23 ديسمبر، 2024 6:59 م

العراق يصنع دكتاتورا جديدا

العراق يصنع دكتاتورا جديدا

 لا انسى لو نسيت يوما  ذلك الشيخ او الوجيه لاحدى العشائر من الناصرية حين ظهر في التلفاز عام  2003 وهو يُقبِل الحاكم الامريكي بول برايمر من كتفه في اول زيارة له الى الناصرية  ….. وقد المني هذا المظهر كثيرا…. لا لكون برايمر (الملطخة يده بدماء العراقيين وجيوبه باموالهم وحقائبه ملائ باثارهم )هو من تم تقبيله  فحسب …ولكن قدرات بعض من هذا الشعب على الانقلاب السريع في السلوك والمبادئ والتي يرافقها انقلاب في المفاهيم والتوجهات .. وتذكرت حينها مقولة لاحد اصدقائي من كبار السن  ايام النظام البائد حين رأى جماهير غفيرة من الشعب العراقي تركض لاهثة وراء رتل لمصفحات صدام حسين في زيارة لمدينتهم وهم يهتفون (بالروح .. بالدم .. نفديك ياصدام ) فانتفض قائلا  (والله هذا الشعب ماتقوملة قائمة ..وهو اكبر صانع للدكتاتوريات!!)
فما اشبه اليوم بالامس!!نفس الافكار.. نفس السلوكيات ..((ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بانفسهم))
قد لا اكون اول من يتطرق لهذا الموضوع او ربما لم اتي بجديد للقارئ الكريم ولكن الوقوف في حالة السكون دون تغييرامر لا يمكن تحمله فهذا الشعب ومنذ عقود وهو يراوح في مكانه ولم يغير شيء مما يشار له من سلب في سلوكه المجتمعي رغم العقوبات المستمرة من حروب وحصار وغيرها والتنبيهات المباشرة وغير المباشرة التي توجه له من الخالق تبارك وتعالى وطالما لمسناها نحن من تجاوز عمره منتصفه وربما من هو اقل من ذلك الا ان الامرما زال يتكرر فتجد مدن تغير اسماءها حسب الوضع السياسي
شوارع وجسور وساحات وجامعات ومدارس تغير اسماءها
اباء يغيرون اسماء ابناءهم حسب التغيرات السياسية
صور ترفع من الشوارع والساحات وتوضع بدلها صورجديدة  بل وتتضاعف في نفس الشارع
صور ترفع من داخل البيوت وتوضع بدلها اخرى وعلى نفس الجدار خلال ايام التغيير الاولى
وما دمنا هكذا مستمرين فبالامس القريب كنا نصفق …. واليوم نصفق  …وغدا نصفق …
فكما كنا نعرض حياتنا لخطورة اذا ما اعترضنا بصوت مرتفع على هذه السلوكيات  …اليوم نفس الحال يتكرر فلا يمكن لاحدنا ان يقف امام صورة من صور اليوم فيعترض ……………
فما اشبه اليوم بالامس!!نفس الافكار.. نفس السلوكيات ..((ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بانفسهم))
     صدقنا شعارات الوحدة والحرية والاشتراكية  وكتبناها على جدران بيوتنا  وحفظناها في قلوبنا وتاملنا فيها التغيير الذي يجتبينا من التخلف والتفرقة القومية والمذهبية  ويرفعنا الى مستويات الدول المتحضرة وبعد عقود من التصفيق ..انتهينا بانفصال الشمال الحبيب في بداية التسعينيات وارتفاع الشد الطائفي وظهور الشوفينية العشائرية فصار لا يسمح لابن ديالى التي تبعد 40 كم عن بغداد بشراء دار في بغداد ويسمح لابن تكريت التي تبعد اكثر من 200 كم وتكممت الافواه وملات المعتقلات ولم يتم الى الان احصاء المقابر الجماعية من المخالفين في الراي اما الاشتراكية فقد عاد العراق الى الطبقات الاجتماعية والمالية فمابين التخمة والفقر فارق شاسع
واليوم وبعد كل التضحيات ناتي لنمجد فلان اونمجد حزبه ونصدق كل ما يقول وهو الذي يعلن بصوت عالي في الفضائيات وغيرها ولاءاته الخارجية وانتماءاته الضيقة وبعضهم جربناه حاكما لسنين  ولم يقدم لنا شيئا سوى ارتفاع الميزانيات السنوية مع ارتفاع نسب الجريمة المنظمة وارتفاع نسب الفساد وانخفاض الخدمات وتردي المنظومة الاخلاقية وانعدام الحس الوطني واستبداله بالحس الطائفي والاقليمي والوعود والكلام الاعلامي المؤثر والذي تخشع له القلوب حتى قال لي احد الاصدقاء ((((( ياأخي كلما تحدث فلان في التلفزيون يقشعر جسدي واشعر بخشوع عالي لان كلامه يخرج من القلب فيدخل القلب ..والله هذا الرجل كله صدق ))))) فقلت له مالذي قدمه لك غير الكلام …قال ((صحيح …مو محد يخليه يشتغل….))
