18 ديسمبر، 2024 8:51 م

العراق والاحتلال الأجنبي.. قراءة في الحوار الاستراتيجي مع واشنطن

العراق والاحتلال الأجنبي.. قراءة في الحوار الاستراتيجي مع واشنطن

تاريخاً، يكاد يكون العراق أكثر البلدان تعرضاً للغزو والاحتلال الأجنبي ،خاصة من دول الجوار، والسبب يعود لسهولة الطبيعة التضاريسية التي لا تشكل عائقاً أمام تقدم أي قوة غازية ،يرافقها سخط اجتماعي على الأنظمة السياسية الحاكمة آنذاك ،التي جعلت مقاومة الشعب للجيوش الغازية ضعيفة ،بدءاً من احتلال المغول للعراق إبان الحكم العباسي الذي كان يتداعى في ظل سخط شعبي ضد هذا النظام، ومروراً باحتلال الدولة العثمانية للعراق ،الذي لم يواجه بمقاومة بسبب سخط المجتمع من الأنظمة الغازية المتعاقبة ،التي حكمت العراق وما خلفته من قمع للمواطنين في الدولة، وكذلك الأمر ينطبق على الاحتلال البريطاني أوائل القرن الماضي ،الذي لم يجابه بمقاومة بسبب حجم الكًراهية الذي خلفه العثمانيون بعد أربعة قرون من الاستبداد، باستثناء بعض المقاومة(حصار الكوت) العام ١٩١٦، وثورة العشرين العام ١٩٢٠ التي جاءت نتيجة زيادة الوعي المجتمعي متأثراً بمغذيات دينية وعشائرية، ما عداها لم تكن هناك أي مقاومة للاحتلال في جميع المراحل.
ويبدو أن عزوف العراقيين عن مقاوم القوات الاميركية التي دخلت العراق العام ٢٠٠٣ ،التي أسقطت النظام الصدامي الدكتاتوري يعكس تلك الحقيقية التاريخية، فالعراقيون ليسوا جبناء أو ضعفاء ،بل عرفوا بشجاعتهم ورفضهم للمحتل لكن سخطهم على النظام الصدامي ورغبتهم بسقوطه دفعهما الى عدم المقاومة، غير أن ذلك لم يمنع من ظهور حركة مقاومة شرسة ضد تواجد القوات الاميركية بدءاً من العام ٢٠٠٤ وحتى كتابة هذه الأسطر، لكن محددات هذه المقاومة اختلفت باختلاف التعاطي الإقليمي وتأثيره على تلك الحركة ،وكذلك بحسب التداعيات الدولية وتشدد الأزمات على مستوى المحاور خاصة في المنطقة المحيطة بالعراق.
فبعد توقيع الحكومة العراقية اتفاقية الاطار الستراتيجي مع الولايات المتحدة العام ٢٠٠٨ ،التي انسحبت بموجبها القوات الاميركية العام ٢٠١١ انخفض حجم المقاومة ضد الوجود الاميركي ،رافقه تطور كبير في الاتفاق النووي الإيراني الذي كان بحاجة الى السير بطريق معبد خالٍ من المشاكل والتعقيدات، ومن ثم عودة القوات الاميركية القتالية العام ٢٠١٤ بطلب من الحكومة العراقية مقدم الى مجلس الامن الدولي ،الذي تشكل بموجبه التحالف الدولي ضد داعش الارهابي، وأسهم التحالف الدولي الى حد كبير في مساعدة القوات الامنية حتى اعلان النصر باخراج عصابات داعش الارهابية العام ٢٠١٧.
ولكن القوات الاميركية ظلت موجودة في نحو ١٢ قاعدة عسكرية ،وهو ما كان محل رفض من عدد كبير من الفصائل العراقية المسلحة ،وتجلى هذا الرفض بقرار برلماني يلزم الحكومة العراقية على اخراج القوات الأجنبية من العراق على إثر استهداف القوات الاميركية لقائد فيلق القدس الجنرال قاسم سليماني ونائب رئيس هيأة الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس، ما دفع الحكومة الحالية الى إجراء حوار ستراتيجي جديد مع الجانب الاميركي لتحديد مصير قواته.
