إن الزلزال الذي حدث اثر الاحتلال الامريكي للعراق عام 2003م ما زال حتى هذه اللحظة يسهم في إعادة صياغة خارطة المنطقة العربية، وربما امتدت آثاره إلى المنطقة الإسلامية، فالعراق دولة محورية في المنطقة تمتلك مقومات البقاء، أخذت تشكيلاتها مسميات وعناوين مختلفة منذ أكثر من سبعة آلاف عام، تغيب وتحضر ولكنها ما اختفت، ولن تختفي إن شاء الله تعالى
إن البعث الذي تسلم الحكم في العراق بانقلاب 1963م، وأُقصي في العام نفسه، ليعود بانقلاب تموز 1968م، ويبقي في الحكم حتى العام 2003م، تعود بداياته إلى المفكر القومي السوري زكي الأرسوزي، الذي تعمقت نزعته القومية اثر اقتطاع لواء الاسكندرونة من سورية وضمه الى تركيا، فكانت الارهاصات الأولى للبعث الذي أقام نظريته على فكرة الدولة القومية الاوربية، على يد ميشل عفلق وصلاح الدين البيطار خريجي جامعة السوربون، المتحالفين مع أكرم الحوراني، فكان نتاج مسمى كل هذه التحولات والتحالفات، هو حزب البعث العربي الاشتراكي، الذي أحاط فكره القومي بهالة روحية جمعت بين العروبة والإسلام، مركزا على أعادة صياغة الإسلام بمعزل عن مصدره السماوي، وهذا ما اعترف به سامي الجندي بقوله: “اتُهمنا بالألحاد، وذلك صحيح، على الرغم من كل ما زعم البعثيون فيما بعد من مزاعم التسويغ، نؤمن بالشعور الديني، بصوفية الأديان ونزعتها الكلية الإنسانية، أمّا دين الآخرين فكنا ضده، وبموازاة صياغة الإسلام القومية هذه، كانت تشكيلة البعث الأولى في العراق بقيادة فؤاد الركابي، قد اضطلعت بمهمة أعادة صياغة العراق، فهو، أي البعث، كما أساء إلى الإسلام، عندما جرده من صفته الإلهية، أساء إلى العراق أيضا، عندما ألغى تنوعه، بل استعدى مكوناته على بعضها بأسلوب طائفي مقيت، فإن تاريخ العراقيين يزخر بالقلق المعرفي، وتنوع الرؤية، إذ عرفوا بأنهم أصحاب مدرسة أرأيت، إذا عرضت لأحدهم مسألة بصورة ما، قال: أرأيت لو كانت على هذه الصورة، ثم تتوالي أطروحات أرايت، بافتراضية كلامية متصاعدة، إلا أن البعث أراد أن يصوغ عراقا، لا يرى إلا ما يراه القائد الضرورة الطاغية المستبد، الذي قال للعراقيين، ما قاله فرعون للمصريين: ما أُريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد، فأحدث بهذه الممارسة تخريبا على صعيد الشخصية العراقية، المعروفة بتحررها الفكري، أساء لحاضر العراق وماضيه، هذا التخريب، الذي مورس منذ تسلم البعث للحكم، وبدا أكثر حدة بتسلم صدام الحكم عام 1979م، إلى سقوط نظامه اثر الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003م، قد أستمر بعد زوال حكم البعث، يرسم مسارات ويثبت ركائز، وما زال إلى يومنا هذا فاعلا على مستوى الواقع العراقي، لأن توقفه أو إبطال مفعوله، الذي لم يحدث حتى هذه اللحظة، مرهون بقراءة شفرته، وليس بكيل السباب والشتائم للبعث ورموزه، وهذا أسلوب يشيع الآن في الاعلام أو على منصات التواصل الاجتماعي، وما هو سوى سوى ندب حظ ولطم خد، علاوة على أنه لا يليق بالرجال، فإنه أصبح دعاية للبعث وليس عليه، خاصة اذا ما أُستحضر فساد بعض النخب السياسية التي حكمت بعد عام 2003م.
يبدو أن الغرب، الذي وصل البعثيون بقطاره إلى الحكم، باعتراف على صالح السعدي، عرّاب انقلاب شباط 1963، قد فكك الشفرة، وقرأ استراتيجية البعث، يوم كان يراقب، ويسهم في الوقت نفسه، في الصعود السريع لصدام، البعثي المغمور الذي لا يتقن سوى المهمات القذرة، من قتل واغتيال، واشتراك بمؤامرات ودسائس كانت تحاك في المواخير والملاهي الليلية، بيئة صدام الأولى، التي وظفها في إحكام قبضته على الحزب، من خلال الشقاوات وآخذي الخاوات، الذين قتل بهم خصومه، ثم أجهز عليهم الواحد تلو الاخر.