فما اشبه اليوم بالامس!!نفس الافكار.. نفس السلوكيات ..((ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بانفسهم))
     كانت تطل علينا كل صباح جريدة الجمهورية والثورة لتمجد للاشخاص وتعلمنا كيف نتاسى بهم وتثني وتطري وفي المساء يستلمنا تلفزيون القناة الاولى والثانية وتلفزيون الشباب  وكما يعلم الجميع ان من اهم ادوات صناعة الدكتاتوريات هي الوسائل الاعلامية حيث تسلط الاضواء وبقوة على زاوية معينة حتى نعد خيوط العنكبوت في هذه الزاوية وتطفيء الانوار عن جمل واقف في الزاوية الاخرى فلا نعلم بوجوده هكذا الاعلام يصنع بنا ما يشاء (طبعا هذا سابقا )
واليوم مع انتشار الفضائيات الكثيرة والصحف المبتذلة والانترنيت والفيس بوك وتويتر وغيرها ومع وجود الديمقراطية قلنا اننا سنتخلص من قبضة الاعلام المجير  ولكننا نتفاجي ان الفضائيات التي يمتلكها المكون كذا كلها تعمل للقائد الفذ الضرورة الذي على راس ذلك المكون ويظهر هذا واضحا وجليا عندما يقوم الطرف المقابل بانتقاد هذا القائد الضرورة وسياسته ..
الاجهزة القمعية التي كانت تعمل في السابق التي تتفنن في التعذيب وتعمل لصالح القائد والنظام وتعتقل بوشاية  او تقرير من رفيق(لابس زيتوني)
هي نفسها اليوم تعمل وبنفس القسوة ونفس الاليات لصالح النظام مع زيادة بوسائل التعذيب وتعتقل بوشاية المخبر السري خاصة اذا كان يمتلك محبس وسبحة او يعتقل بالحملات العشوائية
 كان المتوقع من النظام الجديد أن يؤسس لديمقراطية حقيقية لكنه للأسف حافظ على ماكينة الاستبداد التي ورثها وبدأ يوجهها لمصلحته.
واجهزة الحكومة التي كانت تنفذ ما يريده القائد الضرورة وبدون اعتراض هي نفسها اليوم تنفذ مايريد القائد الديمقراطي الجديد ايضا وبدون اعتراض فالولاء الدائم والابدي هو للنظام  وللنظام فقط بغض النظر عن القانون والكفاءة والامكانيات والانتماءات والارتتباطات الخارجية وحب الوطن والشعب من عدمه وغيرها من القيم المفقودة
كان بالامس تعيين الموظفين وخاصة منها الدرجات العليا مدير فما فوق او الدرجات الخاصة (مدير عام فما فوق) وبعض الوظائف الحساسة كالاستخبارات والامن والخارجية وغيرها …من البعثيين حصرا
اليوم تعيين هؤلاء يجب ان يكون من الاحزاب الحاكمة حصرا ويتميز الحزب الحاكم بحصة الاسد
فما اشبه اليوم بالامس!!نفس الافكار.. نفس السلوكيات ..((ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بانفسهم))
    القائمة تطول والمقارنة في كل مفردة واضحة وجلية  فاليوم هو اسؤ من الامس والامس اسؤ من اول امس …وغدا  اسؤ من اليوم … وهكذا فلم ولن تتغير احوالنا ما دمنا (مكانك راوح)  حيث نكرر نفس سلوكياتنا ونفس افعالنا ولا تتغير توجهاتنا
فنحن شعب قادر على صناعة الدكتاتوريات وبكفاءة عالية ولنا في ذلك تاريخ  وتراث موصول الى  يومنا هذا
مهما كان الإنسان متواضعا فإنه إذا تولى السلطة غالبا ما يكون ضعيفا أمام النفاق والاطراء المحترف ، وشيئا فشيئا سوف يصدق كلمات المديح ويعتبر أنه يستحقها عن جدارة.
