23 ديسمبر، 2024 7:18 ص

العراق من حكم المثقفين الى حكم الباعة المتجولين

العراق من حكم المثقفين الى حكم الباعة المتجولين

أعتمد العراق منذُ نشأته الحديثة على الطبقة المثقفة و اصحاب الخبرة من ابنائه التي اوكلت اليهم مهام إدارة مرافق الدولة بغض النظر عن قومياتهم و دياناتهم و إتجاهاتهم السياسية و إنتمائاتهم الحزبية من أجل النهوض بالعراق ومواكبة التطور الحضاري ، ليأخذ العراق مكانتهُ الحقيقية بين الدول المتقدمة ، وكان هذا النهج الذي اتبعتهُ جميع حكومات العراق هو الركيزة الأساسية لبناء الدولة منذ تأسيس المملكة العراقية عام 1920م وحتى احتلاله عام 2003م .

فقد عملت الحكومات التي تعاقبت على حكم العراق على ضم خيرة أبنائه من اصحاب الخبرة و الاختصاص في إدارة شؤون الدولة الاقتصادية و العسكرية و الخدمية بغض النظر عن دورهم السابق في الحكومات التي انتهت ولاياتها بانقلاب عسكري او ما شابه ذلك ، ولم تُحمل هذه الشخصيات الاخطاء التي ارتكبها رؤوس الحكومة التي شاركوا فيها ، كونهم شخصيات مهنية مستقلة عن القرار السياسي لتلك الحكومات ، فنجد العديد من الوزراء و الشخصيات قد عملوا في حكومات و عهود سياسية مختلفة نظراً لحاجة البلد الى خبراتهم التي اكتسبوها من خلال الدراسة و العمل الميداني ، مثال على ذلك السيد (محمد حديد) والد المعمارية المشهورة (زها حديد) الذي عمل وزيراً للتموين في العهد الملكي عام 1946م والذي عُين لاحقاً وزيراً للمالية عام 1958م في حكومة عبدالكريم قاسم التي اطاحت بالملكية و أعلنت الجمهورية ، دون اقصائه او اتهامه بخيانة البلد كما حصل لوزراء العراق بعد فترة الاحتلال عام 2003م ، و نذكر ايضاً السيد (ناجي طالب) الذي عمل في عدة مناصب عسكرية في العهد الملكي ثم استوزر عدة مرات في حكومة عبدالكريم قاسم وبعد ذلك عُين وزيراً للخارجية في حكومة عبدالسلام عارف و رئيساً للوزراء في عهد عبد الرحمن عارف لاحقاً ، ومثال ذلك ايضاً السيد (عبدالجبار شنشل) القائد العسكري المخضرم الذي عمل في جميع الحكومات التي حكمت العراق منذ العهد الملكي و حتى احتلال العراق عام 2003م

مستفيدين من خبراته العسكرية بأعتباره ثروة وطنية لا يمكن التفريط بها ، دون ان يُتهم بالخيانة او الاقصاء من قِبل الحكومات التي تعاقبت على حكم العراق ، وغيرهم الكثير من الشخصيات التي خدمت البلد بكل تفاني و اخلاص ، و لكن لا يسع المجال لذكرهم في هذا المقال .

أما ما قامت به الحكومات التي اعقبت الاحتلال عام 2003م هو العمل على افراغ العراق من الكفائات الوطنية وممارسة الاقصاء و القتل و التهجير والسجن بحق جميع الخبرات العراقية التي صرفت عليها الدولة اموالاً طائلة في سبيل انشائها على مدى سنين طوال بعد ان ابتعثتهم للدراسة و التعلم في الجامعات العالمية لاكتساب الخبرة و المهارة في المجالات التي تخصصوا بها لخدمة بلدهم و تطويره والذين اثبتوا جدارتهم فيها ، فقامت تلك الحكومات بشن عمليات اعتقال و اغتيالات منظمة لجميع كوادر الدولة واستبدلتهم بخبرات الباعة المتجولين في اسواق سوريا و ايران وسوق مريدي لتعود نتائج تلك الخبرات التي حملها اصحاب (البسطات) بالفشل على الواقع العراقي في كافة المجالات دون ان يعترفوا باسباب فشلهم الذي ادى الى تراجع العراق حضارياً نحو مائة عام الى الوراء .

فجميع الحكومات العراقية التي حكمت قبل الاحتلال اجتهدت في الطريقة التي رأتها مناسبة في تطوير البلد و استمرار تقدمه الحضاري و اعتمدوا على خبراته الوطنية في ذلك ، إلا الحكومات التي اعقبت احتلال العراق فقد اجتهدوا قدر استطاعتهم في نهب و تخريب ثروات العراق الاقتصادية و العلمية و العسكرية و تدمير خبراته ، فقاموا باستبدال القائد العسكري المحنك بجندي هارب من الخدمة العسكرية يرتدي العمامة عوضاً عن البيرية و الطبيب البارع بمضمد فاشل في زرق الأبر و المهندس الذي يحمل شهادة عليا من جامعات اوربا ببائع (سبح) متجول ، ويفتخرون بتسمية حكوماتهم بالتكنوقراط !!

والأدهى من ذلك قيامهم بجلب مستشارين من دول لا تريد للعراق خيراً ليعينوهم في الوزارات العراقية وكأن العراق دولة ناشئة لا يمتلك عقول قادرة على ادارة شؤون وزاراته !! ، فأوكلت للمستشارين الايرانين الملف الامني في العراق بعد أن أودعوا القادة و الضباط الاكفاء في السجون الحكومية امثال الفريق (سلطان هاشم

احمد) وغيره من الكفاءات العسكرية و العلمية و الادارية التي لها باع طويل في المحافظة على أمن و استقرار العراق واستبدلتهم بخبرات قاسم سليماني الذي سبق له ان أنهزم في جميع المعارك ضد الجيش العراقي في الثمانينيات من القرن الماضي .

فكيف لنا أن نأمل خيراً من الاصلاحات التي نطالب بها و خبرات العراق و كفائاته العلمية نصفهم مشرد في الخارج يطارده شبح الاغتيالات و التصفيات السياسية و النصف الاخر قابع في السجون ينتظر الموت بحجة انهُ عمل مع نظام البعث !! .

هل اصبح كل من عمل لخدمة العراق في حقبة سياسية معينة خائناً !! في حين نرى الذي عمل لخدمة دول معادية لبلدهِ اصبح وطنياً شريفاً !!

من يريد الاصلاح عليه المطالبة و العمل على ازاحة الفاشلين و اعادة العقول العراقية الوطنية التي نهضت بالعراق و جعلته في مصاف الدول المتقدمة في الوقت الذي كانت فيه الدول المجاورة لنا لا تعرف سوى رعي الأبل و الاغنام ، فأين اصبحوا وأين نحن الان منهم !!