18 ديسمبر، 2024 8:46 م

العراق وظاهرة الكتّاب السياسيين- وفرة في الأسماء  وفقر في الأداء – عن الاستقراء والخلل وماينتج عنهما  

العراق وظاهرة الكتّاب السياسيين- وفرة في الأسماء  وفقر في الأداء – عن الاستقراء والخلل وماينتج عنهما  

 إذا كنت ممن تستهويه قراءة التاريخ والنظر في أحوال الشعوب ، فسيجذبك التاريخ العراقي ولن تنجو منه ، إلا بحصيلة معرفية تدهشك بمفارقاتها واكتشافاتها ، كلما مضيت قدماً في قراءته.
التاريخ في العراق ، لايتعلق بحوادث وقعت ، ولا بأزمنة  مضت بما فيها وما عليها ، لكنه الحاضر،  بل والمستقبل كذلك ، إذ بإمكان الباحث المدقق ، أن يستخرج مفردات المستقبل من وقائع الماضي وحيثيات الحاضر ، من دون خشية من خطأ كبير .
ولكي لا نتوه في الإستطرادات ، سنبني  على ماقاله رحالّة بريطاني  في ثلاثينات القرن المنصرم ، وهو يصف حالة العراق في أهم مظاهره – الشعر – لقد لاحظ الرحّالة المذكور ، الكثرة من الشعراء في العراق ، فوصف ذلك بما مضمونه : كأن في العراق شاعر تحت كلّ نخلة .
لاشك إن الرحّالة  بالغ  فيما ذكره ، لكن قوله مليء بالمغزى ، فقد كانت النخيل العراقية  تزيد عن ثلاثين مليون نخلة مثمرة ،تحمل أجود أنواع التمور وأكثرها شهرة  ، في بلد لم يتجاوز عدد سكانه آنذاك ، الخمسة ملايين نسمة ، كانت نسبة الأمية بينهم  تزيد  عن 90 %  ، لكن قلّما تجد فيهم من لاينظم الشعر أو يحفظه أو يستهويه سماعه.
الشعر له خصوصيته ، فقد كان الشاعر مجبولاً على الموهبة الفطرية والذكاء اللماح وحسن الإتّعاظ من دروس الحياة ودقّة الملاحظة ، ثم يأتي التعليم ليصقل تلك الصفات ويغنيها ، لكن التعليم  في كلّ حال لم يكن شرطاً ليشقّ الشاعر الموهوب طريقه نحو الشهرة ، رغم ندرة وسائل النشر، وبالتالي صعوبة الإنتشار .
مايميز الشعر هو تعدد مواضيعه، وان تمحورت حول أربعة أغراض  رئيسة كما في الشعر العربي عموماً: المدح – الهجاء – الغزل – الرثاء – لكن فطاحل الشعراء كانوا يبرعون في ابتكار الصورة والتقاط الجملة الحلوة العذبة ضمن تلك الأغراض .
بعد التغيير العاصف في التاسع من نيسان 2003، وجدت في العراق معطيات أخرى ، لقد ارتفع عدد السّكان إلى ما يزيد عن  30 مليون نسمة ، وصلت نسبة المتعلمين منهم الى مايفوق النصف ، فيما هبطت أعداد النخيل بشكل كارثي ، لتصبح بحدود 7 ملايين نخلة ، جلّها غير مثمر،  أو رديء  الثمر. .
في المقابل ، غصّ العراق بماسميّ ( الكتّاب ) السياسيين ، فقد تكاثرت وسائل النشر إلى درجة مدهشة ، عشرات الصحف اليومية وعشرات الآلاف من المواقع الألكترونية، وكلّها مستعدة لالتقاط مايكتب ، بصرف النظر عما يحتويه ومقدار مافيه من أصول الكتابة ، ناهيك عن الإبداع الفكري أو التحليلي أو الرؤيوي أو ماشابه من حيثيات الكتابة وجدواها .
يمكن الجزم، ان أيما (رحّالة ) في الصحف ومواقع الإنترنيت العراقية المتكاثرة ، قد لا يقع في خطأ كبير إذا استنتج بأن كلّ من يجيد القراءة والكتابة في العراق صار كاتباً ،من دون الاستناد إلى معرفة أو فكرة مبتكرة بالضرورة  ، أما إذا كان يمتلك خطاً للإنترنيت أو يحسن استخدامه ، فهو حتماً في مصافّ معشر الكتّاب أو يحاول أن يكون كذلك .
