19 ديسمبر، 2024 12:26 ص

الفرات النهر المبارك
ما زلنا نتحدث عن العراق وانه المحور في هذا العالم، سواء كان الحديث عن شعبه العريق، او عن ارضه المباركة، او عن الرعاية الإلهية الخاصة له، او عن الاهتمام الخاص من ائمة اهل البيت (عليهم السلام)، او عن المحاولات المستمرة من أعدائه للنيل منه، والحقيقة ان هناك كلام طويل عن هذا البلد لابد ان يظهر للجميع. موضوعنا اليوم عن النهر الخالد الذي لم يفارق اي من الحضارات التي تعاقبت على هذه الأرض، وكان المقوم الرئيس لها، في الزراعة والتجارة والنقل في كثير من الاحايين. وبشكل مختصر كان يعد باعث للحياة على هذه الأرض.
وعلى الرغم من تغير مساره عن مجراه الاصلي نتيجة الفيضانات الا انه بقي خالدا، وقد كان القدماء يتعاملون معه بطريقة تختلف عن تعامل اليوم، فإما انهم يخشونه لكثرة فيضانه، فيكون مدمرا، واما انهم يقدسونه لوفرة عطاياه وخيراته. على كلا الاحتمالين كان الناس يتعاملون مع هذا النهر بشكل خاص.
لنهر الفرات اثر واضح في ما تركته الحضارات لنا، وقد جعلوه واحد من اهم الشعارات الرمزية ويقصد به باعث الحياة، يمكن ملاحظته في عدد من الرسومات الاثرية. كما ان اثره اوضح في الديانات والمعتقدات سواء كانت سماوية او ارضية. فقد كان يعتقد البابليون ان جنة عدن في بابل ـــ يعنى به اقليم بابل ــ والسبب الرئيس هو وجود نهر الفرات. جاء في قاموس الكتاب المقدس :
(جاء اسم بابل من لفظ ” باب إيلو ” من اللغة الأكدية ومعناه ” باب الله ” ونفس اللفظ ترجمة الكلمة السومرية ” كادنجرا ” وتظهر أهمية بابل في العصور القديمة من ورود ذكرها في الكتاب المقدس أكثر من مائتي مرة . وهو اسم العاصمة العظيمة لمملكة بابل القديمة ” شنعار ” المذكورة في تك 10 : 10 و 14 : 1 والأسماء الأخرى التي أطلقت على المدينة كثيرة ، منها ” تندير ” مركز الحياة و ” أيريدوكي ” المدينة الطيبة أي الفردوس ، إذ كان البابليون يعتقدون أن جنة عدن في بقعتها و ” سو – انا ” اليد العالية ، ويظن أن المعنى ” ذات الأسوار العالية ” ).
ولم يقتصر هذا الاعتقاد على البابليين فقط فهناك بعض من الاديان الاخرى يعتقدون نفس هذا المعتقد، جاء في قاموس الكتاب المقدس:
(وهناك من يرى أن نهر عدن الذي تفرع إلى رؤوس ما هو إلا نهر الفرات – دجلة الذي يصب في شط العرب ( في الخليج الفارسي ) منقسما على نفسه إلى عدة فروع فجنة عدن بحسب رأيهم هي القسم الجنوبي من العراق ، حيث الخصب . ويعتقد أنه أقرب الأمكنة إلى الصواب لأن فيه الصفات التي وردت في الكتاب لعدن : شرق فلسطين ، فيه دجلة والفرات ، وكوش التي بقربها ، هي عيلام المعروفة قديما باسم كاشو ، كما أن سهل بابل كان معروفا منذ القدم باسم عدنو وموقع الحويلة هو جزء من جزيرة العرب الذي يجاور العراق إلى الجنوب الغربي منه) .
وقد ورد هذا الشرح لبعض ايات الكتاب المقدس، وهي:
(وغرس الرب الإله جنة في عدن شرقا . ووضع هناك آدم الذي جبله . 9 وأنبت الرب الإله من الأرض كل شجرة شهية للنظر وجيدة للأكل . وشجرة الحياة في وسط الجنة وشجرة معرفة الخير والشر . 10 وكان نهر يخرج من عدن ليسقي الجنة . ومن هناك ينقسم فيصير أربعة رؤوس . 11 اسم الواحد فيشون . وهو المحيط بجميع أرض الحويلة حيث الذهب . 12 وذهب تلك الأرض جيد . هناك المقل وحجر الجزع . 13 واسم النهر الثاني جيحون . وهو المحيط بجميع أرض كوش . 14 واسم النهر الثالث حداقل . وهو الجاري شرقي أشور . والنهر الرابع الفرات).
و حداقل : اسم عبري من أصل سومري وهو نهر دجلة.
وقد ورد نهر الفرات في فقرة مهمة من فقرات رؤيا يوحنا، وفيها دلالات مهمة، فيقول:
(ونفخ الملاك السادس في بوقه ، فسمعت صوتا قد خرج من القرون الأربعة لمذبح الذهب الذي في حضرة الله . 14 فقال للملاك السادس ، ذلك الذي يحمل البوق : ” أطلق الملائكة الأربعة المقيدين على النهر الكبير ، نهر الفرات ” . 15 فأطلق الملائكة الأربعة المتأهبون للساعة واليوم والشهر والسنة ، كي يقتلوا ثلث الناس ).
