18 ديسمبر، 2024 6:54 م

العراق مفلس وإن لم يعلن إفلاسه

العراق مفلس وإن لم يعلن إفلاسه

قال بعض الامراء لأبي الأسود الدؤلى: سمعت أنك شديد على حقك، وأنه لا يذهب لك شىء على أحد، فمِمَ ذلك؟ قال: من سوء ظنى بالناس، ومجانبتى أهل الافلاس”. (الأوائل/372).

وأنشد ابو هلال العسكري

فى البانياس إذا أوطئت ساحتها … خوف وحيف وإقلال وإفلاس وكيف يطمع فى أمن وفى دعة … من حل فى بلد نصف اسمه ياس (الصناعتين/430).

ربما لا يتبادر الى ذهن الشخص الذي ليس له تخصص في علم الإقتصاد خطورة ما يسمى بـ (الإفلاس السيادي) أو (إفلاس الدولة) بالمفهوم العامي، مع أن هذا المصطلح وارد في العلوم الإقتصادية، لكن الشائع في الإستعمال هو ان تعلن مؤسسة ما أو شركة او مصرف ما إفلاسه، أو بمستوى أدنى أن يعلن التاجر إفلاسه، فتسقط الديون على المؤسسة المفلسة أو التاجر كما تتساقط أوراق الخريف ويتحرر من قيود أزمته، لعدم توفر السيولة لتسديد الديون بعد تصفية جميع موجوداته. مثال ذلك إعلان شركة (جنرال موتزرو) إفلاسها، وبنك (الأخوان ليمان) وغيرها. ولا توجد قوانين دولية تتحكم عادة في موضوع الإفلاس، وإنما تشريعات وطنية تختلف من دولة لأخرى، وتعتبر الولايات المتحدة الأمريكية أسهل التشريعات في التعامل مع حالات الإفلاس عن طريق مساعدة المؤسسة في الإستمرار في عملها وجدولة ديونها لمدة محددة.

من أهم الأسباب التي تؤدي الى الإفلاس عدم توفر السيولة النقدية في الموسسة وعدم القدرة على تسديدها في الفترة المحددة. وتراكم الديون بحيث لا تتمكن من تسديدها فتزاد الفوائد عليها وتقف المؤسسة عاجزة في مواجهة الأزمة تماما. ومنها فشل خطة المؤسسة بالإعتماد على إفتراضات لم تتحقق بسبب ظروف داخلية أو خارجية، أو التمويه بتحقيق أرباح وهمية لا صحة لها، في الوقت الذي تتعرض فيه المؤسسة الى خسائر فادحة لا تعلن عنها لسبب ما، ربما لعدم إثارة خوف المستثمرين أو خشية الهبوط في قيمة الأسهم والسندات العائدة لها. وقد يكمن السبب في عمليات رشاوي وفساد داخل المؤسسة لم يكشف في حينه، كعمليات التزوير في حسابات الشركة، او وجود أرقام وهمية عن العوائد والخزين والسيولة.

أما إفلاس الدولة فهو أمر خطير جدا لذلك أطبق عليه مصطلح (الإفلاس السيادي) ويقصد به فشل الدولة في تسديد ديونها لأسباب داخلية أو خارجية بشكل تام أو جزئي، وذلك عندما يكون حجم الديون الخارجية والداخلية أكثر من الأصول الموجودة عندها، وقد تلجأ الحكومة الى إصدار اسهم وسندات لدعم ميزانيتها وبفوائد عالية لتشجيع الدول والأفراد على إقتنائها كما فعلت الحكومة العراقية، وقد تنجح هذه الخطة او تفشل في حالة إستمرار العجز المالي فتتفاقم بشكل أكثر، حيث تنأى الدول والأفراد عن شرائها بإعتبارها مغامرة نسبة الفشل فيها عالية. وأحيانا تقوم الحكومة بتاميم المؤسسات المهمة والبنوك، او الإستدانة الخارجية من دول أخرى مثل مذكرة تفاهم التي تضمنت قرضاً من بريطانيا للعراق بقيمة (10) مليار جنيه استرليني ولمدة 10 سنوات أو من من نادي باريس او صندوق النقد الدولي الذي غالبا ما يفرض إجراءات صارمة تنتقص من سيادة الدولة فيطالبها بالتقشف وتقليل الرواتب ورفع الضرائب وتقليل الخدمات، ووقف التعيينات وغيرها، وهذا سلاح ذو حدين. غالبا ما يؤدي هذا الإجراء الى إنخفاض حاد في قيمة العملة المحلية.

