ترتبط فعالية الستراتيجيات الأمنية والعسكرية في أي بلد ، بطبيعة النظام السياسي القائم ، وأيدلوجيته ، وطبيعة الأهداف الستراتيجية التي تحكم طبيعة توجهاته، وفيما اذا كانت بنية البلد موحدة ومتماسكة ، أم ضعيفة وهشة وتعاني الفرقة والانقسام ، كما تعتمد تلك الستراتيجيات على مدى قدرة النظام السياسي على مواجهة التحديات الأمنية والاقتصادية والعسكرية والإجتماعية المتحكمة بواقعه وتشكيلة شعبه.
لقد فقد العراق منذ عام 2003 وطيلة عشرين عاما من عمليته السياسية البائسة ، مجموعة من الستراتيجيات التي كانت تعمل لصالحه، إذ كانت طبيعة النظام السياسي قبل 2003 موحدة في الأهداف والتوجهات وعقيدة البلد موحدة ، والشعب متماسكا في بنيته ووحدته ومقومات عيشه ، ولديه قيادة قوية ومهابة ، ولا تسمح للآخرين بالتدخل بشؤون البلد ، وتعد أي تدخل خطا أحمر لايمكن قبوله، ولديها علاقات وطيدة بكثير من دول المنطقة والعالم، برغم وجود علاقات متدهورة مع بعضها ، وبخاصة إيران ، كما أن وضع العراق الاقتصادي والمالي ، لايعاني الانهيار والتدهور المتسارعين ، كما هو عليه الحال الآن، وحافظ على الحد الأدنى من معالم الدولة القوية المهابة المحترمة التي تخشاها الدول، صغيرها وكبيرها ، وتضع له ألف حساب.
أما في ظل وضع الإنقسام الطائفي والمذهبي للنظام السياسي الحالي، والصراعات التي تعصف بتياراته وحركاته السياسية المتصارعة، حيث لا رابط يجمع بينها، حتى داخل طوائفها، وعدم إعطاء الدور للقيادات العسكرية ألاصيلة وهيمنة الطارئين عليها من رتب الدمج والهبات التي تمنح بالمجان، لأناس لاصلة لهم بالعسكرية من قريب أو بعيد، يجعل من وضع ستراتيجيات أمنية وعسكرية هو أقرب الى المستحيلات، ونجد الأوضاع الأمنية في إضطراب مستمر، وليس بمقدوره أن يواجه تحديات مختلفة وأعباء كثيرة تحمل متناقضات المواجهة في داخلها، ولهذا تكون الخطط الأمنية والعسكرية مرتبكة وتعاني حالات تخبط وعشوائية، لكونها خططا تعتمد على مفهوم الهيمنة والتسلط وعدم تمثيلها لطموحات الشعب واهدافه، وتجد كل طائفة أو مذهب وله توجهاته المتصارعة، مع نفسه ومع الآخرين ، ممن يختلفون عنه في التوجهات والأهداف.
ويؤكد مخططو الستراتيجيات الأمنية أنه يتعذر على العراق ، لو بقي نظامه السياسي على هذه الشاكلة ، لخمسين عاما مقبلة ، فلن يكون بمقدوره أن يرسم معالم ستراتيجيات أمنية ناجحة وخططا عملية ، لمواجهة التحديات التي تعصف به ، وتبقى حالات الضعف والإرتباك والفوضى والفلتان والتمزق الأثني والوطني والقومي تعصف بتياراته، كونه نظاما هجينا، لن يكون بمقدور الشعب العراقي أن يتقبله ، وهو يعاني من الولاءات الخارجية التي تغلب على توجهاته، أما الوازع الوطني فهو في آخر قائمة الإهتمامات ، إن لم يكن مفقودا أصلا، وقد ضاعت هيبة البلد وفقد سمعته كبلد قادر على المحافظة على سيادته واستقلاله، وأي بلد يتحكم فيه الآخرون ، وهم من يملون عليه خططهم وأطماعهم ، سيبقى صريع الارادات التي تتحكم بمقدراته، في حين ليس بمقدور قياداته السياسية والأمنية والعسكرية ، أن يكون كلها كلمة الفصل في وضع الخطط والبرامج والاهداف التي تعيد للدولة هيبتها وكرامتها المفقودة، وهو ما يبقي العراق يرزح لأعوام طويلة إن لم يتم إيجاد نظام سياسي عراقي وطني موحد الارادات والتوجهات والأهداف ، وهو أمل يراود ملايين العراقيين الذين فقدوا أي أمل بأن يكون بلدهم قد وجد له مخرجا من أزماته التي تعصف به، وهو يسير من سيء الى أسوأ ، والبلد ينهار يوما بعد آخر، وتتلاشى آخر معالم دولته وتضمحل، ليكون الدور العصابات والجماعات الخارجة عن القانون هي من لها الغلبة، وهم من تفرض إرادتها على شعبها، ما يجعل من خروج العراق من وضعه المتردي والمنهار حلما يكاد يكون أقرب من المستحيلات لعقود قادمة.