من الطبيعي جدا ان يدفع طرح تشكيل تحالفات جديدة على صعيد المنطقة، مثل الناتو العربي، او الناتو الشرق اوسطي، الى فتح ملفات قديمة وتقليب اوراقها، وتتبع مساراتها ومالاتها ونهايتها، من اجل اجراء مقارنات ومقاربات بين التحالفات السابقة ومشاريع التحالفات المطروحة، على ضوء الظروف والاوضاع السياسية والامنية والاقتصادية الدولية والاقليمية العامة، التي انبثقت منها او في ظلها التحالفات.
ولان البعض استبق عقد القمة المرتقبة في العاصمة السعودية الرياض، منتصف شهر تموز-يوليو الجاري، بمشاركة الولايات المتحدة الاميركية ودول مجلس التعاون الخليجي الست ومصر والاردن والعراق، ليطرح فكرة تشكيل تحالف شرق اوسطي على غرار حلف شمال الاطلسي(الناتو)، الذي تأسس قبل ثلثة وسبعين عاما(4 يسان-ابريل 1949)، لذا فأنه من المتوقع والطبيعي ان يحتدم النقاش والجدل حول جدوى واهمية وفائدة تشكيل تحالف من هذا القبيل، وما هي مهامه، ولمن سوف يكون موجها، وما هي طبيعة وهوية الدول التي يفترض ان تنخرط فيه؟، علما ان حلف الناتو، كان قد شكل من اغلب دول المنظومة الغربية بزعامة الولايات المتحدة الاميركية لمواجهة الاتحاد السوفياتي السابق وعموم المنظومة الاشتراكية الشيوعية، في اطار الحرب الباردة التي انطلقت بعد ان وضعت الحرب العالمية الثانية اوزارها في الثاني من ايلول-سبتمبر من عام 1945.
وعلى ضوء معادلات وتوازنات حقبة ما بعد الحرب العالمية الثاني، راحت تندلع الحرب والصراعات بالنيابة في مختلف بقاع العالم، وتتشكل الاحلاف العسكرية وغير العسكرية الاقليمية هنا وهناك، وكانت منطقة الشرق الاوسط، بسبب اهميتها الاقتصادية والامنية والجيوسياسة، احدى ابرز بؤر الصراع والتنافس والاحتراب بين القوى الدولية الكبرى، ولم يكن العراق بحكم موقعه وامكانياته وثرواته وواقعه السياسين بعيدا عن ذلك، ان لم يكن في قلب التفاعلات على طول الخط.
ولعل حلف بغداد المركزي او ما عرف بـ (السنتو CENTO) الذي تأسس عام 1955، وضم في عضويته كل من العراق وبريطانيا وتركيا وباكستان وايران، مثّل احد ابرز الامثلة والمصاديق على المساعي والجهود الدولية المحمومة لجّر العراق الى ميادين المحاور والاصطفافات الدولية، علما ان رئيس الوزراء العراقي حينذاك نوري السعيد، اخفق في اقناع عدد من الدول العربية، كمصر وسوريا، في الانضمام الى ذلك الحلف، لانهما كانا يدركان ان الخطر الرئيسي على الوطن العربي يأتي من اسرائيل وليس من الاتحاد السوفياتي، ولم يدم الحال طويلا، اذ انه بعد انقلاب 14 تموز-يوليو 1958 وسقوط النظام الملكي في العراق، انسحب الاخير من الحلف، وانتقل مقره من بغداد الى العاصمة التركية انقرة.
وفي الخامس والعشرين من ايار-مايو من عام 1981 تأسس مجلس التعاون الخليجي في العاصمة الاماراتية ابو ظبي، من الدول الخليجية الست(السعودية والكويت والبحرين وقطر والامارات وعمان)، في اطار المساعي والجهود والتحركات الدولية الغربية لمواجهة خطر تمدد الثورة الاسلامية الايرانية التي كانت قد نجحت بزعامة الامام الخميني في الاطاحة بنظام الشاه محمد رضا بهلوي في ربيع عام 1979.