ربما على صعيد الدين المحلي والتأثير الداخلي يمكن زحزحة صخرة الإفلاس السيادي قليلا، ولكن على الصعيد الدولي من الصعب التنبؤ بردة فعل الدائنين دول كانت او بنوك او مؤسسات مالية أو

نقدية دولية مثل البنك الدولي للإعمار والإنشاء، وصندوق النقد الدولي. والخشية أن تلجأ الدولة الدائنة إلى تجميد أرصدة الدولة المدينة في أحسن حال، أو إعلان الحرب على الدولة المدينة في أسوأ حال، كما حدث عندما غزت بريطانيا مصر، والغزو الأمريكي لفنزويلا وهاييتي. ومن الدول التي أعلنت إفلاسها هي الارجنتين عام 2001 حيث بلغت ديونها (132) مليار دولار، وانخفضت عملتها المحلية بحوالي 65%. وكذلك روسيا بعد إنفراط عقد الإتحاد السوفيني السابق عام 1998 وانخفضت قيمة الروبل الى الدولار بنسبة 1ـ 9. وحاليا تمر اليونان بنفس المشكلة. أما على الصعيد العربي، فأهم الدول المهددة بالإفلاس هي مصر التي بلغت ديونها اكثر من (47) مليار دولار عام 2016، وسوريا التي بلغ العجز في ميزانيتها (800) مليار دولار، والعراق واليمن والسودان.

أهم أسباب الإفلاس السيادي

1. عدم القدرة كليا أو جزئيا على تسديد الديون الخارجية والداخلية مع فوائدها التراكمية، والفشل في جذب الإستثمارات الخارجية للبلد..

2. دخول الدولة في حروب داخلية أو خارجية تسبب لها خسائر مادية هائلة كما هو الحال في سوريا واليمن.

3. زيادة الإستيرادات عن الصادرات وإنحفاض الناتج القومي، وجمود القطاعين الصناعي والزراعي والإعتماد كليا على الصادرات.

4. إنهيار النظام الإقتصادي بسبب سوء التخطيط واعتماد خطط فاشلة، او تعيين رؤساء ومديرين لا علاقة لهم او لا فهم عندهم في إدارة السياستين المالية والنقدية، كما عليه الحال في العراق.

5. الفساد الحكومي، عندما تحكم البلاد شلة من الفاسدين تتصرف بالمال العام كأنه مال خاص.

6. الأزمات العاليمة سيما عندما يكون إقتصاد الدولة أحادي الجانب يعتمد على تصدير مادة واحدة كالنفط.

7. إرتفاع نسبة القروض الخارجية وفوائدها، حيث تجد بعض الدول ان اسهل علاج لإقتصادها المتردي هو الإستعلنة بالقروض الخارجية فقط.

8. التعرض الى كوارث طبيعية كالزلازل والأعاصير وحرائق الغابات والفياضات فتدمر مقدرات البلد الاقتصادية وتعرضة الى أزمة مالية حادة.

9. التعرض الى الغزو الأجنبي كما حصل في العراق.

10. الإنقلابات السياسية وتغيير نظام الحكم كما حصل عند انهيار الإتحاد السوفيتي.

11. التقلبات في الأسعار والهبوط الحاد في الأسواق الدولية للمواد الرئيسة التي تعتمد عليها الدولة في واردتها كالنفط والغاز وبقية السلع الاستراتيجية.

