قد يبدو العنوان غريباً بعض الشيء فالمعروف للجميع ان العراق لا يستطيع حالياً حتى رسم خارطته السياسية ولا الاقتصادية ولا الاجتماعية فكيف يرسم خارطة المنطقة ككل؟ دعونا نرى:
اول ثورة في الربيع العربي
قال الكثيرون ان اول ثورة فيما يسمى الربيع العربي سبقت اخواتها بعشرين عاماً في العراق وهي ما تسمى الانتفاضة الشعبانية ضد حكم صدام عام 1991م والتي اوشكت على النجاح في اسقاط الدكتاتور واقامة حكومة اسلامية حيث ان التاريخ يذكر لنا انه بالرغم من تعدد مشارب المنتفضين وتوجهاتهم الا ان الاغلبية منهم كانت تتجه بوصلتهم الفكرية والتوجيهية والقيادية صوب الحوزة العلمية في النجف الاشرف بل ان بعض قادة الانتفاضة هم ابناء الحوزة انفسهم ولكن هذا العامل الذي يفترض ان يشكل مركز قوة للانتفاضة ادى الى قبرها في مهدها! كيف ذلك؟ اليكم الجواب:
ايران ثانية
في بداية الامر سمحت امريكا للثورة المسلحة بأن تضعف النظام وتسقط سيطرته على 14 محافظة املة بأن يكون ذلك مدخلاً لتدخلها بشكل مباشر في السيطرة على منابع النفط العراقي ولكن حين بدأت تتضح ملامح الثورة وانها اسلامية بامتياز خشيت امريكا من خلق نظام مشابه لأيران ومجاور لها وهو الامر الذي كان سيشكل لهم ضربة قاضية للمصالح الامريكية في الخليج فعملت على فصل الشمال والدخول اليه بقوة اقتصادياً وسياسياً وحتى عسكرياً بفرض منطقة حظر جوي في الشمال والجنوب واما بقية العراق فقد سمحت للنظام في وقتها بأن يبيد المنتفضين فيه عن بكرة ابيهم هم وعوائلهم وعشائرهم واهل منطقتهم حتى لم يبق للثورة والثوار من اثر! وقد وضعت امريكا في وقتها شرطاً على صدام للبقاء وهو العمل على تشتيت بوصلة الشعب وضرب قيادته في الصميم بتشويه السمعة ودس المنحرفين والمغرضين للعمل على سحق ثقة الناس بقيادتهم الدينية وحين استتب الامر وظنت امريكا انها حققت المراد دخلت عسكرياً عام 2003 ضانة ان الشعب قد خسر البوصلة وضيع الطريق وقد كانت تأمل بأن تطبق نفس سيناريو العراق على كل دول المنطقة وهو الامر الذي صرحوا به في وقته حيث كان قادتهم يؤكدون ان العراق هو المدخل لنشر الديمقراطية في المنطقة وان ما يحصل في العراق سينتشر سريعاً الى كل دول الجوار ولكن هنا حصل ما لم يكن في الحسبان، حيث وجدوا ان الشعب ما يزال يمتلك روح المقاومة والتحدي والبوصلة الدينية بل انها قد تكون اقوى من ذي قبل فتثور المحافظات كلها وتقاوم واخيراً تجبر المحتل على الانسحاب وترك الارض عسكرياً وان لم يكن قد تركها اقتصادياً وثقافياً ومخابراتياً!
