على وفق الأمور التي جرت لإنتاج ( العربانة ) كفيلم روائي قصير نشعر بالغبطة0 إذ تهيأت لهذا الإنتاج مقومات قادته إلى النجاح بفعل ذلك السخاء الذي ظهرت عليه الجهات المانحة وهي تعبر عن روح غير مألوفة تتمثل بصدق دعمها الجاد للأعمال الفنية التي ينجزها مبدعون من هذا البلد ( العراق ) خاصة وان هذه الجهات حكومية ، وهذا لا يعني إغفال الدور التنسيقي الفعال الذي قام به مبدع الفيلم وهو يرسخ الثقة به شخصيا وبمؤسسته ( شركة الماهود للإنتاج الفني ) أمام تلك الجهات0
لقد تهيأت بموجب ذلك السخاء أفضل ظروف لإنتاج مثل هذا الفيلم ابتداء من توفير أرقى المستلزمات الفنية وتهيئة أهم الكوادر العاملة عليها واختيار الممثلين المبدعين القادمين من مختلف بقاع الأرض إلى ارض التصوير في منطقة المهدي بريف السماوة وهمة آل ماهود وأبنائهم وهم يذللون الصعاب في طريق هذا الإنتاج الذي ظهر بالتالي شريطا صوريا لنسيج من الإبداع يتميز بمواصفاته 0 وانتهاء بخلق الظروف اللوجستية لأيام التصوير ناهيك عن الحماية الأمنية ، ذلك لان الكاميرا في الشارع ( بعبع ) وإذ تكون كذلك فان ما يمنع استهدافها هنا طوق الحماية الذي فرضته شرطة المثنى ضمن محيط مواقع التصوير، ما جعل الكادر الفني يمارس عمله باسترخاء في تجربة إنتاجية سينمائية نموذجية مدعمة من وزارة الثقافة ومحافظة المثنى ودوائرها الرسمية كالتربية والكهرباء والشرطة والمرور والصحة والسكك والبلدية
وإذا كنا قد استمتعنا بمشاهدة فيلم العربانة فلابد هنا أن نضيء لشخصية صانعه0
هادي ماهود مخرج سينمائي عالمي ، تأثر بي في اتجاهه للفن وأنا شقيقه الذي أكبره بعشرة أعوام0 ولقد اتجه إلى السينما وهو الطالب في معهد الفنون الجميلة آنذاك بينما كنت أنا طالب مسرح في كلية الفنون 0 لا أغالي إذ أقول بأنه اخرج معظم اطروحات زملائه في معهد الفنون الجميلة وهم يسلمون زمامهم له فيفصل أفلامهم على وفق مشيئته ابتداء من كتابة السيناريو لغاية الإخراج مرورا بالتصوير والمونتاج واختيار الموسيقى والمؤثرات الخ00وذلك قبل أن يخرج فيلمه الأول ( بائع الطيور ) في العام 1979وكان فيلما روائيا قصيرا توفر على طاقة من التعبير ميزته عن فيلم أنتجته وحدة الإنتاج السينمائي في تلفزيون بغداد بالتزامن معه معتمدا على نفس القصة وهي قصة قصيرة لكاتب عراقي معروف (أمجد توفيق )
وتأتي بعد هذا الفيلم أطروحة تخرجه في المعهد ( الفاتحون مروا من هنا ) فيلم تسجيلي عن وقائع الحرب العراقية الإيرانية سبقت فيه كاميرته غيرها في اقتحام ميادين المعارك في تلك الحرب الطاحنة 0وكانت له اطروحة تخرج أخرى في أكاديمية الفنون الجميلة ( الغريق ) فيلم روائي قصير يتجاوز الإمكانات الإنتاجية لهذه الكلية معتمدا على تعاونه مع وزارة الداخلية التي أمدته ببعض مستلزمات الإنتاج وهيأت له فرصة استنباط فكرة الفيلم من خلال الاطلاع على ملفات الوزارة المتعلقة بجريمة قتل ابن لوالده0
وحينما هاجر إلى استراليا وجد نفسه أمام فرص عديدة للعمل في ميدان السينما، ولأن السينما لديه قضية 00لم يرق له الاستمرار في إخراج الأفلام الاسترالية بعد فيلم (جنون ) الذي يتحدث عن واقع الحياة الاسترالية , فراح يستجلي الهم العراقي عبر الأشرطة التسجيلية التي صنعها كي تتحدث عن معاناة المغتربين العراقيين, وتجلى ذلك في فيلميه (تراتيل السومري ) و ( سندباديون ) إضافة إلى إخراجه الجانب المتعلق بالعراق من الفيلم العالمي المشترك ( الرحيل موتا ) والذي سجل لنفسه فيه السبق بدخول العراق حاملا كاميرته حال سقوط الصنم و ليخرج فيما بعد أفلامه التسجيلية ( العراق موطني ) و ( في دائرة الأمن ) و ( ليلة هبوط الغجر )
و ( انهيار ) معلنا عن بطولته كمغامر يتحدى الصعاب دون أن يأبه بمهالك قد يتعرض إليها فينجو منها باعجوبة0