في كتابه الرائع «ماذا حدث للثورة المصرية ؟» يحكي المفكر الكبير جلال أمين تجربته عندما كان أستاذا في الجامعة الأمريكية، ففي الأيام التي يلقي فيها محاضراته كان الطلاب يتوافدون على مكتبه ليسألوه أو ويطلبوا منه أشياء تتعلق بالدراسة وبعد أن يقضي لهم طلباتهم كان هؤلاء الطلاب كثيرا ما يشكرونه بطريقة زائدة أو يمدحونه بإفراط ،وهنا يقول الدكتور جلال أمين:«لاحظت أنني في مثل هذه المواقف تعتريني لبعض الوقت درجة لا يستهان بها من الإعجاب بالنفس والغرور إذ أصدق ما قيل عني وأعتبره صادقا لمجرد أنني أحب أن يكون كذلك».
هذه الدرجة العالية من مراقبة النفس ومقاومة الغرور التي يتمتع بها الدكتور جلال أمين لا تتوفر عند معظم الناس. خاصة عندما يكون المسؤول محاطا بعدة مئات من الحمايات وتقطع الطرق وتمشط امنيا قبل يوم او اكثر من مروره في تلك المنطقة وثناء واشعار وقصائد تمجيد وهواسات شيوخ عشائر فكيف لا يتحول الى دكتاتورر؟؟؟؟
دائما يعلن من يعتلي الكرسي أنه يرفض الاستبداد لكن التجربة علمتنا أن كل من حكم العراق قد بدأ متواضعا طيبا مدافعا عن حقوق الناس ثم تحول شيئا فشيئا إلى طاغية ليرتكب أبشع الجرائم من أجل الاحتفاظ بالسلطة

بعد ان تطرقنا لبعض وسائل صناعة الدكتاتوريات….نتطرق الان الى بعض اسبابها
  اولا: التراث الديني
  المشكلة أن علاقة الحاكم بالمواطنين في التراث الإسلامي لها مفهومان متناقضان. لقد قدم الإسلام مفهوما ديمقراطيا للسلطة تجلى في حكم أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. ما أن تولى أبو بكر الحكم حتى ألقى خطبة عظيمة بدأها قائلا:
(أيها الناس قد ُوليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني)
هذه الجملة كانت بمثابة دستور ديمقراطي يعتبر الحاكم رجلا عاديا في خدمة المواطنين ومن حقهم نقده وتقويمه وخلعه من منصبه.. لكن هذا المفهوم العادل سرعان ما يختفي في التاريخ الإسلامي لينادي فقهاء كثيرون بوجوب طاعة الحاكم المسلم حتى ولو كان ظالما وفاسدا !وبعضهم يشدد فيقول ما اقام الصلاة فيكم
هذا المفهوم الاستبدادي البعيد عن صحيح الدين يمهد لصناعة الديكتاتور ويفسر لنا لماذا رفض كثيرون من المشايخ  الثورة ضد صدام ، ولماذا تعاونوا مع أجهزة الأمن، ولماذا أجاز بعض الفقهاء قتل المتظاهرين الذين يطالبون بإقالة صدام . فإذا أراد  أن يبقى في السلطة ما شاء فإن هؤلاء المشايخ سيؤيدونه غالبا لأن قراءتهم الخاطئة للإسلام لا تعترف بمبدأ تداول السلطة .