سيناريو جديد
ادركت امريكا وحلفائها ان التدخل العسكري المباشر لم يعد هو الحل وبدأت بالعمل على ايجاد سيناريوهات جديدة لبقية دول المنطقة فاستغلت حادثة (بو عزيزي) في تونس لأسقاط النظام ودعم الاسلاميين للوصول الى السلطة في ظل الفوضى لتسقطهم شعبياً واثبات فشلهم في قيادة بلد علماني منذ اكثر من نصف قرن كتونس واما في ليبيا فقد اعتمدوا خطة جديدة تمثلت في الدعم الجوي فقط وتسليح المعارضة ولكن هذه الخطة كلفتهم الكثير ايضاً حيث تصاعدت وتيرة الحقد عليهم من قبل الشعب الليبي حتى تم مهاجمة السفارة الامريكية وقتل السفير فأدركت امريكا ايضاً ان اي تدخل عسكري ولو من الجو ستكون له عواقب وخيمة. في مصر واليمن الوضع مختلف فالتعددية الاثنية والطائفية والعرقية تسمح للغرب بأن ينام قرير العين وهو يرى ابناء البلد الواحد يقتل بعضهم بعضاً بتحريضات وتهويلات وخزعبلات من هنا وهناك يعلم الجميع ان اغلبها ان لم يكن كلها مدفوعة بأموال من وراء الحدود وايضاً تنجح الثورات (ظاهرياً) وتسقط الاحزاب الاسلامية واقعياً وفعلياً في النفوس وفي الشارع المصري واليمني واخيراً وليس اخراً الحلقة الاخيرة في مسلسل الربيع المثلج (سوريا):
سوريا مجمع التناقضات
يعلم الجميع قوة النظام السوري والجيش السوري والدعم الروسي والايراني للنظام السوري ولذا لم يكن يخطر ببال احد ان نظاماً كهذا يمكن ان يتزعزع من مكانه ولو بعد قرون ولكن تشاء المؤامرات والدسائس والمخططات الكبرى بأن تكون سوريا هي ساحة الحرب الاخيرة او الحلقة الاخيرة في حرب (اشغال العرب بأنفسهم وترك اسرائيل تلعب وتمرح بلا تعب ولا نصب) وهذا ما اكده قادة الصهاينة انفسهم حيث صرحوا بأن العرب لم يعودوا يشكلون تهديداً لأمن اسرائيل بعد ان انشغلوا (وسينشغلون لسنين طويلة) في محاربة بعضهم البعض الاخر ومن هنا لا نستغرب عدم التدخل العسكري لأمريكا وحلفائها في سورياً لا مباشرة ولا جوياً ولا غيرها لتكون كالساحر الذي يحرك الجنود ويجيش الجيوش ويقود الحرب عن بعد لا سلكياً والمستهدف هو امن اسرائيل وتصريف السلاح الامريكي وشغل العرب بالعرب والقضاء على اخر جيوب المقاومة وابراز السلفيين كقوة لا يستهان بها وايصالهم للحكم واثبات فشلهم (ان خالفوا الارادة الامريكية) او تسليطهم على الرقاب لعقود (ان وافقوا على امضاء مصالح امريكا في بلدانهم ولم يحاربوا اسرائيل) لتعود الامور الى الهيجان والثورة بعد ان يمل الناس خزعبلاتهم وبعد ان ينتهي دورهم في المسرحية التي تخرج احداثها امريكا واسرائيل وتعود الكرة من جديد للثورة على الثورة وهلم جرا.
اين العراق من كل هذا؟
قد يسأل سائل هنا ويقول: فأين العراق من كل هذا وكيف ساهم في رسم خارطة المنطقة وهو كغيره حجر شطرنج في رقعة الدول الكبرى؟
والجواب يكون على عدة مستويات، اولها انه (العراق) كان ولا يزال فأر تجارب الغرب في المنطقة فكل ما يحصل في العراق من افعال وردود فعل يحصل مثله تماماً في بقية الدول ولو بعد حين ولذا كان العراق سباقاً الى الثورة وسباقاً الى الحرب الطائفية وسباقاً الى صعود الاسلاميين وهزيمتهم واقعياً والمسرحية والسيناريو يسير على قدم وساق وللأسف وسط غفلة الشعوب المغيبة ذهنياً وفكرياً وعقائدياً والتي تنام حين يقال لها نامي وتصحوا بتنويم مغناطيسي حين تؤمر بذلك وباتجاه مدروس بعد الرقاد وبإيحاء واموال ودعم من اعداء هذه الشعوب انفسهم. المستوى الاخر للجواب يكون بمعرفة ان العراق كبلد يتوسط جغرافياً تركيا وايران ولكلاهما مصالح ومطامع في هذا البلد بل وبما بعده ولذا فأن اي خطة يراد تنفيذها في المنطقة لا بد ان تمر اولاً على العراق وتدرس نتائجها فيه لكي تنتقل الى مراحلها المتقدمة في بقية الدول ومن هنا كان العراق هو حجر الزاوية في كل ما حصل ويحصل ومن هنا فأن كل فعل او رد فعل من العراقيين قيادات وشعب له تأثيراته المدروسة والمنطقية والمتشعبة على العراق نفسه وعلى كل دول الجوار العربي والاسلامي فأصحوا يرحمكم الله ولا تفكروا انياً بل ليكن التفكير عند كل منا ممتداً الى عقود من الماضي والحاضر والمستقبل.