كانت الدروب لديه سالكة وهو يحمل سلاحا لا يمنحه الأمان بل يثير الأنظار حوله ويوقعه في مطبات ، إذ نادرا ما تراه بغير الكاميرا0الكاميرا هنا عينه الثاقبة والراصدة لمجريات الواقع الذي يمور بأحداثه الجسام , حتى تبدو اللقطة لديه بيت شعر يقرأ عندها دقائق الامور ويستوعب الظواهر ، وجمعها (لقطات ) بناء صوري يعتمد التشكيل الذي يمس جوهر الأشياء دون المراوحة في محيطها وعزم على اقتحام حواجز الواقع للتحرر من ضغوطها التي قد تبدو مرعبة 0 أما عن فيلمه الأخير ( العربانة ) الذي نحن بصدده فانه يعود به إلى المربع الأول حيث فيلم ( بائع الطيور ) في نسيجه الروائي القصير0
العربانة لهجة شعبية تعني العربة وهي تلك التي يجرها حصان ويقودها عتال إلى جهة غير ذات هدف إلاّ هدف واحد يتحدد بنقل جثمان حملته العربة فيما بعد ، يغلفها تابوت مغطى بعلم عراقي كإشارة ايقونية لمكان الحدث ، كي يجري دفنه من قبل ذويه وسط عويل النسوة وصمت المشيعين0الدروب المقفرة التي يجوبها العتال بعربته وصحبة الجندي العائد توا من ميادين المعارك والمتهالك على سطح العربة تتقاطع في سيرها البطيْ مع سرعة سير القطار الماضي إلى وجهته والسير العادي للمركبات العسكرية للجيوش المحتلة والمتقاطعة مع سير عربات الدفع المعدة لنقل مخلفات ذخائر تلك المركبات من جثث الموتى والأوصال المتقطعة لإحياء في طريقهم إلى الموت، مثلما تتزاحم هذه العربات في حوادث انفجارات السيارات المفخخة كما حدث في مشهد الانفجار الذي أنجز بحرفية عالية0
السحنة على وجهي ركاب العربة ( العتال والجندي ) تقرأ الواقع المعاش من وجهة نظر متشائمة لتنطق بسوداويته التي تحيل العربة إلى الأفول مع غياب الشمس في المشهد السابق للمشهد الأخير دون الحاجة إلى الحوار الناطق الملغى أصلا في هذا الفيلم حتى ليبدو الفيلم صامتا لولا عويل النسوة ودعاء رجل الدين في أكثر من مشهد إضافة إلى الموسيقى التصويرية التي غالبا ما تنذر بالخطر وتلك المؤثرات الدالة على ما يمور به الواقع من أحداث دامية 0
مع أفول العربة تنطلق الألوان البراقة في المشهد الأخير لتحكي عن عوالم أخرى تعني بالطفولة التي لا تستدعي (عربانة ) تجوب طرقا رمادية سيطويها النسيان على أمل أن تتحقق نبوءة العرافة على وفق تمتع الأطفال بالعابهم المزدانة بالبالونات وكي تنهي مشعلة شموع النذور انتظارها بعودة الغائب وتحظى متسلقة النخيل بفارس أحلامها وتنهي المرأة ماكياجها لتستقبل قرينها 0ذلك لان الحياة لا تستحق أن تستحيل ( عربانة) يقودها عتال يجهل وجهته، وهذا ماحاول الفيلم قوله
العربانة إذن فيلم لا تخل روائيته القصيرة ( 14د) بلحظوية الواقع المعاش عبر اللقطة المصنوعة على وفق مواصفاتها المحددة في السيناريو أو تلك اللقطة المتاحة دون سابق تخطيط وهي تصطاد جزيئات الواقع المعلن أمام الكاميرا ، سواء بمرارته أم بتلك الإشارات الدالة إلى ما يكتنفه من دلالات تدعو إلى الأمل بواقع بديل يشيع البهجة0
تقطع (العربانة ) كمفردة رئيسية في الفيلم طرقا يظللها الحيف عبر اللون الرمادي السائد في فضاء اللقطة المكسور أحيانا بأكثر من تكوين لوني يبرز في طياته ليعبث بذلك الشعور المضغوط بعبث الواقع ووجهته نحو القهر والاستلاب ، مشيرة إلى ما يمكن انجازه لاحقا من فرح يشار إليه بتلك الألوان المبهجة للطبيعة الغنّاء ولهو الأطفال على ذلك البساط الأخضر والبالونات الملونة في ميزانسين لم يتعكز على مرجعيات قد تكبل الفيلم وهو يبني صرحه الإبداعي الخالص عبر بناء صوري يحرر الفيلم من تقليدية مرتكزة على الدراما ذات الصراع العمودي في بدئه ووسطه ونهايته ، إنما ينتشر أفقيا وهو يحقق بانوراما العذاب المغلف للواقع المعاش بكل طقوسه ومجرياته
معلومات عن الفيلم
اسم الفيلم : العربانة
نوعه : روائي قصير
سيناريو وإخراج : هادي ماهود
بطولة :جمال أمين وطه المشهداني ونجم عذوف
تصوير : عمار جمال
مونتاج: عاصم الربيعي
ماكياج : بشار فليح
موسيقى تصويرية : سامي نسيم
إدارة فنية: رائد الصراف
مساعد مخرج : ملاك عبد علي
مدير الإنتاج : فاضل ماهود
انتاج : شركة الماهود للإنتاج الفني – العراق