18 ديسمبر، 2024 6:00 م

العراق: من المقاومة الى الثورة

العراق: من المقاومة الى الثورة

لم يستقبل الشعب العراقي الجيش الأمريكي الغازي للعراق بالورود كما “صور” المتعاونين العراقيين الذين جاءوا خلف الدبابة الامريكية لإدارة بوش، بل ومن اللحظات الأولى للغزو ولمدة ثلاث أسابيع قاومت قطعات الجيش العراقي في البصرة القوات الامريكية ببسالة وشجاعة فاجأت المعتديين، ولم تختف المفاجأة حينما تقدموا صعودا الى العاصمة بغداد اذ واجهوا مقاومة قطعات عسكرية متمركزة في عدة مدن مثل الناصرية وكربلاء ، اما معركة المطار التي أبلى فيها الجيش العراقي في أبادة القوات الغازية التي نزلت لاحتلال مطار بغداد الدولي، فكانت الصدمة الكبيرة الأولى للجيش الأمريكي واحدى اكبر المواجهات التي حصلت في الغزو حتى ان قادة الجيش الأمريكي استنجدوا بقوات خاصة للمعركة التي لم يكونوا متهيأين لها. وامتزج في حي الاعظمية دم العراقي والسوري والتونسي في مقاومة بطولية ما تزال اخبارها تتردد في أحاديث العراقيين، لقد دافع شباب العرب مع اخوتهم عن العراق حتى الموت مسطرين أروع مشاهد للتلاحم والاخوة والوحدة والمصير المشترك. وفي اليوم التالي للغزو بدأت المقاومة الشعبية التي عرفت بأنها أسرع مقاومة في العالم وأكثرها ايلاما لمحتل، تفجرت عفويا دون أي مساعدة او عون عربي او دولي لتبدأ معها رحلة خسارة وانهيار أكبر قوة عسكرية في التاريخ امام مقاومة الشعب العراقي. بدأت عمليات مقاومة الغزو الموجعة والقاتلة في الفلوجة حيث لمع اسم احد ابطالها الشهيد نور الدين الزوبعي الذي عزم على الاستمرار بالقتال لإخراج الاحتلال، قام الزوبعي بنصب الكمائن للأرتال ونقاط تفتيش الجنود وتفخيخ العربات وارسالها ضد أماكن تواجد القوات الامريكية ، هو من فجر وقتل عددا كبيرا من الجنود والمراتب في تفجير دورية عسكرية وأسقط ببندقيته طائرة شينوك وعلى متنها عددا مهما من العسكريين بينهم رتبا كبيرة وقد جرح في هذه العملية وألقي القبض علية وادخل المستشفى تحت حراسة أمريكية مشددة ، ليفاجئ الحراس في اليوم التالي من تمكن المقاومين من اخراج الزوبعي من المستشفى وتهريبه رغم الإجراءات الأمنية الاحترازية ولم يعرفوا كيف تم ذلك سوى انه هرب من بين أيديهم دون ان يلاحظوا ذلك. خرج الزوبعي من المستشفى ليعود الى المقاومة بعملية نوعية أجبرت القوات الامريكية في المدينة على التفاوض مع المقاومة والانسحاب بالكامل من المدينة، اذ فجر الزوبعي ورفاقه مركز قيادة القوات الامريكية في المدينة والمتمركز في مركز شرطة الفلوجة وقتل كل من فيه. هذه العمليات وغيرها كثيرة بحسب الاحصائيات الامريكية التي سجلت منذ ذلك الحين حصول مائة عملية يوميا. وذلك ما دعا وكالات الانباء العالمية للهرولة وفتح مكاتب لها في المدينة المقاومة لتغطي بشكل أوسع أحداث العراق التي نقلتها قناة الجزيرة بتواصل بالبث المباشر وهو الامر الذي أزعج كثيرا البنتاغون الذي أستبق قصف مقر الجزيرة وقتل صحفيها طارق أيوب في احد فنادق بغداد ومن بعد قتل صحفي القناة الأولى الفرنسية وعدد اخر من الصحفيين الغربيين. دار اسم الفلوجة أرجاء المعمورة فلم يبقى بلدا لم يردد شعبه اسمها وعرفت مقاومة العراق بها وبعملياتها البطولية وملاحم مقاومتها لليانكي الأمريكي مكروه الصورة أصلا في العالم منذ حرب فيتنام وفظاعاتها وجرائمها التي تكررت بصور أبشع في سجن أبو غريب. لم يترك مقاومو العراق الابطال جرائم هذا السجن التي لم يعرف لها التاريخ مثيلا دون عقاب ولا مواجهة فقد حاصروا السجن مرات عديدة وابكوا من فيه من عسكريين نساء ورجال كانوا يتوسلون بسجنائهم كي لا يقتلوهم ولا يعذبوهم بنفس طرقهم اذا ما تم الاستيلاء على السجن وتحرير السجناء، وفي مقابلة لي مع احد سجناء أبو غريب في الفلوجة قال لي : قال لنا الجنود الامريكان نترجاكم ، سنعطيكم كل اسلحتنا وما نملك لكن لا تقتلوننا ! روى لي هذا السجين الشاب الذي قطعت ذراعه واحدى ساقيه بأنه كان مع أربعين معتقلا قتلوا جميعهم بعمليات إرهابية أمريكية داخل السجن بصاروخ وهم يؤدون صلاة الجمعة ،ويبدو ان هذه كانت واحدة من طرق الجيش الأمريكي لتصفية رجال العراق. في شهر تشرين من عام 2009 وفي محافظة ديالى التي تصفها احدى اشهر أغاني المقاومة بأن نصف