19 ديسمبر، 2024 12:24 ص

العراق وايران – عُقد التاريخ واشكالية الجوار / 2

العراق وايران – عُقد التاريخ واشكالية الجوار / 2

بدا من ظواهر الأمورعقب الثورة الإيرانية في شباط 1979 أنه ثمة فرصة لإقامة علاقات عراقية – ايرانية طيبة , وكانت هناك عوامل موضوعية تساعد على تعزيز ذلك الظن :
1- نشوة يقين بأن البلدين باتا يقفان في صف واحد ضد عدو مشترك هو اسرائيل , و سياستهما وطنية غير تابعة .
2- عمق الروابط الدينية بين الشعبين .
3- إقامة الإمام الخميني في أرض العراق لمدة خمسة عشر سنة أمضاها معززاً ومقدّراً ومحمياً من مخابرات الشاه .
4- تصريحات غير مسبوقة بمثاليتها للإمام الخميني قال فيها أن أذان الصحابي بلال الحبشي للصلاة سيكون هو المعتمد في ايران الجديدة , وأن الخليج العربي سيُسمى بالإسلامي كحلّ وسط يرضي العرب والايرانيين  .
ولكن الصورة لم تبق على لونها الوردي إذ اندفعت ايران عن سابق تصميم وبهدف الهروب من أزمة انتقالها من الثورة إلى الدولة , فشنّت حرباً مدمّرة استجاب لها العراق بتحريض من وليّ العهد السعودي فهد بن عبد العزيز ومن خلفه كل دول الخليج العربي , وأبادر إلى القول هنا أن حسابات السياسة في أية مرحلة ليست عقلانية باردة وإنما هي والقرارات الناجمة عنها يقوم بها بشر ينقلون إليها مشاعرهم الانسانية بما في ذلك الحب والكراهية والألفة والنفور , وليس من شك أن جزءاً من كارثة تلك الحرب يرجع إلى الكراهية المريرة التي كان يكنّها الإمام الخميني للرئيس صدام حسين شخصياً !    
  ولقد جرت في سياق العلاقات بين البلدين مياهاً كثيرة لكنها لم تكن أبداً صافية , فهي إما بلون الدم وبطعم العلقم , أو عكِرة في أفضل أحوالها , ثم ازدادت هذه المياه قتامة بتورط ايران في العراق خاصة عقب الغزو الأميركي , و قد وظفت في تقحّمها على شؤون العراق مرجعيات دينية لاتحمل ولاءً ولا انتماءً للعراق , ورموزاً طائفية طالبة للزعامة بلا استحقاق ولا مؤهلات , وتجار سياسة ومغامرين مشبوهين ولصوص دوليين وجماعات من القتلة , باختصار تمكنت ايران بدهائها السياسي المشهود له أن تغطس إلى قاع العراق وتستخرج أسوأ ما فيه وتسخّره في خدمتها وتسيّده على العراق وأهله ! ثم مضت ايران بدافع من طموحها التوسعي إلى أبعد لتنغمس في مستنقع الوطن العربي مستغلّة أحواله التي بلغت  حدوداً غير مقبولة وتنذر بشرور لا يعلم عواقبها إلا الله , إذ انكسر المشروع القومي وتاه وغُيبت الهوية الوطنية وجرى تلفيق بدائل لها دينية وطائفية , وما كان من المحرّمات صار مباحاً , واهتزت الثوابت واختلّت الأولويات , وتمت المجاهرة بالمسكوت عنه بعد أن اختفت دواعي الخوف أو الخجل , وتصدّر الاختلاف الثانوي الديني والطائفي والعرقي الاهتمامات  مُزيحاً التناقض الرئيس مع الولايات المتحدة واسرائيل إلى خلفية المشهد !                                                      
ومع ذلك كله فلا يجوز للقوى الوطنية العراقية أن تستجيب للمخطط الإيراني – الخليجي الوهابي فتسقط في فخاخ الطائفية والولاء الأعمى لموروث ديني لم يثبت مطلقاً تنزهه عن الغرض السياسي , ولا أن تتجاهل كون اسرائيل هي العدو الرئيس للأمة , ولا أن تتغاضى عن الأكراد الذين تواطؤا مع هذا العدو ليخترق قلب العراق و أمنه واقتصاده ؛ ومن الحقائق الثابتة أن الشرخ الطائفي في الوطن العربي وما تلاه من حروب هو تطبيق للاستراتيجية التي وضعتها اسرائيل منذ خمسينات القرن الماضي وراحت تعمل عليها بتصميم حتى بلغت مراحل متقدمة في نجاحها بمعونة حلفائها الطائفيين و العنصريين .
في تناول الموضوع الإيراني علينا أن نتذكر أن الحركة السياسية لأية دولة هي تعبير عن مصالح مادية تستهدف السياسة تحقيقها وتأمينها , وفي ظني أنه للسياسة الإيرانية في الاقليم العربي عدة أهداف :                                              