ثانيا : الموروث الثقافي
ان الثقافة العراقية والموروث الثقافي العراقي يدفع بهذا الاتجاه فشيخ العشيرة يامر وينهى واذا رفع يده من مائدة الطعام على الكل رفع يده حتى وان لم يتم او ينتهي من طعامه  واتباع المرجع الديني بشكل يكاد يكون اعمى واتباع الفتوى الدينية بدون تحكيم العقل وخاصة منها نظرية ((حطها بركبة عالم وطلع منها سالم )) والتي تتجاوز الحاجزالديني لتحط فوق اسوار السياسة فصار احدنا عندما يقول القائد الضرورة فلان ((اخرجوا يوم الجمعة للتضاهر على كذا )) نخرج صاغرين وبالملايين ونتقاتل ونتدافع ونعرض حياتنا للخطر ونعطي شهداء من اجل ان ننفذ ما امرنا به  (وانا بهذا لا اقصد اتجاها معيننا او جهة سياسية معينة ) ولكن هذا هو العراق وهذا هو شعبه وطباعه فهو شعب عاطفي وطيب الى ابعد الحدود ويقاد من خلال وسائل الاعلام ولا يمتلك قواعد وثوابت وطنية يجعلها معيار يقيس عليها ولذلك تجده يقوده من يناغم عواطفه بلغة الدين والمذهب القومية

 ثالثا: متلازمة ستوكهولم
اندلعت الحرب وخلع صدام  وحاكمناه واعدم ….لكن بعضنا من اصحاب الذاكرة القصيرة الى اليوم يترحمون عليه العراقيين ومازالوا يتعاطفون معه، بعض هؤلاء المتعاطفين موقفهم مفهوم لأنهم استفادوا من نظامه لكن الغريب أن هناك اخرين عانوا بشدة من ظلمه وفساده، لكنهم مع ذلك يدافعون عنه ويتعاطفون معه. هؤلاء في رأيي مصابون بمرض متلازمة استوكهولم ( Stockholm syndrome) .
ففي عام 1973 هاجم بعض اللصوص أحد البنوك في استوكهولم وأخذوا أربعة موظفين )ثلاث نساء ورجل ) رهائن لمدة ستة أيام وكانت المفارقة في أن المختطفين بعد إطلاق سراحهم تكونت بداخلهم مشاعر تعاطف وارتباط بالجناة، حتى صار رجال الشرطة بالنسبة لهم أعداء، والخاطفون هم الأصدقاء. إن متلازمة استوكهولم كما تصيب الأفراد تصيب الشعوب التي تتعرض للاستبداد لفترة طويلة، إذ يتعلق بعض الناس بالطاغية مع اعترافهم بظلمه وفساده، لكن وجوده في السلطة يمنحهم إحساسا بالأمن، ويكون بالنسبة إليهم الأب الذي يحميهم من شرور العالم فهم يتعلقون به مهما ظلمهم وقمعهم .. هذا القطاع من العراقيين الذي لا نعرف حجمه لا يمكن أن يتعامل مع الرئيس باعتباره موظفا عاما، فهم يشتاقون إلى طاغية يحميهم ويقمعهم ويحسون بضعفهم وضآلتهم أمامه.
هؤلاء المرضى بمتلازمة استوكهولم بعد أن تأكدوا من أن صدام لن يعود بدأوا يتعلقون بالجديد ويبررون كل أفعاله مهما كانت خاطئة و يصورونه باعتباره زعيما ملهما جاء لينقذ الأمة بحكمته وشجاعته.
في ظل ما ذكرناه من اليات وعوامل مسببة  يتم الآن تصنيع ديكتاتور جديد للعراق.
.  إن الشعب العراقي قدم آلاف الشهداء  من أجل الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية ،وهذه المبادئ لا يمكن أن تتحقق إلا بعد أن نرسخ في الأذهان أن الرئيس مجرد موظف مهمته أن يخدم المواطنين ويجب أن يحاسب بشدة على أخطائه كما يجب أن يتحمل النقد مهما كان قاسيا أو متجاوزا لأن الغرض منه الصالح العام..على الجميع ان لايعطي لرجل الدين او رجل الدولة اكثر من كونه خادم للشعب ويتعامل ابناء الشعب معه على هذا الاساس فلا قدسية للمرجع الديني ولا ولاء مطلق لرجل الدولة فقوة السلطان بشعبه وليس العكس فاذا ما فهمنا هذه الحقيقة وتعاملنا بها كما فهمتها الشعوب المتقدمة وتعاملت بها عندها سيركض حكامنا ورجال ديننا وراءنا ويسعون لارضاءنا لا يفعل حكام هذه الشعوب معها
مهمتنا الآن في رأيي أن نمنع صناعة طاغية جديد.. عندئذ سنبني الدولة الديمقراطية التي مات من أجلها الشهداء.وطبعا هذا لا يتحقق بضغطة زر او بعصا سحرية  ولكن يتم بالصبر والمطاولة على تغيير الثقافات وبجهد يشارك فيه كل شرائح المجتمع من مثقفين ومنظمات ورجال دين وحملات توعية تطول سنين ربما يجني ثمارها ابناءنا او من بعدهم
 [email protected]