وقد وردت روايات مهمة عن اهل البيت (عليهم السلام) عن الفرات وما هي حقيقته، وفيها اشارة واضحة للجنة :
عن أبي عبد الله عليه السلام قال : ما إخال أحدا يحنك بماء الفرات إلا أحبنا أهل البيت ، وقال عليه السلام : ما سقى أهل الكوفة ماء الفرات إلا لأمر ما ، و قال : يصب فيه ميزابان من الجنة .
عن أبي عبد الله عليه السلام قال : قال : يدفق في الفرات كل يوم دفقات من الجنة .
عن الحسين بن سعيد رفعه قال : قال أمير المؤمنين عليه السلام : نهركم هذا يعني ماء الفرات يصب فيه ميزابان من ميازيب الجنة ، قال : فقال أبو عبد الله عليه السلام : لو كان بيننا وبينه أميال لأتيناه و نستسقي به.
عن علي بن الحسين رفعه قال : قال أبو عبد الله عليه السلام : كم بينكم وبين الفرات فأخبرته ، فقال : لو كنت عنده لأحببت أن آتيه طرفي النهار .
عن حكيم بن جبير قال : سمعت سيدنا علي بن الحسين عليهما السلام يقول : إن ملكا يهبط من السماء في كل ليلة معه ثلاثة مثاقيل مسكا من مسك الجنة فيطرحها في الفرات وما من نهر في شرق الأرض ولا غربها أعظم بركة منه.
عن عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر ، عن أبيه ، عن جده ، عن علي ( عليه السلام ) ، قال : الفرات سيد المياه في الدنيا والآخرة .
عن عبد الله بن سليمان ، قال : لما قدم أبو عبد الله ( عليه السلام ) الكوفة في زمن أبي العباس ، فجاء على دابته في ثياب سفره ، حتى وقف على جسر الكوفة ، ثم قال لغلامه : اسقني ، فأخذ كوز ملاح فغرف له به ، فأسقاه فشرب ، والماء يسيل من شدقيه وعلى لحيته وثيابه ، ثم استزاده فزاده ، فحمد الله ثم قال : نهر ماء ما أعظم بركته ، اما انه يسقط فيه كل يوم سبع قطرات من الجنة ، اما لو علم الناس ما فيه من البركة لضربوا الأخبية على حافتيه ، اما لولا ما يدخله من الخاطئين ما اغتمس فيه ذو عاهة الا برأ.
عن خالد بن جرير قال : قال أبو عبد الله : لو أني عندكم لاتيت الفرات كل يوم فاغتسلت ، وأكلت من رمان سورى في كل يوم رمانة.
وهناك المزيد من الروايات التي وردت بحق هذا النهر المبارك ، لم نأت على ذكرها توخيا للاختصار. ومن العجيب ان هذا النهر امتنع ان يكون اداة بيد الظلمة والطواغيت، فامتنع هذا النهر المبارك عن الوصول الى قبر  الإمام الحسين (عليه السلام) عندما اراد المتوكل العباسي اغراق القبر بالمياه. وبهذا فانه انبل من كثير  من الناس الذين هدمت معاولهم بيوت الله وقطعت سيوفهم رقاب الشرفاء.
ومن الجدير ان نذكر ارتباط اسم هذا النهر بوقوع احداث مستقبلية على مستوى الفهم الاسلامي، على غرار ما جاء  في رؤيا يوحنا وانه ذكر احداث مستقبلية كما مر علينا .
تذكر الروايات ان الفرات سيكشف عن كنوز لا من الذهب ولا من الفضة، وسوف تتقاتل عليه القوى المستكبرة في العالم وقتها.
وقد فهم البعض من هذه الروايات ان هذا الكنز هو النفط او بعض المعادن النادرة، كما انهم ابعدوا وجود هذا الكنز في العراق، وانما قالوا بأن المكان في سوريا بالقرب من الحدود التركية . الا ان المرجع الديني الشيخ اليعقوبي قد وجه فهم هذه الروايات بشكل رائع عندما وجه خطابا بعنوان: كونوا من الكنوز التي يكشف عنها الإمام (عليه السلام) (ويعني الإمام المهدي ). وقد جاء فيه:
(نذكر رواية من اخبار دولته المباركة مفادها انه في عصر الظهور يكشف الفرات عن كنوز ليست من الذهب ولا من الفضة، والفرات كناية عن العراق لأنه النهر الاشهر كما يعبر عن مصر ببلاد النيل ونحوه. وقد فسرت الكنوز بالأنصار الصالحين المخلصين للإمام (عليه السلام) لان لحن سياق الحديث ظاهر في ان المراد بالكنوز شيء معنوي وليس ماديا).
وبهذا فانه حدد المكان الصحيح، وصحح المعنى لهذه الروايات. وللأسف فان البعض يحاول جاهدا ان يبعد اي كرامة او منقبة للشعب العراقي، في حين انهم لو اطلعوا على الروايات التي مر ذكرها عن الفرات لعلموا ان العراق وحده المعروف بهذا النهر وانه البلد الوحيد الذي يطلق عليه بلد الفراتين او النهرين.
فهل نعلم عظمة هذا النهر؟ هل هناك نهر اهتم به اهل البيت (عليهم السلام) كاهتمامهم بهذا النهر؟ الا يحق لنا الافتخار بهذه الميزات التي خص بها الله تعالى اهل هذا البلد الطيبين منهم؟ وهل تعلم ان نهر الفرات يشرب منه اهل الكوفة واهل الرمادي ؟ …
والحمد لله رب العالمين … ونكمل في الحلقات القادمة ان شاء الله