15 نوفمبر، 2024 2:36 م
Search
Close this search box.

العراق محورا للعالم – 2 / الشروع في اغتيال الحقائق

العراق محورا للعالم – 2 / الشروع في اغتيال الحقائق

ان اول حقيقة تم اغتيالها بعد موت الرسول (ص)، هي خلافة الامة وهي اهم الحقائق واكثرها وضوحا، وعلى الرغم من ذلك تم اغتيالها بدم بارد. لا اريد الحديث عن هذا الاغتيال لأنه اشبع تماما، فهناك من الف الموسوعات الضخمة التي تستحق الثناء والاحترام، وكانت (هذه القضية) محوراللنقاشات ولا زالت في محافل كثيرة، حتى اصبحت من اولى واهم الاهداف التي يشخصها اي عدو يستهدف الاسلام والمسلمين.
لكن توجد حقائق اخرى لم يسلط عليها الضوء بما يكفي، منها اغتيال حقيقة القيادات الثانوية و الشعوب والاماكن التي تعتبر مكملة لحركة القيادة الحقيقية، وهي ايضا على درجة عالية من الاهمية؛ لما لها من تأثيرات على الاحداث الجارية في عصورنا. كانت لنا محاولة في اماطة اللثام عن حقائق تاريخية تسهم بإظهار مقامات اصحاب علي بن ابي طالب (ع)، تحت عنوان دراسات في سير اصحاب علي (ع) في جزئه الاول، وتوصلنا الى وجود طرق واساليب اتبعها المغرضون لتشويه وتزييف الحقائق، وجعلها منسجمة مع توجهاتهم البائسة.
في هذه الحلقة اريد ان اسلط الضوء على بعض ما قام به الامويون والعباسيون لاغتيال بلد احب اهل البيت (ع) بصدق، هو الكوفة.
انوه بان ما سنذكره لم نراع فيه التسلسل الزمني، نعم  ما قلناه في بداية الكلام من اغتيال الحقيقة الاولى قصدنا به التسلسل الزمني اما بعد ذلك فلا، لأنكمستجدون حقائق بعد ذلك متقدمة زمنيا على ما سنذكره الان، لذا ورد هذا التنويه.
ان الكوفة في زمن الخليفة الثاني تعد من اهم الاقاليم الاسلامية، وتأثيرها في التاريخ واضح بين، وقد كان لها دورا مميزا في كل الاحداث، ومن الملفت للنظر انها بحسب ما جاء في كتب التاريخ انها مصرت سنة 17 هـ ، لكن الحقيقة شيء اخر، سنذكرها في قابل الحلقات بعونه تعالى.
بدأت الممارسات المقيتة على هذا البلد مذ دخل في الاسلام ـــ بحسب الظاهر ـــ بمنع المحدثين من نقل الروايات اليه، فقد جاء في جامع البيان وعلمه لابن عبد البر وفتح الباري ومسند احمد وغيرهم :
(عن قرظة بن كعب قال خرجنا نريد العراق فمشى معنا عمر إلى صرار فتوضأ فغسل اثنتين ثم قال أتدرون لم مشيت معكم قالوا نعم نحن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مشيت معنا فقال إنكم تأتون أهل قرية لهم دوي بالقرآن كدوي النحل فلا تصدوهم بالأحاديث فتشغلوهم جودوا القرآن وأقلوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم امضوا وأنا شريككم فلما قدم قرظة قالوا حدثنا قال نهانا عمر بن الخطاب).
ما هو سبب كل هذا الاهتمام من الخليفة الثاني واصراره على عدم ذكر الروايات؟ وكيف علم ان الناس ستسأل عن الروايات؟ وهل المقصود كل الروايات؟ اما ان هناك سنخ من الروايات التي اراد منعهم من ذكرها فمنعهم من الكل؟ سنناقش تفصيل القضية في قابل الايام ان شاء الله.
