هل ما يجري في العراق من أزمات محض صدفة أم هو مخطط له مسبقاً وتسير الأمور فيه على وفق ذلك ؟.. لو عدنا الى الغزو الأميركي للعراق الذي لم يكن يهدف الى إسقاط النظام فيه على خلفية المزاعم التي سيقت تحضيراً للإحتلال، وإنما الأساس في ذلك تدمير بنية الدولة وشرذمتها كما هو حاصل اليوم ، وكانت الخطوة الأولى في ذلك حل الجيش وتفكيك مؤسسات الدولة، وتركها للفوضى التي تمهد لتقسيم العراق، وهذا ما لم يخفه المسؤولون الأميركيون، ولعل مشروع بايدن في هذا الشان ما زال عالقاً في الأذهان الذي اطلقه عام الفين وستة .
والهدف من وراء تقسيم العراق هو إعادة رسم المنطقة من جديد، عبر نشر “الفوضى الخلاقة” التي أعلنت عنها مستشارة الأمن القومي للبيت الأبيض آنذاك “كونداليزا رايس” ، وفقاً لما تراه واشنطن في تحقيق مصالحها فبدون تقسيم العراق لا يمكن إعادة رسم المنطقة من جديد . وكي يتحقق ذلك كان عليهم أن يصبغوا هذا المشروع بلون الطائفية بقيادة إيران لتشمل سوريا والعراق ولبنان حتى يصل دول الخليج العربي عبر اليمن، وهذا ما نشهده اليوم من قطف ثمار هذا المخطط .
ولعل الوضع في العراق أكثر تعقيداً، إذ صراع “النفوذ والمصالح” بقوة السلاح المزركش بثوب الطائفية يشكل واقع حال، أكل الأخضر قبل اليابس منذ ثلاثة عشر عاما ويزيد، وليس في الأفق المنظور ما يكبح جماح أمراء الحرب، هذه “الشراهة” في حمل السلاح والقتل دفعتهم ليمتد صراع النفوذ الى داخل المكونات، حيث تشب نار تحت رماد الأحزاب الحاكمة وهنا نعني التحالف “الوطني” لما يضم من مليشيات مسلحة، معظمها مرتبطة بإيران وكل فصيل منها يريد أن يكون له نفوذ أوسع ومصالح أكبر، ورب سائل يسأل كيف ذاك ؟.. الجواب هو أن عيون “المجلس الأعلى” بزعامة “عمار الحكيم” على منصب رئيس الحكومة، تجلى ذلك في أكثر من مناسبة ، حيث لم يخف انتقاداته لأدائه في الحكم ، بيد أن “حزب الدعوة” الحاكم يعي ذلك، فهو يستمد قوته من إيران أولاً، وبالمال العام المنهوب والمليشيات المسلحة ثانياً، وهذا من شأنه أن يفجّر صراعاً مسلحاً في أي وقت .
وهناك صراع أخر يجري على قدم وساق على منصب “رئاسة مجلس النواب” والذي على ما يبدو قد استوت طبخته بعد ما كشف عنه وزير الدفاع “خالد العبيدي” وهذا الصراع ربما أقل كلفة من سابقه، لأن هذا المكون مُشرذم أولاً ، ومجرد من السلاح ثانياً، لذا سيقتصر صراعه سياسياً وفق متطلبات محركه “التحالف الحاكم” .
الأزمات لم تنحصر في بغداد ، حيث شملت إقليم شمال العراق أيضا ، فهناك العديد من المشاكل، ومن بينها رئاسة الإقليم بعد التمديد للرئيس “مسعود البرزاني” ، الذي أعقبه انتقادات لاذعة من قبل الأحزاب المعارضة التي اعتبرته “انقلاباً على الديموقراطية”. ووسط هذه الأزمة يكرّر البرزاني دعوته الى إجراء استفتاء تقرير المصير ، وهو ما رأت في ذلك المعارضة هروباً للأمام لإلهاء الشارع الكردي عن القضية الرئيسية المتمثلة بـ”كومة” الأزمات ومنها رئاسة الإقليم، معتبرة الخطوة التي يدعو لها البرزاني قد تدفع بالعراق والمنطقة إلى مزيد من عدم الاستقرار والوقوع في نزاعات جديدة .
الملاحظ أن كل الأزمات التي تعصف بالعراق تجري بالتزامن مع ما يسمى الحرب على الإرهاب، التي لا يُعرف مداها ولا نتائجها، ويبدو أُريد لها أن تكون كذلك، فبعد مرور أكثر من عام على بدء تلك الحرب، من الواضح أن ما يجري ليس حرباً على “الإرهاب” وإنما تمويه ومخادعة، في سياق العمل لدفع المنطقة نحو مزيد من التأزيم الدموي وتأجيج الفتنة المذهبية والإثنية حتى، للوصول الى شرذمة الدول وتقسيم الكيانات بالحديد والنار انطلاقاً من العراق .
وربما ما يعزز هذا التحليل تأكيد مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي ايه)، جون برينان، على أن هناك احتمالات تشير لإمكانية تقسيم العراق وسوريا ، مضيفاً أن وجود داعش سيستمر فترة طويلة في المنطقة .
وسبق هذا تصريح للرئيس “باراك أوباما” قبل عام في أحد المؤتمرات بواشنطن: “إن الغارات الجوية التي يشنّها التحالف لا يمكن أن تشكّل الرد الوحيد على “الإرهاب”. فهذا يعني صراحة أن الحرب على “داعش” ليست واضحة ولا جاهزة، وهي مستمرة ليكون تقسيم العراق والمنطقة واقع حال باعتباره آخر علاح الكي وفق مخططهم، ولكن فوق بحورٍ من دماء العراقيين .