العراق دولة مفلسة

من خلال المؤشرات السابقة لا توجد دولة كالأرجنتين عانت من العجز المالي والديوان الخارجية بشكل خطير سوى العراق الجديد (ما بعد الغزو الامريكي ـ الايراني)، حيث يتصف إقتصاده بأحادي الجانب ويعتمد على تصدير النفط فقط. فقد أقر عضو اللجنة المالية البرلمانية (هيثم الجبوري) في 6/3/2017 بتجاوز الدين الداخلي والخارجي للعراق (120) مليار دولار، وذلك في ظل الفشل الحكومي الذريع في التعامل مع الملف الاقتصادي، فضلا عن الفساد الكبير الذي ينخر جميع مفاصل الحكومة الحالية، والذي إدى إلى حالة الإفلاس التي تمر بها البلاد”. وهذا إعتراف جدي بإفلاس الدولة.

منذ عام 2003 اندثرت الصناعة والزراعة في العراق ونشط القطاع التجاري فقط في جانب أحادي ايضا وهو الإستيراد. على الرغم من الزيادة الهائلة في اسعار النفط خلال السنوات العشر الأولى للغزو حيث بلغت وارادت العراق ما يزيد عن (800) مليار دولار، لكن هذه المليارات تبخرت بسبب الفساد الحكومي، والإنفاق العسكري، والصفقات الوهمية، وتهريب العملة الى الخارج من قبل

المسؤولين، ودعم الميليشيات الحكومية والعربية مثل حزب الله والحوثيين وحركات المعارضة في البحرين وبقية دول الخليج، وفك الحصار الإقتصادي عن إيران بمليارات الدولارات كهبات ومساعدات خلال الحصار الامريكي الأوربي المفروض عليها، والتخبط في الإنفاق الحكومي، وغسيل الأموال من قبل البنك المركزي العراقي عبر مزادات بيع العملة، فالاحتياطي النقدي للبنك في تناقص مستمر نتيجة قيامه ببيع كميات كبيرة من الدولار في مزاده اليومي، وأشارت النائبة ماجدة التميمي الى ان “مجموع ما تم بيعه في مزاد العملة عام 2015 بلغ (44) مليار دولار، فيما تبلغ ايرادات النفط بعد حسم مستحقات الشركات 38 مليار دولار، ما يعني عجزًا بأكثر من خمسة مليارات دولار”.

فضلا عن قيام الحكومة بسحب اموال من الاحتياطي لسد متطلباتها، وهي حالة فريدة من نوعها ان تعاني الميزانية من العجز ويقل إحتياط البنك من العملة الأجنبية بسبب سحب الحكومة منه، في الوقت الذي يستمر فيه البنك ببيع العملة بدلا من التوقف عن هذه العملة الفاسدة والبدء بشراء الدولار محليا بشكل هاديء لا يثير فزع البنوك وسوق الأسهم والسندات. فقد صرح عضو التحالف الكردستاني (ماجد شنكالي) في 7/3/2017 بسحب الحكومة لاكثر من (30) مليار دولار من احتياطي بيع النفط في البنك المركزي العراق خلال الفترة 2013 ـ 2016 وذلك لسد عجزها المالي ومحاولة تدارك الازمة الخانقة والناتجة عن السياسيات الاقتصادية الخاطئة لها والتي اودت باقتصاد العراق الى الهاوية. مضيفا” كان احتياطي البنك المركزي العراقي من النفط يبلغ (80) مليار دولار في عام 2013، أما اليوم يبلغ بحدود 50 مليار دولار، عازيا السبب الى سحب الحكومة في بغداد من الاحتياطي أكثر من (30) مليار دينار منذ 2013 لغاية 2016″. وقد إعترف محافظ البنك المركزي علي العلاق في 30/1/2017 أمام البرلمان العراقي بإنخفاض احتياطي البنك خلال السنوات الثلاث الماضية، بنحو (21) مليار دولار. وأن احتياطي البنك المركزي كان يبلغ في نهاية عام 2014 أكثر من 66 مليار دولار وانخفض في 2015 إلى نحو (53)) مليار دولار وفي 2016 وصل تقريبا الى (45) مليار دولار وقيمته الدفترية (48) مليار دولار”. علما انه سبق أن نوه مسؤول بارز في وزارة المالية العراقية، لـ (العربي الجديد) بأن” إدارة البنك المركزي ورئاسة مجلس الوزراء العراقي تحرص على عدم الكشف عن التقارير الرسمية بسبب الإنخفاض المقلق والكبير في احتياطيات العراق من العملة الصعبة”،

