لم يكتف المحتل باحتلال العراق واسقاط النظام وحل الجيش والشرطة والاجهزة الامنية وتدمير البنى التحية وقتل العلماء الخ، وانما اراد تدمير العراق دولة ومجتمعا. ومن اجل ذلك حرص هذا المحتل على تصفير ما تبقى من الدولة، لمنع اية محاولة لاعادة هيكلتها واقامة موسساتها وبناها التحتية بالقدر الذي يوفر للمواطنين حياة كريمة، او على الاقل توفير ابسط مقومات الحياة، كالكهرباء والماء والدواء، حالها حال العديد من الدول التي ترزح تحت الاحتلال. ومن اجل ذلك تعاون الامريكان مع عدد من الدول الاقليمية، وفي المقدمة منها ايران، العدو التاريخي للعراق، مقابل مكاسب سياسية واقتصادية. لينتهي الى اختيار مجموعة من العملاء والخونة، ليتحكموا في ادارته، من خلال صيغة مبتكرة سموها ب”العملية السياسية” واتخذوا من الحكومات المتعاقبة الة هدم وتخريب وصولا الى جعل العراق دولة فاشلة بامتياز.
دعونا نتابع هؤلاء الخونة والعملاء، ونرصد ادوارهم المخزية. فعلى سبيل المثال، قامت حكومة اياد علاوي المؤقتة، بدور جسر عبور لقوات الاحتلال للدخول الى المدن العراقية المقاومة، وهدمها على رؤوس ساكينها بالاسلحة كافة، بما فيها المحرمة دوليا، مثل مدينة الفلوجة. بينما تعهدت حكومة ابراهيم الجعفري باشعال نار الطائفية. وعقد نوري المالكي في ولايته الاولى، معاهدات الذل والعار مع المحتل الامريكي، وفي ولايته الثانية ادخل تنظيم داعش الارهابي الاجرامي ليحتل ثلث مساحة العراق. في حين اخذت حكومة حيدرالعبادي على عاتقها تدمير المدن التي احتلتها داعش، مثل الموصل والفلوجة والرمادي وصلاح الدين، تحت ذريعة طرد هذا التنظيم المصنع من قبل المخابرات الامريكية والمبارك من قبل ملالي طهران. اما حكومة عادل عبد المهدي فقد انتهى عهدها بقتل الثوار على يد اجهزته القمعية والمليشيات المسلحة والحرس الثوري الايراني. وبالتالي لا نستبعد اطلاقا ان يكمل الكاظمي هذه المسيرة المجللة بالخزي والعار، فهو احد تلاميذ جامعة الفساد التي تخرج منها هؤلاء الاشرار. وما خطابات الكاظمي عن الشرف والنزاهة وحب الوطن، الا نسخة طبق الاصل، من احاديث اسلافه الكاذبة. ولا تغير هذه الحقيقة الدامغة، القرارات التي اتخذها الكاظمي بتخفيض الرواتب، او تقليص بعض النفقات، أو استعادة بعض الاموال المسروقة. اذ من دون ذلك لا يمكن للكاظمي دفع رواتب الموظفين والعمال، الامر الذي يؤدي حتما الى اشتراك كل العراقيين من شماله الى جنوبه في الثورة دفعة واحدة، او في يوم واحد. ومع ذلك تراجع الكاظمي عن جميع هذه القرارات.
لا نحتاج الى جهد، او نظرة ثاقبة لمعرفة مدى نجاح هؤلاء الاشرار في اقامة دولة فاشلة بامتياز، الى درجة يصعب اصلاحها بوجودهم. فاذا نظرنا الى مواصفات الدولة الفاشلة سنجدها واضحة وجلية في العراق، بل ومطبقة بحذافيرها. فالدولة تكون فاشلة وفق المعايير العالمية، اذا عجزت عن بسط الأمن فى ربوع أراضيها، واخلت بمبدأ تكافؤ الفرص بين مواطنيها، وفضلت فئة على غيرها من المواطنين، والغت مبدأ المساواة بين الناس، وكثرت الشروخ والصدوع في نظامها القيمي والأخلاقي، وتعطلت فيها المسارات القانونية، وفسدت النخب الحاكمة، وتهدمت البنى التحتية وفقدت الخدمات، ويصعب، إن لم يكن مستحيلا، التخطيط لحياة المواطن تخطيطا بعيد المدى أو حتى متوسط المدى، بل وقصير المدى، وفي الدولة الفاشلة يشيع الكذب والنفاق شيوعا لا حد له ولا ضابط، وتصبح أجهزة الحماية من أعداء الداخل وأعداء الخارج كسيحة، وفي الدولة الفاشلة توأد الأفكار النافعة في مهدها، وتنظم عمليات ممنهجة لتغييب العقول لصالح شرذمة قليلة، وفي الدولة الفاشلة تختلط الأشياء اختلاطا عظيما، وتكون الغلبة والظهور لتوافه الأشياء والبشر، وفي الدولة الفاشلة عادة ما يصير الصواب خطأ إلا في القليل، والسير في الطريق المستقيم شبهة، وتفرض قرارات صارمة تجاه من يعارضها، وتلجأ لمصادرة الحريات بالسجن والترهيب والتعذيب والقتل لكل من يفضح سلوكها، ويشكل تهديدا لها. وفي الدولة الفاشلة تكون المؤسسات محطمة، لأن المسؤولين عن ادارتها يستولون على خزينتها، وبشكل قانوني، تجنبا للمساءلة وحفاظا على ما تبقى من سمعة وشرف افتراضيين، يتطلبهما ادعاء الدين والتدين لتمرير بضاعتهم الفاسدة. فهؤلاء على سبيل المثال يطرحون مشاريع كاذبة ويرصدون اموالا فلكية لشراء الات حديثة لا تصل لمعامل لا وجود لها الا على الورق .
