تكتب الشعوب تاريخها بالتضحيات، لتبقى رقم على خارطة الوجود الإنساني، وتشكل علامة يقف عندها من يبحث عن وفي التاريخ، لتنطلق منها أجيال تفاخر أجيال بان الحياة تصنع ولا تمنح، وهي ضحت لتصنع الحياة.
لا ينكر أحد على الشعب العراقي، وبالخصوص أغلبيته السكانية والكرد، السنين العجاف التي كان أراذل البشر، من يصدرون شهادة حسن السيرة والسلوك للأخيار، أو يحددون المادة القانونية للتهمة الموجهة لابن البلد، ممن حفظ وجوده وشرفه في أتعس وأقسى الظروف.
كانت تلك الحقبة بكل ما فيها تعبر عن اختبار حقيقي للرجال، وأشباههم، حيث رقص كثير على مسرح الرذيلة، التي يديره السلطان وأذنابه، منهم من كلف بواجب خارج البلد ليخترق جسد المعارضة، ومن بقي هنا يعرف الشعب العراقي، ما فعل هؤلاء، وكيف تمادوا في رذائلهم بحق العراق وشعبه.
بعد التغيير الذي حصل على يد أسياد البعث ومؤسسية، استبشر الشعب وعلى مضض وعلى سياق (شجا برك على المر…)، إلا من لم يقرا المشهد بصورة صحيحة، ويفهم الحدث كما هو، ودفع الشعب الضحايا من جديد، في مواجهة أجندة خبيثة يقودها المحتل وأذنابه في المنطقة، حتى وصل الآمر إلى تشكيل حكومة عراقية بإرادة شعبية من خلال الانتخابات، صححت فيها معادلة ظالمة حكمت البلد لعقود من الزمن.
لكن الحكومة الدائمة التي شكلت هي الأخرى بنفس الطريقة، انحرفت وتناست التضحيات، وبدأت تستخدم القوانين التي سنت، لغرض وضع الأمور في نصابها الصحيح، في المساومة والصفقات، حتى وصل الحال لتشكيل وزارة المصالحة الوطنية تعني بشؤون المجرمين، بالمقابل هناك مؤسسة فقط تعنى بشؤون الضحايا…! والنتيجة أعيد من أجرم وانتهك الحرمات، ليتولى أهم وأخطر المواقع في الدولة، ويدير الملفات التي تتولى الحفاظ على الأرواح، التي أزهقت على أيديهم بالأمس، والغاية والشعار المرفوع (المصالحة الوطنية).
ولم يسجل التاريخ أن الضحية تصالح وتكرم الجلاد، ممكن أن تعفوا، لكن لا يمكن أن تعيد جلادها إلى موقعه، إلا في العراق فالأمر انعكس بشكل كامل، لا يقره دين ولا خلق ولا فكر.
حتى الدول التي نتهمها بالإلحاد والزندقة، لم تعامل جلاديها ومجرميها بمثل ما عوملوا بالعراق، وألمانيا وتعاملها مع النازية، مثال عالمي على التعامل مع المجرمين، فكيف بنا ونحن نسمع ونقرا، (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِين)، السماء تخير الضحية بين الصبر أو الثأر، الجلاد في العراق فقط يكرم.
هذا يقبل تفسير واحد ولا يصمد أي تفسير غيره، وهو أن البعثيين وأجهزة النظام البائد أدمنوا الخدمة، وأجادوها، لا يمنعهم منها دين أو مبدأ أو خلق، لذا هم خير أدوات، بيد من يريد تشكيل ديكتاتورية وحكم انفرادي ومستبد.
وهذا يوضح للشعب حقيقة من يحكم اليوم، أن كان يستخدم العقل للتفكير، وقراءة المشهد، أما إذا ظل البعض يستخدم الإذن للتفكير، فلا نمني النفس بغد خالي من التسلط والانفراد، ويستغفلوا الشعب بشعارات المذهب، وسواها ممن لا يؤمن بها من سلط الجلاد على الضحايا من جديد…