تلك ظاهرة إيجابية بعمومها ، لكن الإشكال فيها، إن الكتابة لم تبتعد عن أغراض الشعر إلا في موضعين : فقدها للجمال الذي يحمله الشعر ، واقتصارها غالباً على المدح والهجاء .
عهود طويلة قضاها ( الكتّاب) في تدبيج المقالات والدراسات والبحوث،  ومعظمها يدور حول إظهار عظمة القائد صدام وحزبه المظفر- واليوم ينتقل بعضهم إلى مدح القائد الأسد  وممانعته المظفرة –
 كانت طريق الشهرة أمام أولئك الكتّاب ميسّرة ، يكفي أن يستجلب الجمل والسطور ويختار أحسن ماقيل في المدح ويرصفها في مقال ، ثم يرسلها إلى العدد القليل من الصحف العراقية يومها ، عندها يكون رئيس التحرير ملزماً بنشرها، لتأتي من ثم  الردود والإشادات من كتّاب آخرين ، تمدح ماجاء في مقالة المادح ، وما يكاد ينشر بضع مقالات من هذا النوع ، حتى يصبح كاتباً مرموقاً وصحفياً لامعاً .
بعد 2003، إنقلبت حال الكتابة ظاهراً ، لكنها في الجوهر بقيت في مكانها ، تغيرت الأغراض ولم يتغير الأساس ، أصبحت البوصلة تشير إلى الهجاء والمدح معاً ، ليس مهمّاً ماتقول، ولا ماتحويه مقالتك من إضافات يمكنها ان تشكّل وعياً أو تخلق معرفة ، يكفي أن تهجو العملية الديمقراطية وتهاجم القائمين عليها ،أو تمدحهم  ، وكلما ازدادت شدّة هجومك أو مدحك، كلما كنت أقرب إلى الشهرة ، ولن تحتاج الكثير لتجمع مادتك ، سواء كنت تعيش في العراق وترى بنفسك ماتريد أن تراه ، أو على بعد آلاف الأميال ، وبالتالي يفترض موضوعياً انك لاتعرف حقيقة مايجري على وجه الدقّة ، بل حتى لو لم تكن عراقياً ولم تزر العراق يوماً ، فكل ذلك ليس مهمّاً ولن يحاسبك عليه أحد ، المهم أن تكتب ضد العملية السياسية في العراق أو تشيد بها ، بل لابأس أن تتجاوز ذلك إلى مهاجمة كلّ مافي العراق حتى شعبه ونخيله ، أو تجعله مقياساً للجودة والنوعية .
الحاكمون الجدد لم يقفوا مكتوفي الأيدي، إذ أستطاعوا أن يمدّوا تأثيراتهم إلى ” مفاصل ” إعلامية من مختلف الأشكال ، فإمتلأت بضيوف دائمين وبكتاب و” محللين  سياسيين ” اتخذوا من الدفاع عن الأحزاب الحاكمة  ومواقفها مهنة مربحة ، فأذا بكلّ من ينتقدها، يوصف بأنه متآمر على الديمقراطية ويريد إعادة الدكتاتورية الصدامية بالتنسيق مع أجندات خارجية ، أو أقلها بأنه ” مراهق ” في الكتابة ولايفقه بالسياسة  و – و – إلخ ،أي المفردات ذاتها التي كانت تذود عن النظام السابق وتمتدح ” إنجازاته ” وهكذا استعادت الكتابة المدحية رقصتها التقليدية كما عُرفتْ ومورستْ .
من مثال هذا النوع من الكتاب ،  ذلك الذي دخل عالم الكتابة ووضع لنفسه مايشير بأنه  رئيس لمركز أبحاث ، للإيحاء بأن مايكتبه ، يمكن الاعتداد به لأنه خلاصة فكر معتبر، لكن ما أن تقرأ ماكتبه بعد جهد ، حتى تقتحمك الابتسامة ، فهو يعتقد إن مجرد ملء حديثه بآيات قرآنية كريمة ، سيخفي خواء مايكتب ، وبالتالي يشتري رضا عن نفسه ربما تعويضاً عما لايملكه فعلاً ، فما من آية قرآنية أو حديث شريف يمنح دكتاتوراً حقّ ممارسة قتل شعبه كما يفعل نظام يدافع عنه ذلك الكاتب ويتجنب القول بأنه دكتاتور فعلاً ، كي لايكشف تهافت منطقه المتهافت أصلا ، أما المثير للطرافة ، فهو تورطه  في شرح ( الخلل البنيوي ) على أساس إن هناك خلل فسيولوجي وآخر معرفي في ردهّ على كاتب استخدام المصطلح للإشارة  إلى من يعاني خللاً في المعنيين، فمن الطبيعي أن الخلل المعرفي يرتبط حكماً بالخلل الفسيولوجي إذا كان متعلقاً بسلامة العقل ، وبالتالي قد ينكر صاحبه وجود الشمس لأنها تصيبه بالدوار ، أو يتصور الديك حرساً وطنياً .