مع العلم ان هذه المعلومات كانت مخفية حتى عن البرلمان العراقي، مع ان البنك المركزي يرتبط بالبرلمان وليس بالحكومة. فقد صرحت اللجنة المالية النيابية في 13/1/2017، بإنه لا يحق للحكومة سحب الاحتياطي الأجنبي من البنك المركزي اطلاقاً. وأكدت عضو اللجنة ماجدة التميمي” أن البنك المركزي ارتباطه في مجلس النواب العراقي وليس الحكومة ولا يحق لها السحب من احتياطه، وأن البرلمان هو من يوافق على سحب الحكومة من عدمه من خلال تصويت نوابه”. بمعنى ان الحكومة لا تحترم البرلمان وتتصرف على هواها، والبرلمان مغفل وأحمق ولايفقة مسؤوليته كسلطة تشريعية لدرجة ان الحكومة تسحب من إحتياط البنك المركزي وهو لا يعرف!

لو إحتسبنا الديون البالغة (120) مليار دولار عن الموجود الحالي من الإحتياطي النقدي (45) مليار دولار، هذا يعني ان النتيجة ستكون عجز مضاعف بحوالي (75) مليار دولار. كما إننا نستشف من تصريح محافظ البنك المركزي واللجنة المالية في البرلمان انه في نهاية عام 2014 كان إحتياطي البنك المركزي (66) مليار دولار، وعام 2015 بلغ (53) مليار دولار، وعام 2016 بلغ (45) مليار دولار، اي خلال ثلاث سنوات فقد البنك (21) مليار دولار، وإذا إستمر الحال فهذا يعني انه خلال الست سنوات القادمة سيكون احتياطي البنك المركزي (3) مليار دولار. علمنا ان هذه النتيجة غير صحيحة بل الصورة أسوأ بكثير، بسبب ان اسعار النفط لا تزال منخفضة ولا توجد مؤشرات على تحسنها في الأمد القصير على أدنى تقدير، على إعتبار انها المصدر الوحيد للحصول على العملة

الصعبة، كما أن العراق الان يبيع نفطه (30 ـ 320) دولار للبرميل. وأن مسلسل القروض الخارجية ما زال يجري على قدم وساق والحكومة ستولي عاجلا أم آجلا وعلى الشعب المسكين والأجيال القادمة ان تعالج نفايات الحكومة الحالية. كما ان الحرب على داعش والإنفاق الحكومي على تسليح الميليشيات الرسمية تحت مظلة الحشد الشعبي مستمرة، ناهيك عن تسديد قيمة الأسلحة التي اشترتها الحكومة بصفقات آجلة، وكذلك دفع التعويضات للكويت، علاوة على عمليات إعمار المناطق المحررة، فمحافظة ديالى وصلاح الدين والأنبار والموصل بلغت نسبة الدمار فيها ما بين 60 ـ 80% وهي تحتاج الى مليارات لتعميرها. كما أن سوء التخطيط والفساد الكبير في البنك المركزي وبيع العملة، وغسيل الأموال وتهريب العملات الصعبة مستمرة بحكم فساد البرلمان والحكومة. بالإضافة الى دفع رواتب الموظفين والجيش المليوني والحشد الشعبي والإنفاق العسكري المهول.

خلاصة القضية ان العراق مفلس تماما سواء كنم أو أعلن إفلاسه، وعلى العراقيين التهيؤ لمرحلة الإفلاس القادم، وعليهم إفهام ابنائهم واحفادهم بأنهم سيتولون دفع ديون حكومات المالكي والحيدري رغم انوفهم.