الطك لديالى بمعنى ان نصف عمليات المقاومة كانت تدور فيها، حدثت اكبر عملية للمقاومة حسب جنرال امريكي شارك بها اذ صرح لصحيفة أمريكية بالقول اننا خضنا معركة تشبه معركة الانزال التي قامت بها الولايات المتحدة في مقاطعة النورماندي في فرنسا نهاية الحرب العالمية الثانية، وأستطرد خرج لنا المقاومون مثل الاشباح لا نعرف كيف ولا من أين واستغرقت العملية أربعة أيام استعملنا فيها الطيران وحشدنا لها 3500 عسكري. منذ بداية عمليات المقاومة هذه فهم جنرالات الجيش الغازي ان العراق فخ لقواتهم وهم الذين اعتقدوا ان مهمة السيطرة علية امر يسير، لذا أرسل مبعوثي الحزبيين الجمهوري والديمقراطي بيكر وهاملتون الى العراق ومكثا ثلاثة أشهر مع القادة العسكريين ليقدما بعدها تقرير سمي بتقرير بيكر هاملتون يطلبون فيه الانسحاب من العراق ويتضمن مقترح بايدن بتقسيم العراق صوت عليه 75 سيناتور من مجلس الشيوخ. وهنا لا بد من ذكر تصريح روبير غيتس وزير دفاع أوباما الجمهوري الذي وفي آخر يوم له في عمله حضر حفل تخرج نخبة من الضباط فخطب بهم قائل: في المستقبل لا تنصحوا أي رئيس امريكي بشن حرب مثل حرب العراق وأفغانستان! وبعد عام من وجوده ، هرب الحاكم المدني للعراق بول بريمر الذي كاد ان يقتل بإحدى عمليات المقاومة بعد ان اصدر قراراته سيئة الصيت التي نفذت من قبل مجلس الحكم الذي تم تشكيله لحكم العراق ومن عمليته السياسية الطائفية التي تستمر منذ ثمانية عشر عاما وتدار بشكل كامل من قبل ايران بالتنسيق مع السفير الأمريكي في بغداد.
ومثلما انطلقت المقاومة العراقية ضد الغزو الأمريكي بسرعة لم تتأخر الاحتجاجات ضد الاحتلال الإيراني، اذ اشتعلت التظاهرات منذ العام 2011 وانتقلت شرارتها الى باقي مدن الجنوب ومن مدن كربلاء والنجف هتفت الجماهير الغاضبة “باسم الدين باكونا الحرامية” لتسقط بهذا الهتاف قدسية الشخصيات والأحزاب الدينية المصنوعة في ايران التي تحكم وتتحكم وتنهب العراق. تحت الشعارات المطلبية للخدمات كانت وما تزال تمور إرادة تحرير العراق التي تبلورت احتجاجا بعد احتجاج وتظاهرة بعد تظاهرة حتى اندلعت ثورة تشرين العظيمة في عام 2019 التي هزت اسوار المنطقة الخضراء وارعبت إيران وامريكا. هتف شبابها “ايران برة برة بغداد تبقى حرة ” وأيضا “انعل أبو ايران لأبو أمريكا ” . ملحمة ثورة تشرين التي سطرت بدم الشباب والشابات، هي المقاومة الشعبية التي لم يتخلف عنها أي مكون عراقي، شاركت فيها جميع الاطياف والمكونات، منهم من نزل من كركوك ومن أربيل ومنهم من صعد الى بغداد من الجنوب او بالعكس، شبابا مسلمون ومسيحيون رماهم القناص الولائي والإيراني وقتل منهم أكثر من الف شاب وشابة وجرح ثلاثين الفا خلال بضعة أسابيع وغيب المئات في سجون عصابات المليشيات التابعة للخامئني. أجبرت الثورة رئيس الوزراء عادل عبد المهدي وحكومته على الاستقالة وطالبت بتنحي برلمان وأحزاب العملية السياسية التي اتى بها المحتل من اجل إقامة حكومة وطنية ودولة حقيقية ذات سيادة ودستور جديد تبني العراق على أسس التعددية الحزبية وتداول السلطة بشكل حقيقي وليس بالطائفية والمحاصصة وعمليات التزوير. ورغم القتل والقمع عادت التظاهرات وبشدة قبل إجراءات كورونا واحترام الشباب المتظاهر لإجراء التباعد وحتى بعدها وما زالت مستمرة تنظم صفوفها وتطور أفكارا لإنهاء عملية الاحتلال الأمريكي الإيراني بطريقة سلمية او غيرها اذا أقتضى امر تحرير العراق ذلك. لم يعد لثوار تشرين أي أوهام حول العملية السياسية التي دمرت العراق تدميرا كاملا وهي مستمرة. ورغم ان خيارهم السلمي كان امرا أساسيا في استمرارهم بالتظاهرات والاحتجاجات لكنهم اليوم يناقشون بدائل أخرى هم من سيقررها ولقد اثبتوا طوال اكثر من عام ونصف ومنذ بداية الثورة على انهم نعم الرجال ونعم الثوار وكفو لكل عمل ناجح. لقد أذهل العراقيون العالم بمقاومتهم الغزو الأمريكي ويدهشون اليوم العالم بثورتهم التي انطلقت ولن تتوقف رغم الهدوء النسبي المؤقت الذي تغلي تحته النفوس. هذه أصواتهم ما تزال تهتف اليوم في بغداد والبصرة وكربلاء وذي قار : لا ما نرجع خل يسمعون، ما يهمنا شراح تسوون، للعراق انطيه اثنين عيون، و “هذا وعد، هذا عهد ويه الخضراء النا طلابة” و ” وعد وعد الأحزاب ما تبقى بعد”.