وهكذا عاد ذلك الكاتب إلى تفسير  الماء بالماء ، متوهماً انه من أصحاب ” المنهج القرآني في التغيير ” كما وصف نفسه (( فهناك فرق بين الخلل البنيوي الفسلجي والخلل البنيوي في المنهج المعرفي , ومنهجنا ينتمي لمنهج ألاستقراء المنطقي الذي ينطلق من نظرية ألاحتمال ويزاوج بينها وبين العلم ألاجمالي ليصوغ فلسفة ألاعتقاد بالخالق))
ماهذا  ؟ أليس اجتراراً خاوياً  لإستجداء معنى ؟ وهل من ثرثرة متزحلقة أكثر من ذلك ؟ إذا كان كلّ  إستقرائه المنطقي وفلسفته المصاغة، لم يستطعا الإجابة عن سؤال بسيط:هل الأسد دكتاتور مستبد ؟ أم ديمقراطي يؤمن بالحرية ؟ وكيف جاء إلى الحكم ؟ وهل يرضى الخالق سبحانه لأي نظام أن يفتك بشعبه ؟ أم فقط النظام الذي يتوافق مع مايراه  أمثال ذلك الكاتب ؟ ولماذا لم يقده ذلك الاستقراء إلى تأييد القذافي  مثلاً ،الذي ادعى بدوره دعمه للمقاومة بكل أشكالها ؟ ثم سقط كذلك بتدخل أمريكي بريطاني فرنسي ؟ .
لكنه يطالب بإعطاء نموذج عن معارضة مقبولة في سوريا  ((أن من يزج نفسه في هذه المتاهات غير المؤهل لها وهو من لم يستطع أن يعطي مثلا على نموذج مقبول للمعارضة المسلحة التي تؤيدها فرنسا وبريطانيا ومن خلفهم أمريكا)) مقبول بنظر من ياترى ؟ فقط بنظر ذلك الكاتب وأمثاله ؟ أم من قبل شعبها وأكثر من نصف العالم؟  وإذا صحّ إن أكثر السوريين لايقبلونها ، فلماذا يستمرون بمساعدتها ودعهما إلى درجة لم يستطع النظام بكل آلة حربه ومايتدفق عليه من أسلحة ومعدات فتاكة، أن يهزمها ؟ فإذا كان  مقياس السوء فيها، هو قبولها الدعم الأمريكي البريطاني ، فإن بريطانيا وأمريكا ومن خلفها قطر كذلك ، هي التي أسقطت دكتاتورية صدام ، وبالتالي أفسحت في المجال لهؤلاء ” الاستقرائيين ” أن ينشروا جهلهم وعقدهم النفسية ، بدل نشر مبادىء الحرية والقيم والفكر المستنير في شعب عاني من الظلم والقمع طويلاً ، فلماذا أيدوا أو صمتوا أو تعاونوا مع مساعي أمريكا وبريطانيا في العراق وانتفعوا منها ، في وقت يرفضونها للسوريين ؟  وما الفرق بين هؤلاء ، وبين العرب الذين عابوا على العراقيين تلقيهم مساعدة أمريكا وبريطانيا في الإطاحة بدكتاتورية صدام واتهموهم بالعمالة ؟  وهل حزنت إسرائيل لسقوط صدام مثلاً ؟ ولماذا تسرح في إقليم شركائنا من دون اعتراض ؟ وكيف نعقد اتفاقات مع حكومة الإخوان في مصر ونؤيدها ، في وقت جددت فيه اتفاقاتها مع إسرائيل ؟ وماذا عن منح الأردن نفطاً عراقياً بأسعار مخفضة ؟ هل أنهى علاقته مع إسرائيل ؟ وفوق ذلك فهل إذا توفر النموذج المقبول للمعارضة المسلحة – حسب مقاسات ذلك الكاتب – سيجعله يغير موقفه من بشار الأسد فيصبح دكتاتوراً وليس ممانعاً ؟  وماهي مواصفات ” المقبولة” على وجه التحديد ؟هل عليها أن تكون من طائفة محددة مثلاً ؟ وهل يمنعها ذلك من ارتكاب الجرائم كما فعلت المليشيات في العراق ؟ .
