23 ديسمبر، 2024 8:22 ص

العراق .. وتسونامي المنطقة

العراق .. وتسونامي المنطقة

 تمر العملية السياسية بمنعطفات حاسمة على خلفية الإستقطابات السياسية بين أركان قوى الدولة العراقية،.. يأتي ذلك كله وسط تسونامي شرق أوسطي يضرب بعمق جميع بنى مجتمعات ودول المنطقة.

ما هو الجديد

   ليس هناك من جديد طرأ على مسار العلاقات الشائكة بين القوى السياسية المتصدية لفعل الدولة العراقية، فأزمات الدولة -ذات الطابع العرقي الطائفي المتلبسة بلبوس السياسية- هي هي لم تشهد حسماً منذ سقوط الدكتاتورية في 2003م بل تم ترحيلها والإلتفاف على استحقاقها بشتى الذرائع.
   في تصوري لا جديد يستدعي كل هذا الحشد والإستقطاب والتهديد،.. لكن الجديد هو انعكاس اضطراب إقليم الشرق الأوسط على الواقع العراقي، وما تستدعيه متغيرات المنطقة من اصطفافات جديدة وإنهاء الملفات العالقة في بنية الدولة العراقية استعداداً لمرحلة جديدة سيشهدها الشرق الأوسط عنوانها (موت وولادة دول) ستعيد تركيب الأمم والدول على وفق مقاسات وهويات سياسية قومية ومذهبية وإثنية واضحة الخصوصية.
   لقد ماتت -أو هي على وشك الموت- الدولة الشرق أوسطية التقليدية، وهناك بحكم الضرورة التاريخية أو بحكم المؤامرة أو بحكم النضوج الطبيعي للأحداث، هناك إعادة لإنتاج أمم المنطقة، ستظهر أمم سياسية (دول) بعد زوال نموذج الدولة الشرق أوسطية التي مارست الإستبداد والتمييز. هذا يعني أنَّ مشروع الدولة هنا وهناك سيتأثر بمتغيرات المنطقة، بمعنى أن إعادة تشكيل أية أمة سياسية في الشرق الأوسط سيعني بالضرورة إعادة تشكيل الأمم السياسية الأخرى، فلا يمكن تصور صمود أية بنية سياسية لأية دولة بمعزل عن الأخرى، فالمنطقة مترابطة ومتداخلة في ملفاتها ومتشابهة في بنية أزماتها.
   أقول: الجديد هو استحقاقات الخارج على الداخل، فثقل المتغيرات وحدة الإستقطابات على مستوى المنطقة هي الجديدة التي ستفرض تغييرات جوهوية في بنية الدولة العراقية اليوم أوغدا.

تحولات

   شهدت وتشهد منطقة الشرق الأوسط تحولات جوهرية في بنية مجتمعاتها ودولها، والمؤشرات الأولية تفيد بتفتت أمة الدولة في أكثر من دولة (النموذج الليبي، السوادني، السوري).
   لا يمكن التنبؤ بمسار هذه التحولات واتجاهاتها، لكن القراءة الأولية تفيد بأنَّ الساحة الشرق أوسطية متجه نحو إعادة إنتاج نفسها عرقياً ومذهبياً وإثنيا، ستتجلى إعادة الإنتاج هذه بقيام دول (صافية) تتماهى فيها الوطنية بالعرقية والمذهبية والإثنية، وهو اتجاه سيعيد رسم خارطة الشرق الأوسط والعالم بأسره.

فشل الدولة الوطنية

   احتمالية قيام الدول على أساس من الهويات الدينية المذهبية العرقية الإثنية اتجاه أنتجه بالضرورة فشل مشروع الدولة الوطنية شرق أوسطيا، فنموذج الدولة التي سادت وتسيدت تمثل بنموذج الدولة القومية المحتكرة والمتمذهبة والمستبدة، وهو نموذج ألغى استحقاق التنوع العرقي المذهبي الآيديولوجي المعقد الذي تزخر به أمم المنطقة. لقد اشتغل نموذج الدولة الشرق أوسطية على مفهوم (الدولة الصافية) متجاهلاً التنوع المجتمعي وضارباً عرض الحائط استحقاقات المواطنة التي تفترض بالدولة أمة سياسية يتساوى ويتكافىء أفرادها بالحقوق والواجبات دونما احتكار أو تمييز عرقي أو ديني او مذهبي أو سياسي،.. ففي الغالب كانت الدولة الشرق أوسطية دولة مبتعلة من قبل قومية بعينها أو طائفة بذاتها على حساب القوميات والطوائف والإثنيات، ففشلت في خلق أمة الدولة الوطنية. أيضاً، اشتغل نموذج الدولة الشرق أوسطية على أساس من مفاهيم الدولة الأبوية، البطرياكية، الثورية، متجاهلاً استحقاقات الديمقراطية التي توجب اقرار الحقوق المدنية والسياسية والتداول السلمي للسلطة دونما تجيير واحتكار واستبداد. واشتغل أيضاً مشروع الدولة على أساس من مبدأ استبعاد الآخر الوطني على وفق الأسس العنصرية والفئوية والمناطقية الضيقة مخالفاً بذلك استحقاقات التعددية.
   مفارقة الدولة الشرق أوسطية لثلاثي المواطنة-الديمقراطية-التعددية أنتج أمماً وطنية هشة متصدعة ناكصة في هويتها ولحمتها الوطنية، وما إن زالت قبضة الإستبداد حتى تفجرت تناقضات الأمم، هوياتها، ذاكرتها، حقوقها، خصوصياتها الملغاة،.. إنَّ مشهد الساحة الشرق أوسطية اليوم هو مشهد تعارض وتناطح وتحارب هويات قومية مذهبية سياسية متمترسة متخندقة حول ذواتها ومصالحها،.. وليس هناك من بنى مدنية مجتمعية سياسية صلبة قادرة على احتواء هذا التضاد،.. لقد حطمت الدولة التقليدية بنى الأمة والدولة الوطنية المدنية، والساحة اليوم تدفع ضرائب الإستبداد والإستعباد والإستبعاد الذي مارسته الأنظمة التي سادت الشرق الأوسط لعقود.    