ترى الا تنطبق هذه المواصفات على الدولة في العراق كاملة غير منقوصة؟ واذا كان الامر كذلك وهو كذلك فعلا، ترى هل بامكان اي مواطن عراقي الوثوق باي من هؤلاء الاشرار؟ او بالكاظمي الذي تاكد بانه تلميذ نجيب في مدرسة الفساد؟
لكن هذا ليس كل شيء، فهذه الدولة الفاشلة، التي حرص المحتل على اقامتها في العراق، لم تات برغبة من هذا الرئيس الامريكي او ذاك؟ وانما قامت استنادا الى نظرية الفوضى الخلاقة، التي صاغتها النخب الاكاديمية وصناع السياسة في الولايات المتحدة، وكبار العقول الاستراتيجية لتكون خلاقة بالنسبة لمصالح امريكا، ومدمرة بالنسبة للاوطان والشعوب. ولكي لا نطيل اكثر، فمن بين مفردات هذه الفوضى الخلاقة، تشجيع النزاعات الداخلية ودفع مكونات المجتمع للاقتتال فيما بينها، كأقوام وطوائف وكتابة دساتير ملغومة وسن قوانين ملتوية واقامة قواعد عسكرية وخلق الحروب وتقسيم الدول.وكل هذا حصل في العراق بعد الاحتلال، اليس كذلك؟
اما الارهاب والطائفية، فهما لحمة نظرية الفضوى الخلاقة وسداها. فاينما حل الإرهاب تستيقظ النزعات الطائفية، أو تزداد حدة واشتعالًا. لان تنظيمات الإرهاب لا تعرف معنى الحوار مع الاخر، ولا تؤمن به اصلا، لأنها تريد فرض منهجها ورؤيتها بالقوة والترهيب، رافضة كل فكر يخالف فكرها، أو رأي لا يتماشى مع هواها. بل ان الارهابيين استخدموا الطائفية كسلاح ضمن ترسانة أسلحتهم لضرب الاستقرار، وتقويض السلم الاجتماعي وتوسيع مشاعر الانقسام. وهذا ما يفسر وجود المحتل وراء ظهور القاعدة وبعدها الدولة الاسلامية ثم داعش المجرمة. فقد تمكنت هذه التنظيمات من تقديم خدمة جليلة لنظرية الفوضى الخلاقة، حيث اججت النعرات والمخاوف الطائفية، واستهداف الاقليات مثل المسيحيين والإيزيديين والآشوريين بطريقة ممنهجة. وكل هذا حصل في العراق بعد الاحتلال، اليس كذلك؟
ومع كل ذلك، فان المرتزقة والوصوليين الذين يعيشيون على فتات موائد الحكام، يتغاضون عن هذه الحقائق ويواصلون دعوتهم لاحترام الدولة والحكومة العراقية، ومنح الكاظمي الفرصة الكاملة للمضي في تحقيق “برنامجه الاصلاحي”، وهم بذلك يريدون تغطية الشمس بالغربال. بل ويذهبون ابعد من ذلك، حيث يعتبرون الثوار متطرفين والعراقيين متمردين على الحكام، وانهم لا يعرفون ماذا يريدون، او وصفهم بشعب متقلب المزاج ويعيش حالة من الازدواجية الخ. في مقابل ذلك يكيلون المديح للكاظمي ويعتبرونه الشخصية التي أجمعت عليها أكثر القوى السياسية، وانه يصلح لان يكون قائد المرحلة المقبلة والمنقذ المرتجى. اما ادباء وشعراء السلاطين فقد نظموا في الكاظمي مدائح شبيهة بالمدائح النبوية، حيث وصفوا الكاظمي بابن الشعب البار الذي جاء من وسطهم وعاش الامهم وشعر بماساتهم واقترب جدا من فهم مشاكلهم ووضع الحلول لانقاذهم من محنتهم ومعاناتهم، ولولا الخشية من ردود الفعل، لوصفوه بانه المهدي المنتظر الذي سيملآ ارض العراق عدلا وقسطا بعد ان ملاها الاخرون ظلما وجورا. في حين نسي هؤلاء المرتزقة، بان كل هذه القوى السياسية التي اجمعت على الكاظمي هي قوى فاسدة ومجموعة من القتلة والحرامية.
باختصار شديد جدا جدا، الدولة في العراق فاشلة بامتياز، واصلاحها بوجود هؤلاء ضرب من المستحيل، وان الكاظمي كذبة اخرى، فلابد والحالة هذه من دعم الثورة العراقية واسنادها والمشاركة فيها. فهي الطريق الوحيد لكنس هؤلاء الاشرار. خاصة وان هذه الثورة تستعد لاطلاق موجتها الثالثة التي بات موعدها قريبا.