المنهج الاستقرائي خذل  مدّعيه مرة أخرى  بل وسخر منه  ، لأنه لم يفهم بعد إن مناهضة الطغيان والظلم  والاحتلال ، هي مسألة قيمية  يسندها فكر يعرف جيداً  أن زمن الدكتاتوريات إلى زوال مهما تكابر وبالغ في وحشيته، ،وبالتالي في وقت ندين فيه الإرهاب وانحرافاته البغيضة باستغلاله الدين الحنيف للتحريض على قتل البشر أو تبرير الإجرام ، فإننا كذلك  ندين الدكتاتورية بكل إشكالها ونقف ضدها دون تحفظ ،لكن ذلك ” الاستقرائي ” ، يواصل النظر بعين واحدة ، ثم يحاول تبر ئة نفسه من الخلل بمعنييه الفسيلوجوي والمعرفي على السواء ، فهل من خلل بنيوي أكثر وضوحاً من هذا ؟ إنه يسوق الأدلة على نفسه دون أن يدري .
أما الأكثر مدعاة لبؤس هذا النوع ، فهو اعتباره إن مجرد الإشارة إلى مأساة إنسانية في اختطاف شاب بريء (1) هي استدرار للعطف ، هذا هو نمط ” التفكير” عند نماذج  تتشدق ب” المنهج الاستقرائي ” وبالتالي فلاغرابة أن ينظر إلى مأساة شعب يقتل منه المئات كلّ يوم، تلك النظرة المليئة بالرياء والإعوجاج وهو يواصل الدفاع عن دكتاتور تحت شعار” المقاومة والممانعة ( والذي لايزال يخلط بين منهج القائد الضرورة وبين منهج المقاومة والممانعة لايفقه في السياسة شيئا وهو المعني بالصمت  قبل غيره )  أورد هذه الجملة  المنقولة نصاً ،  كي يبتسم القارىء ليس الإ  ، ففقه السياسة لدى ذلك الكاتب ، لم يسعفه في الإجابة عن سؤال : هل الأسد من صنف القائد الضرورة ؟ أم قائد المقاومة والممانعة ؟  وما الفرق بين الاثنين ؟ فإذا كان  الأسد من الصنف الثاني حسبما يوحي الكاتب ،فلماذا لم نر مقاومته في الجولان المحتل منذ مايقرب من نصف قرن لم يضرب المحتلين بحجر واحد؟ وماهي صفات القائد الضرورة غير أن  يكون مستعداً لسحق  الآلاف من شعبه وتدمير مدنه كي يبقى في السلطة ؟ ثم إذا كنتم تفقهون في السياسة أصلاً ، فلماذا يتخبط العراق تحت حكمكم في أزماته ومآسيه ؟
يإالهي، كيف يمكن لمن يدعي إنه لايعاني خلل بنيوياً ،أن يحمل كلّ هذه المتناقضات والخلط  المثير للرثاء ، ومع ذلك يستمر في هذيانه ؟ لاشك إنه مجبر على ذلك ،وإلا فصمته أولى به واستر لحاله .  
تلك لحظة زمنية بالغة الكثافة ، تجتمع فيها السايكولوجيا وما تفرزه من عقد نفسية عميقة الغور ، مع الآيديلوجيا  وماراكمته من مقولات طالما لعبت دوراً سلبياً في مصادرة الإدراك ، خاصة مع زّج الدين وآياته البينات والأحاديث الشريفة ، في موضوع سياسي محدد وواضح ، للتهرب من مستحقات الإجابة ، إضافة إلى الدوافع الذاتية في البحث عن الشهرة أو المنفعة من أي سبيل —- يتبع .
(*)سئل الفيلسوف الإيرلندي الساخر برناردو شو عن رأيه في وضع الإقتصاد العالمي فقال 🙁 هو بين لحيتي ورأسي ، غزارة في الإنتاج وسوء في التوزيع ) وكان برناردشو  أصلع الرأس كثيف اللحية .
 (1) : الإشارة إلى أن حادثة الخطف في عنوان مقالتي السابقة ، أضيفت من قبل الأخ رئيس التحرير وباجتهاد تضامني منه على مايبدو  ، أما عنوان مقالتي بالأصل  فهو  ( تأييد الدكتاتوريات – كبوات سياسية أم خلل بنيوي  –  هل يدفع الأبرياء ثمن الكلمة ؟ ) هكذا نصّاً .