وقد حاول العراق في ظل نظام حكم حزب البعث الانضمام للمجلس، الا ان اغلب اعضائه، رفضوا ذلك، رغم ان ذلك النظام مثل خط الصدّ المتقدم بين ايران ودول الخليج، من خلال حرب الثمانية اعوام (1980-1988)، التي اقدمت خلالها اغلب دول الخليج شتى انواع الدعم والاسناد السياسي والعسكري واللوجيستي والاعلامي للنظام العراقي من اجل الحاق الهزيمة بايران، وبالتالي اسقاط النظام الاسلامي فيها. وقد ارتبط الرفض الخليجي لانضمام العراق لمجلس التعاون، بجملة مخاوف وهواجس من هيمنة وسطوة نظام صدام المعروف الذي كان معروفا بنزعاته العدوانية عليه.
وبما ان نظام صدام ادرك في حينه طبيعة تفكير ومخاوف وهواجس الانظمة الحاكمة في دول الخليج-لاسيما السعودية والكويت-فأنه ما ان انتهت حرب الخليج الاولي صيف عام 1988، حتى راح يؤسس لتجمع او حلف اقليمي في مقابل مجلس التعاون الخليجي، وقد نجح بالفعل في اقناع كل من الاردن ومصر واليمن بالدخول مع العراق في حلف جديد اطلق عليه (مجلس التعاون العربي)، الذي ابصر النور في بغداد، في السادس عشر من شهر شباط-فبراير من عام 1989، الا انه بدا كما لو انه ولد ميتا، فلم يمر اكثر من عام ونصف العام حتى انهار وطويت صفحته، بعد انخراط مصر في التحالف الدولي لتحرير الكويت من قبضة نظام صدام، وقد وصف الرئيس المصري الراحل محمد حسني مبارك هذا المجلس بعد غزو الكويت بأنه “مجلس التامر العربي”!.
والملاحظ ان مجمل التحالفات او التجمعات والمجالس التي انضم اليها العراق او بادر الى تأسيسها، لم تخرج من دائرة استهداف الاخر والتامر والعدوان عليه، وربما هذا هو الذي جعل منه مستغرقا ومنهكا بحروب وصراعات داخلية وخارجية عبثية، اعادته عشرات السنين الى الوراء.
وبعد سقوط نظام صدام في ربيع عام 2003، شهدت المنطقة ومعها العالم الكثير من التحولات والمتغيرات، وجابهت مخاطر وتحديات جمّة، كان العراق مقحما فيها بقوة، وقد راحت مشاريع التطبيع مع اسرائيل، وجهود اعادة ترتيب اوراق المنطقة بما يضمن امن الاخيرة، ويحاصر ويحجّم ايران، تتحرك بوتيرة سريعة للغاية، لاسيما خلال الاعوام القلائل الماضية.
ومع ان العراق لم يبرم اي اتفاقيات او معاهدات تطبيعية مع اسرائيل، على عكس دول اخرى، مثل الامارات والبحرين وعمان والمغرب، وقبلها مصر والاردن، الا ان عيون تل ابيب وواشنطن كانت وما زالت شاخصة نحو بغداد، وكان العراق حاضرا في اي مشاريع تسوية، كما هو الحال بالنسبة لمشروع الشرق الاوسط الكبير، ومشروع صفقة القرن، وما سمي بأتفاقيات السلام الابراهيمي، والشام الجديد، والناتو العربي، ثم الناتو الشرق اوسطي. اذ ان هناك-كما قلنا في مقال سابق-قناعة راسخة لدى دوائر صناعة القرار في تل أبيب وواشنطن وعواصم غربية أخرى، وكذلك لدى مراكز البحث والتفكير الاستراتيجية، بأنّ العراق يمثل البوابة الأساسية والمدخل الرئيسي لكل مشاريع التطبيع وبرامجه وخطواته، ارتباطاً بموقعه وثرواته وتركيبته المجتمعية وارثه التاريخي، ولا سيما إذا عرفنا أن الوجه الآخر لأي مشروع يراد منه تقوية “إسرائيل” يتمثل بإضعاف إيران ومحاصرتها وعزلها- أو الإسلام السياسي الشيعي عموما- ومن يرتبط بها ويتحالف معها، إن لم يكن جرّه بعيدا عنها.
