الهمجيّة البربريّة الداّلة بوضوح على تخلّفه عن منطق التاريخ ومسار الحضارة ومنتجات الحداثة في جميع أشكالها العلميّة و الإبداعيّة.
*أنظر مقالي على النت بعنوان نيكولا دي كونْدرْسِيه: نهاية أليمة لعبقريّة عظيمة