ـــــ الهيمنة على سياسة الطاقة في المنطقة لتتولى هي مساومة القوى الأوروبية والآسيوية الكبرى على تحديد سعرها وكمية إنتاجها من أجل أن تكون لها كلمة عليا في السياسة الدولية بما يخدم طموحها .                                         
ــــ الهيمنة على المواقع الاستراتيجية لتبقى في كل الظروف محتفظة بوزن استراتيجي غير مسبوق تقايضه بمكاسب سياسية واقتصادية مع الدول الكبرى , بحيث تبقى تلك المواقع حكراُ عليها لا تنتزعها منها قوة أخرى سواء داخل المنطقة أو خارجها , وهي تسيطر الآن على مضيق هرمز ومداخل شط العرب والخليج العربي وتتطلع إلى باب المندب .         
ــــ ألا تقوم في الإقليم قوة وطنية صلبة تقرر وتحكم من موقف مستقل وقادر , وبالأخص ألا تُحسب نواةً لوحدة عربية .  
ـــــ توفير الحماية للأصدقاء والحلفاء الذين يتعاونون مع السياسة الإيرانية و يخدمون مصالحها .                            
ــــ إن ايران تريد أن تفرض على العراق وعلى المنطقة العربية أوضاعاً قد تلائم مصالحها , لكنها قطعاً متناقضة مع مصالحنا , وهي تمارس مسؤولياتها الاقليمية بما يتعارض مع آمالنا بالاستقرار والتقدم .                                     
إذا سلّمنا بأن السياسة الدولية ليست مجتمعاً تسود فيه آداب اللياقة ومقتضيات المجاملة , وإنما هي ميدان صراع من أجل البقاء , والبقاء فيه للأقدر على صياغة سياسات تخدم مصالحه فإن من واجب القوى الوطنية العراقية التصدي للسياسة الايرانية وإحباط مقاصدها ثم إخضاعها لحقيقة أنه في العراق مصلحة واحدة هي مصلحة شعبه وفيه إرادة واحدة قادرة على تقرير سياسته هي إرادة هذا الشعب , دون أن يعني ذلك استبدال الخصومة مع ايران بالصراع المصيري مع اسرائيل كما تروّج أنظمة الخليج العربي ومن خلفها الولايات المتحدة الذين يمسكون بخيوط رفيعة يحركون بها مراهقي السياسة الجدد والمتأسلمين السياسييين ليشيعوا ثقافة وضع اسرائيل وايران على قدم المساوة وذلك في محاولة لتمويه طائفيتهم المستحدثة وتأكيداً لتبعية مستجدّة  للنظام السعودي وقد نسوا أنه رأس حربة الغرب في العدوان على العراق ثم احتلاله !   
 إن هدف الوطنية العراقية هو هزيمة السياسة الإيرانية وليس تدمير ايران , و هدفها هو إرغام ايران على أن تتعامل معنا وفق ما نريد وليس وفق ما تريد هي , فلا يجوزللعراق والعرب التورط في حرب تستهدف ايران ولا ينبغي أن نصل إلى هذه النقطة , فذلك ليس في صالحنا ولا هو بمقدورنا , ونحن لم نصل بعد إلى حيث نجد أن المنطقة لم تعد تحتمل وجودنا نحن الاثنين إما العراق والعرب وإما ايران , وأن واحداً لا بدّ أن يختفي لكي يبقى الآخر , فذلك ترف لانستطيع أن ندفع تكاليفه إلا فيما يتعلق فقط بصراعنا مع اسرائيل .                                                                                 
لقد تسبب الإحتلال الأميركي ومن قبله جفاف بحر السياسة العراقية طيلة أربعين سنة مضت , بفراغ سياسي كبير في العراق , وكان طبيعياً ومتوقعاً أن تتقدم ايران لمحاولة ملئه كدأبها مع العراق عبر التاريخ فتلك هي طبائع سياسة الدول أينما وجدت الفرصة وأحست في نفسها القدرة ؛ وإذا كان واقع العراق الحالي لا يمكنه من اتخاذ الموقف الملائم فيما يتعلق بمصالحه الحيوية مع دول الجوار عامة ومع ايران خاصة , فإن فسحة الأمل تبقى معقودة على قوى التغيير الوطنية العراقية الحية خاصة وأن ذاكرة العراقيين لم تزل تعي عزة ورفعة بلدهم عندما امتلك في زمن قريب قوة ردع من خلال سياسة خارجية صلبة , وقوات مسلحة مقتدرة في ظل نظام وطني – أياً كانت خطايا ذلك النظام – فإن أحداً من دول الجوار لم يجرؤ – برغم أوضاع العراق الحرجة آنذاك – على انتهاك حرمة حدوده الدولية أو تهديد مصالحه الحيوية في شطّ العرب , ولا على تهريب المخدرات والسلاح إليه , ولا إقامة ميليشيات ودكاكين أمنية على أرضه , ولا على تحويل مجرى الأنهر التي تروي أراضيه أو التعسف بإنشاء السدود عليها , فضلا عن تهديد أمن الاقليم العربي .