أن الغرب، استتبع قراءته، بإحاطة صدام بشبكة من المخبرين، مستفيدا من توجس خليجي من العراق، وحساسية إيرانية، فكانت سياسة العراق التي انتهجت أيام حكم صدام ترسم وسط مؤثرات غربية، غالبا ما يتعامل معها بغباء، مثل استدراجه إلى الكويت، الذي أدى إلى انهيار نظامه الذي كاد أن يسقط، إلّا أنه لحظة انكشافه أمام انتفاضة قوية، عمت العراق كله لم يعدم دهاء في مساومة الغرب، الذي كان يراقب الوضع في العراق، وإيران التي رفعت شعار تصدير الثورة، على أمل أن يكون العراق أول المستوردين، فوفر له الحماية المطلوبة.
إن البعث اليوم يفتح رسالة حفظت في ادراجه سنين طويله، تقترح التعاون مع الغرب، بالقيام بانقلاب محدود يعيد ترتيب السلطة في الحزب والدولة، وهي رسالة كانت قد أفادت الاطاحة بصدام، مع ابقاء البعث، الحزب الذي يلتقي مع الغرب بالعلمانية، حاكما، فالغرب ليس حريصا على الديمقراطية، بدليل ان له علاقة وثيقة باعتى الدكتاتوريات، ولكنه ذو مخاوف من الإسلام، لا يبددها سوى المنهج العلماني، ولا أعتقد أن أحدا من قيادة البعث كان يومها، حيث يهيمن صدام على المشهد، يستطيع أن ينبس ببنت شفة في هذا الخصوص، فالموت اسرع اليه، من النطق بشيء من مضمون هذه الرسالة، ولكن صدام قد مات، فلا خشية من فتح الرسالة الآن.
المشكلة أن الذين تسلموا السلطة بديمقراطية شكلية بعد سقوط صدام، قد واجهوا معضلتين، الأولى متعلقة بهم أنفسهم تتمحور حول انعدام خبرتهم في الحكم، مع التأكيد على أنهم كانوا ناجحين في المعارضة، والثانية متعلقة بالبعث خصمهم اللدود، الذي لم يقطع شعرة معاوية مع الغرب، فهو بديل محتمل عنهم، أي أن العراق بعد فشل الحكام الجدد، يعود إلى لحظة ما قبل الاحتلال، عندما كان صدام مستعدا لأن يقدم للغرب أي تنازل مطلوب، من أجل البقاء في السلطة، والغرب براغماتي تقوم سياسته على حساب المنفعة، التي وجدها بالأمس في اسقاط صدام فأسقطه، عندما يجدها اليوم في عودة البعث سيعيده، كما أن تراكم أخطاء الحكام الجدد يضعهم أمام خيارين، إما أن يقدموا للغرب أكثر مما وعدهم البعث بتقديمه، وإما أن يخلوا الساحة للبعث الذي يزحف نحو مواقع الحكم بقوة، إلّا أن ما هم فيه من وضع بائس لا يحسدون عليه، قد يدفعهم إلى خيار ثالث، يتقاسمون فيه السلطة مع البعث، هذا الخيار غير معلن، ولا يمكن لأي أحد منهم أن يجاهر به، ولكن المراقب يستطيع أن يكتشفه، فقد أُحيطت النخب الحاكمة بحواش بعثية كبيرة، قد تبدأ بسكرتير او سكرتيرة ولا تنتهي بكبار المستشارين، بل أن بعض الأحزاب قد اخترقت في أكثر من موقع ببعثيين معروفين.
إلّا أن هذا الخيار الثالث محكوم بالفشل المؤكد، فالبعثيون الذين استقرت في خريطتهم الجينية نزعة التفرد والطغيان الصدامي، يؤمنون بأن البعث قائد لا شريك له، وما زالت ماثلة في أذهان جيل الستينيات والسبعينيات، تجربة الشيوعيين الذين تحالفوا مع البعث في ما سمي بالجبهة الوطنية، فدفعوا ثمن ذلك التحالف إذلالا لا حدود له، فبقي بعضهم يمارس شيوعية فكرية، أي ميول ماركسية وليس تنظيما، وصار أخرون منظرين يمزجون بين اشتراكية عفلق واشتراكية ماركس، وتحول قسم ثالث إلى مخبرين، فالبعث لا يقنع بجزء من الكعكة، وانما يريد على الكعكة كلها، بل هو لا يسخى حتى بالقالب، وإذا ما رست الأمور على الخيار الثالث، يجب على الحكام الجدد الذين انستهم سكرة الحكم تجربتهم المريرة عندما كانوا في المعارضة، ففشلوا والبعث مقيد بقوانين الاجتثاث والمساءلة، أن يتأملوا في ما ستكون حالهم والبعث، لا سمح الله، طليق