والملفت انه بعد بضعة اعوام من طرح مشروع الناتو العربي، وتحمس الولايات المتحدة له كثيرا في عهد الرئيس الاسبق باراك اوباما وكذلك في عهد خلفه دونالد ترامب، طرح البعض مصطلحا اخر هو الناتو الشرق اوسطي، كما جاء في حوار مفصل اجرته شبكة ( CNBC) الاميركية قبل ثلاثة اسابيع مع الملك الاردني عبد الله الثاني. ولعله عند التدقيق، لن نجد فارقا جوهريا بين فكرتي الناتو العربي والناتو الشرق الاوسطي، وذلك التغيير في المسمى ربما اريد منه استيعاب كيانات ودول من خارج المنظومة العربية، واسرائيل هي المعنية اكثر من اي طرف اخر، بقدر ما ان ايران هي المستهدفة اكثر من غيرها بشتى مشاريع التطبيع والمعاهدات والاتفاقيات والاحلاف.
واذا ذهبنا ابعد من ذلك، فيمكن الاتفاق ولو نسبيا مع ما يراه بعض الساسة واصحاب الرأي في الغرب والعالم العربي بأن “أحد أهداف فكرة ناتو شرق أوسطي هو أن يكون ذراعاً للحلف الأصلي في المنطقة لمواجهة التمدد الروسي وليس الإيراني فقط، خاصة وأن موسكو ترتبط بعلاقات شديدة التميز مع عدة دول عربية على رأسها الجزائر ومصر”. ويشير البعض، الى “ان دول أوروبا والولايات المتحدة لا تريد أن ترى وجودا للقوات الروسية في العراق وأماكن أخرى، لذلك سيمنع الناتو الشرق اوسطي ذلك من الحدوث، وسيضمن عدم تعدي موسكو على تلك المناطق سواء من خلال عرض الوجود العسكري أو الدخول في برامج التدريب”.
واذا اريد للعراق قبل اربعة عقود ان يكون كماشة النار في الصراع مع ايران، ولم يجني من وراء ذلك سوى الماسي والكوارث والويلات والتخلف والدمار، فيبدو انه يراد الان تكرار ذات السيناريو ولكن بأدوات ووسائل واساليب مختلفة، والا ماذا يمكن ان يجني العراق من تحالف اقليمي مشابه للناتو الغربي، تحالف، اطرافه المفترضة مختلفة ومتقاطعة ومتناقضة فيما بينها اكثر بكثير مماهي متفقة ومنسجمة ومتوافقة؟.
لن يكون مصير الناتو الشرق اوسطي، فيما لو كتب له الانبثاق والوجود، بأفضل حالا من حلف بغداد ومجلس التعاون العربي، وحتى مجلس التعاون الخليجي، الذي لم يصل بعد اربعين عاما من نشوءه الى منجز يعتد به سوى ادانة ايران والتحريض عليها بلا طائل.
ما يحتاجه العراق بعد سلسلة طويلة من السياسات الخاطئة والارتجالية والعدوانية والانفعالية، تجنب الاصطفافات والمحاور العبثية العقيمة من جانب، والمثيرة للمشاكل والازمات والزارعة للالغام من جانب اخر. وربما لن تكون هناك مشكلة كبيرة في حضوره ومشاركته بقمة الرياض المرتقبة، او في اي محفل او ملتقى اخر، اقليميا كان ام دوليا، بيد ان المشكلة والخطر الحقيقي يكمن في ما يمكن ان يترتب من التزامات عليه جراء الحضور والمشاركة، لاسيما وان مسارات الامور وطبيعة الاهداف، اما انها غير واضحة بالقدر الكافي، او انها لاتنسجم ولا تتوافق مع مصالحه الوطنية وضرورات ومقتضيات الامن الاقليمي.
———————–
*كاتب وصحافي عراقي