ولو عدنا لموضوع الوجود الاميركي في العراق ،فهل هذا الوجود يقتصر على عدد محدود من القوات ،التي لا تمتلك قدرة تأثير على القرار السياسي العراقي ،أم أن هذا الوجود يتربط بشركات عملاقة تعمل في مجال الطاقة (النفط، الغاز،الكهرباء) وكذلك في القطاع الصحي والزراعي وغيرها، وحتى يكون الوفد المفاوض العراقي أكثر دراية بفهم السياسة الاميركية الخارجية عليه أنْ يعي جيداً أنّ الولايات المتحدة لا تكترث للجانب الاستعماري بقدر اهتمامها بالجانب الاستثماري، أي تحقيق المنفعة الاقتصادية المؤثرة في وقع الخطاب السياسي وارتباطاته الدولية، فالولايات المتحدة موجودة في العديد من البلدان، لكن تأثيرها الاقتصادي هو الاساس وليس تأثيرها العسكري، أما وجود جيوشها وأساطيلها الحربية، فهي لحماية تلك الاستثمارات وضمان ديمومتها.
لذلك يجب على سياسة العراق الخارجية أن تسير تحت قيادة رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي وفق ما يحقق أكبر قدر من الاستثمارات الفعلية والحقيقية الناهضة باقتصاد العراق المتآكل، والتركيز على تنشيط الوجود الاميركي الاقتصادي وليس العسكري، وعدم الخضوع للضغط الاقليمي الدافع باتجاه القطيعة مع الولايات المتحدة ،،التي تضغط ليس على العراق فقط ،وإنما على المستثمر الاميركي وتخويفه من عمل في العراق لإفقاد الحوار مضمونه الاقتصادي وتحويله الى مناقشة الملف الامني والعسكري فقط.
إن الحوار الستراتيجي بين بغداد وواشنطن يمثل فرصة حقيقية لاعادة تشكيل العلاقة بين البلدين على اساس تحقيق المصلحة العراقية لا غير خاصة وأن الوضع الاقتصادي العراقي بحاجة الى شراكة قوية لتجاوز الأزمة المالية، وقد يستطيع الفريق العراقي المفاوض أن يستثمر الاتفاقية الصينية كورقة ضغط لتحقيق أكبر مصلحة اقتصادية عراقية، أما التركيز على القوات القتالية التي وجدت لمحاربة داعش فيجب أن لا يأخذ الأولوية في الحوار ،لأن تواجد القوات يمكن تنظيمها ،لكن الاستثمارات الاميركية الكبيرة من الصعب الحصول عليها في ظل هذا اللغط الدولي ،لاسيما مع انخفاض أسعار النفط وتفشي جائحة كورونا.
إن من حق العراق الدفاع عن سيادته ،لكن هل وجود قوات قتالية اميركية وفق اتفاق مسبق وبطلب من الحكومة العراقية يعد خطراً على السيادة أم الخرق التركي المستمر ،سواء بقصف القرى أو بدخول قوات عسكرية الى مدن عراقية هو من يعد خرقاً؟.
إن السيادة لا تتجزأ ،واعتقد ان القوة الاقتصادية للبلدان هي من تمنحها السيادة وتمكنها من مواجهة اي تهديد لامنها القومي وهو ما يجب ان يضعه رئيس الوزراء في اعتباره اذا ترأس الجولة الثانية للحوار الستراتيجي ،التي من المقرر ان تنطلق الشهر المقبل وهو قادر على ذلك كونه يمتلك معرفة كافية للمتطلبات السياسية والاقتصادية التي يحتاجها العراق بعيداً عن قيود الكتل السياسية والضغوطات الاقليمية.