عراقياً

   سبق العراق أمم الشرق الأوسط في تحولاته، سبقها في ربيعه عام 1991م بثورة عارمة أخمدها النظام بتواطىء خارجي راح ضحيتها ربع مليون عراقي، وسبقها أيضاً في 2003م عندما زال نموذج الدولة القومية المذهبية المستبدة،.. لذا فنموذجه يعد نموذجاً لنمط الدولة التقليدية ولمآلات هذه الدولة حال سقوطها.
  أقول: ما إن زالت الدولة العراقية التقليدية حتى انكشف عورات المجتمع والدولة، ما إن زالت حتى تفجرت التناقضات العرقية المذهبية الإثنية التي يتمحور صراعها حول الدولة المراد إنتاجها بعد زوال الدولة العراقية التقليدية.
   العراق هو أفضل نموذج شرق أوسطي لفشل مشروع الدولة الوطنية حتى انتحارها ونحرها في 2003م، لقد كانت انموذجاً أوفى للسلطة القومية المذهبية، وليس للدولة الوطنية المدنية،.. لقد كانت دولة السلطة التي ابتعلها الإستبداد ونحرتها مناهج التعريق والتمذهب والأدلجة،.. وما إن سقطت مسمى الدولة هذه في 2003م، حتى انكشف الواقع عن أمة دولة تأن من تصدعها وتفكك هوياتها وتعارض مصالح قواها الممثلة لمكوناتها المجتمعية.  

خطيئة العملية السياسية

   رغم ايجابيات التحول، إلاّ أنَّ الخطيئة الكبرى التي اقرتها العملية السياسية العراقية تمثلت بتجذير انقسام أمة الدولة، وهو ما لا يقود بالضرورة الى انتاج دولة وطنية متماسكة. تجذير الإنقسام المجتمعي السياسي تمثل بالإعتراف بالمكوّنات كوحدات رئيسة ورئسية لعملية إعادة بناء الدولة على أساس من الديمقراطية التوافقية التي تستهدف في محطاتها النهائية تأسيس نظام سياسي عرقطائفي تتقاسم فيه مكونات الدولة السلطات والثروات. هذه هي أم الخطايا التي حالت وتحول دون إعادة إنتاج أمة الدولة الوطنية.
   لقد حذرت قوى وشخصيات عديدة من مغبة اعتماد النظام التوافقي العرقطائفي كأساس لعملية إعادة بناء الدولة العراقية، لأنها رأت فيه انموذجاً غير قابل للحياة، وأنه سيشرعن الإنقسام المجتمعي ويهبه بعداً سياسياً يهدد وحدة الأمة والدولة،.. وها هي الدولة اليوم تأن من ضرائب شرعنة فكرة المكونات على حساب مبدأ الموطنة المدنية الديمقراطية،.. شرعنة عبرت عن نفسها باستفحال الهويات العرقية والمذهبية والإثنية، وجاهرت بوضوح بخصوصياتها الفرعية على حساب الهوية والخصوصية الوطنية العراقية،.. والعراق اليوم هو أقرب الى تكدس أمم متناشزة منه الى أمة وطنية حقيقية، إنه تكدس أمم شيعية سنية كردية عربية تركمانية كلدوآشورية..الخ تتمحور حول ذاتها وهوياتها ومصالحها على حساب وطنيتها ومواطنيتها ومصالحها المشتركة،.. وهذه هي أم خطايا الدولة العراقية التقليدية وخطايا العملية السياسية التوافقية.

تسونامي المنطقة

   تشهد المنطقة تسونامي ثوري وتغييري عمق ومتشظي، ورغم ضروراته إلاّ أنه يمتاز بغير الإنضباط والإنفعالية المشحونة بالعصبيات العرقية الطائفية الإثنية، وإذا ما أضفنا للغييير عناصر الإختراق والتوظيف والتوجيه والإستقطاب الذي تمارسه القوى المتنفذة دولياً وإقليمياً.. فإنَّ خطورته قد تعيد المنطقة قروناً الى الوراء فيما يتصل بالإستقرار والأمن والتعايش والتنمية الشرق أوسطية.
   يعاني العراق حالياً من ضعف بنيته الداخلية بفعل تشظيه العرقي الطائفي السياسي الذي غيب وحدة الأمة والدولة، فهناك تعددية سلطات وتضارب مصالح واختلاف أجندات وتباين ولاءات تنخر جسد الدولة،.. وضع كهذا يجعل العراق مفعولاً به متأثراً بعمق بكافة المتغيرات التي تجتاح المنطقة، ويجعله في منخفض سياسي حاد قد يؤثر على وحدته وبقائه.
   تقتضي اللحظة التاريخية القلقة والخطرة والإستثنائية هذه من قادة العملية السياسية وعياً وحساً وإرادة وطنية استثنائية تحيط بمخاطر اللحظة وتنبعث لحفظ كيان الأمة والدولة وسط تسونامي المتغيرات،.. المطلوب الإتفاق على رؤية وخارطة طريق واضحة وحاسمة لمشروع الدولة العراقية الجديدة بما ينهي أزماتها المزمنة،.. وإلاّ سيكتب التاريخ أية كارثة وطنية صنعتها هذه النخب لأمة العراق ولدولة العراق.
[email protected]