العراق وسيادة القرار الدفاعي لا حماية دون قدرة ذاتية للجيش العراقي

العراق وسيادة القرار الدفاعي لا حماية دون قدرة ذاتية للجيش العراقي

إن من المسلمات التي لا يمكن تجاوزها في بناء استراتيجية أمن وطني حقيقية أن الحماية لا تُمنح بل تُنتزع بالإرادة والسيادة والقدرة الذاتية. إن الاتكال على القوى الدولية في إدارة الأمن والدفاع عن الدولة يمثل ثغرة استراتيجية قد تؤدي إلى نتائج كارثية على المدى البعيد. الولايات المتحدة أو غيرها من القوى الدولية لن تكون بديلاً عن الجيش العراقي ولن تحمي من لا يمتلك أدوات حمايته بنفسه. من هنا تنبع الحاجة الملحة لتسليط الضوء على قضية جوهرية وهي بناء القدرات العسكرية الوطنية العراقية بشكل متكامل  دون الارتهان للدعم الخارجي إلا في إطار التعاون التقني والتنسيق الاستخباري ومكافحة الإرهاب  وعقود التسليح والتجهيز والدعم الفني الذي يسهم في رفع الجاهزية دون التأثير على القرار السيادي المستقل. تجربة العراق في مرحلة ما بعد عام 2003 أظهرت أن عملية بناء الجيش ليست مجرد مسألة تسليح بل هي مشروع وطني يتطلب قراراً سياسياً شجاعاً، وتخصيصاً مالياً مدروساً، ورؤية استراتيجية بعيدة المدى. في عام 2004 كنت مسؤولاً مباشراً عن وضع خطط بناء الجيش العراقي بجميع صنوفه  من القوات الجوية والبحرية والبرية  إلى طيران الجيش والدفاع الجوي وباقي التشكيلات. وقد عملنا آنذاك ضمن فريق تخطيط مشترك مع الجانب الأمريكي الذي كان يقدم معلومات مهمة ويساهم في عملية التخطيط وفق المعايير العلمية العسكرية. وقد وُضعت ثلاثة سيناريوهات زمنية لاستكمال البناء الشامل للقوات المسلحة العراقية تتراوح بين عام 2018 وعام 2025، بناءً على حجم الموارد المالية المتاحة ومدى جدية الإرادة السياسية في دفع عجلة بناء الجيش الحديث رغم الانطلاقة الجادة آنذاك  إلا أن الأحداث الكبرى التي شهدها العراق لاحقاً وفي مقدمتها سقوط الموصل عام 2014 تسببت في تعطيل تلك الخطط وإعادة ترتيب الأولويات الأمنية على حساب مشاريع البناء العسكري المؤسسي. واليوم وبعد مضي ما يقارب عشرين عاماً تبرز من جديد الحاجة الملحة لإعادة تفعيل مشروع البناء العسكري الكامل مع ضرورة سد الثغرات التي ظلت قائمة حتى اللحظة وعلى رأسها منظومة الدفاع الجوي وبعض الجوانب المرتبطة بالسيادة الجوية والاستخبارية والسيبرانية.لا يمكن التغاضي عن الأصوات التي تحاول التقليل من أهمية الاكتفاء الذاتي الأمني أو التي ترى في وجود القوات الأجنبية بديلاً أو ضمانة لحماية البلاد. إن هذه النظرة ضيقة الأفق ولا تمت بصلة للتفكير الاستراتيجي فالعلم العسكري لا يفهمه إلا المتخصصون وهو مبني على تقدير المهددات المستقبلية وليس فقط على المعطيات الراهنة. الأمن النسبي الحالي لا ينبغي أن يُغري بصرف النظر عن بناء الردع الوطني القادر على التصدي لأي خطر مفاجئ من هنا فإن على جميع القوى السياسية أن تتعامل مع مشروع استكمال بناء الجيش العراقي باعتباره أولوية وطنية عليا. ويتوجب على الدولة العراقية توفير موازنات مالية مستدامة وموجهة بدقة نحو تعزيز الكفاءة والجاهزية والقدرات القتالية والتقني والاستخبارية للقوات المسلحة. السيادة لا تكتمل إلا بجيش قوي قادر على الدفاع عن الوطن دون الحاجة لطلب المساعدة من أحد سواء كانت دولة صديقة أو مجاورة أو قوة عظمى. الاستعداد للتهديدات المحتملة يتطلب جهداً استباقياً وليس ردة فعل وقت الأزمات.الإسراع في إغلاق الفجوات الدفاعية وبناء قدرات متكاملة لقواتنا المسلحة ليس ترفاً  بل ضرورة وطنية واستراتيجية تمليها دروس الماضي وتحديات المستقبل وهو خيار لا يحتمل التراجع أو التأجيل وفي ختام هذه الرؤية لا بد من لفت أنظار القيادة السياسية العراقية إلى حقيقة لطالما أثبتها الواقع الدولي وهي أن بناء الجيوش الحديثة لا يمكن أن يتم بلا تخصيص ميزانيات عالية ومخصصة لهذا الغرض الحيوي فهناك دول تضع أولوية قصوى في موازناتها لتحديث منظوماتها العسكرية وتسليحها بأحدث التقنيات لأن قوة الجيش تعني قوة الدولة والجيش القوي يحقق الردع والردع هو الذي يصنع السلام فلا سلام بلا قوة ولا أمن بلا استعداد ومن أراد الأمن والاستقرار فعليه أن يكون جاهزاً للحرب ومسلحاً بما يكفي ليمنع وقوعها لا أن ينتظر غيره للدفاع عنه أو يتوهم أن التحالفات يمكن أن تكون بديلاً عن الجاهزية الوطنية..

أحدث المقالات

أحدث المقالات