تنشط في السنوات الأخيرة وضمن حقل العلاقات الدولية إحدى أهم وأخطر النظريات الحديثة نسبياً إذا ما قورنت بغيرها، هذه النظرية المأخوذة عن العلوم الطبيعية تدعى بـ(نظرية التعقيد)، وهي ترى بأن التغيرات الكبيرة التي نشهدها في عموم الحياة وفي العلاقات الدولية على وجه الخصوص مبتدأها حركة صغيرة قد تكون غير محسوسة على الإطلاق ولا أثر لها يلمس بشكل آني.
وتضرب النظرية لهذا الطرح مثلاً بأن حركة الرياح والعواصف التي قد تهلك في إثرها مدناً كاملة قد تكون بدايتها من حركة لجناح إحدى الفراشات على بعد مليارات الكيلومترات، لكنها ومع مرور الزمن بدأت تكبر شيئاً فشيئاً حتى تحولت الى مشهد الإعصار الذي بات حدثاً عالمياً.
ووفق هذه النظرية فإن الربيع العربي لم يكن محض صدفة وإنما كان تطوراً طبيعياً لحركات احتجاجية صغيرة أو لإضرابات طلابية محدودة أو رأي سياسي نشر على صفحات إحدى الصحف أو وجد له مكاناً ضيقاً في مواقع التواصل الاجتماعي، ولكل دولة حالتها الخاصة.
وكذا كان طوفان الأقصى في حقيقته، فهو ليس إلاّ تطوراً للعديد من العمليات التي قام بها مقاتلو القسام على مدى السنوات الماضية لكن دون أن يستشعر العالم أن تلك العمليات التي كانت تتسم بالطابع الفردي قد تكون يوماً ما سبباً في هجوم كبير كالذي حصل في السابع من أكتوبر.
كما أن التغيير الذي طال النظام السوري وأزاحه على السلطة بعد أكثر من 50 سنة من سيطرته على الحكم هناك لم يكن إلاّ المشهد النهائي لسلسلة من الأحداث الصغيرة التي تراكمت كـ(كرة الثلج) لتهوي بنظام البعث العتيد في تلك الدولة.
هذا الطرح النظري في حقيقته ليس إبتكاراً جديداً على الإطلاق، لكن توظيفه لتفسير ظواهر تعيشها الدول والنظام الدولي هو الجديد والمثير في الحقيقة، فكلنا يدرك أن الأمراض المستعصية لا تحدث فجأة، وإنما هي نتيجة لأعراض قد لا يكون بعضها منظوراً وكذا إنهيار البنايات الضخمة هو ليس إلاّ الصورة النهائية لشقوق صغيرة رسمتها عوامل الزمن على جدرانها وانتهت بها إلى كومة من الأحجار والحديد.
قطار التغيير الذي بدأ في العالم العربي عام 2011 وما أعقبه من أحداث جسام على مستوى المنطقة انتهت قبل أشهر بإسقاط أحد أعتى الأنظمة الدكتاتورية العربية في سوريا يبيّن لنا أن منطقتنا لازالت الجزء الرخو من العالم الذي لم يصل لمرحلة الثبات في الشكل والمضمون، وعلينا أن نتوقع الأكبر والأكثر في قابل الأيام.
وأبعد الأشياء عن التوقع أقربها للوقوع كما يقال.. فمن يتصوّر أن من كان يوسم بـ(الإرهابي) قبل 6 أشهر على الأبعد يحمل اليوم صفة الرئيس السوري وتجرى له مراسم الاستقبال الرسمي في دول المنطقة !!
وبالعودة إلى العراق فإن الدولة العراقية -التي عاشت عقود ثلاثة من السكون تحت ظل نظام مستبد- عاشت حدثاً ضخماً في العام 2003، تمثل بالاحتلال الأمريكي للعراق، ولم تتحقق منذ ذلك الوقت حالة الاستقرار للدولة العراقية، فمن حرب طائفية لموجة احتجاجات في المحافظات الوسطى والغربية لدخول تنظيم داعش على خط اضطراب الأوضاع الأمنية وما تبعها من عمليات عسكرية متعددة ومتنوعة.
ومع دخول العالم أزمة أنتشار وباء كورونا دخل العراق في أزمة الاحتجاجات الشعبية، لكن هذه المرة في بغداد وما اصطلح على تسميته بثورة تشرين، والتي أنتجت حراكاً سياسياً أودى بحكومة عادل عبد المهدي وجاء بحكومة الكاظمي في ظروف غاية في الإرتباك والتعقيد وانتهاءً بحكومة السوداني التي تواجه اليوم تحدياً اقتصاديا ينذر بأزمة خطيرة جداً في ظل تهديدات بعقوبات أمريكية صارمة.
إن المتتبّع للأحداث التي عاشها العراق خلال العقدين الماضيين يكتشف أن هذه البلاد تعيش على صفيح ساخن، وأنها لازالت لم تصل لدرجة الاستقرار المطلوبة لأي دولة تعيش اليوم ضمن النظام الدولي، ولك أن تتخيّل أن الطبقة السياسية التي كانت ترفض قبل أيام الحديث عن تأسيس الإقليم (السنّي) غرب العراق باتت اليوم تتبنّى خطاب الدعوة لتأسيس إقليم الوسط والجنوب لجمع المحافظات الشيعية ضمن إدارة مركزية واحدة.
وأرى أن الأحداث التي عاشها العراق في مرحلة ما بعد الاحتلال الأمريكي باتت تمهّد اليوم لحالة جديدة غير متوقعة على مستوى الواقع السياسي للدولة العراقية وأن الأحداث التي عشناها وإن كانت صغيرة لم ولن تنتهي إلى لاشيء وإنما الأيام حبلى بالأحداث غير المتوقعة.. وعلى اللبيب أن يفهم فالإشارة كافية.