هناك اكثر من طريقة استخدمت لتشويه الحقائق وتغييرها، منها:
اولا: القتل والتشريد وقطع الارزاق.
 استخدم معاوية مع اهل الكوفة اساليب عدة، منها ، قطع الارزاق والتشريد والتهجير وكل وسائل التعذيب، فأوعز معاوية إلى جميع عماله بهدم دور الشيعة ، فقاموا بنقضها وتركوا شيعة آل البيت ( ع ) بلا مأوى يأوون إليه ، ولم يكن هناك اي مبرر لهذه الاجراءات القاسية سوى تحويل الناس عن عترة رسول الله ( ص ). ومن الماسي الكئيبة التي عانتها الشيعة في أيام معاوية أنه كتب إلى جميع عماله نسخة واحدة جاء فيها ” انظروا إلى من قامت عليه البينة انه يحب عليا وأهل بيته فامحوه من الديوان وأسقطوا عطاءه ورزقه ”  وبادر عماله في الفحص في سجلاتهم فمن وجدوه محبا لآل البيت ( ع ) محوا اسمه وأسقطوا عطاءه .
اي شعب ومجتمع يحتمل كل هذه القسوة؟ اي شعب جرى عليه ما جرى على اهل الكوفة؟ وبعد كل هذه الممارسات اللانسانية يبقى محبا لاهل البيت (ع)، ولم يرضخ للطواغيت. مع كل هذا لا يلام القاتل الحقيقي وانما يلام الشعب الذي انهكته الجراح والالام والمصائب عليه تترى. ومن الغريب توجيه اصابع الاتهام اليه وجعله المجرم، وتناس المجتمع ان القاتل الحقيقي شخص اخر، وما افتراءات معاوية على الشعب العراقي ونعته بصفات ذميمة الا طريق للخلاص من ارتكابه اعظم جريمة والصاقها بالشعب العراقي.
وقد دافع الإمام الحسين (ع) عن شيعته في الكوفة وثبت هذا المعنى تاريخيا، بكتاب ارسله لمعاوية:
     (ألست القاتل حجر بن عدي أخا كندة وأصحابه المصلين العابدين الذين كانوا ينكرون الظلم ، ويستعظمون البدع ، ويأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر ، ولا يخافون في الله لومة لائم ، ثم قتلتهم ظلما وعدوانا ، من بعد ما أعطيتهم الايمان المغلظة والمواثيق المؤكدة ، جراءة على الله واستخفافا بعهده . أو لست قاتل عمرو بن الحمق الخزاعي صاحب رسول الله ( ص ) العبد الصالح الذي أبلته العبادة فنحل جسمه واصفر لونه ، فقتلته بعد ما أمنته وأعطيته ما لو فهمته العصم لنزلت من رؤوس الجبال . أو لست بمدعي زياد بن سمية المولود على فراش عبيد ثقيف ، فزعمت أنه ابن أبيك ، وقد قال رسول الله ( ص ) : الولد للفراش وللعاهر الحجر فتركت سنة رسول الله ( ص ) تعمدا وتبعت بغير هدى من الله ثم سلطته على أهل الاسلام يقتلهم ويقطع أيديهم وأرجلهم ، ويسمل أعينهم ، ويصلبهم على جذوع النخل ، كأنك لست من هذه الأمة وليسوا منك . أو لست قاتل الحضرمي الذي كتب فيه إليك زياد أنه على دين علي كرم الله وجهه فكتب إليه أن اقتل كل من كان على دين علي ، فقتلهم ، ومثل بهم بأمرك ، ودين علي هو دين ابن عمه ( ص ) الذي أجلسك مجلسك الذي أنت فيه ، ولولا ذلك لكان شرفك وشرف آبائك تجشم الرحلتين رجلة الشتاء والصيف ).
ثانيا:التضليل الاعلامي او تسقيط اهل الكوفة اعلاميا.
بعد ان وصلت الخلافة لعلي (ع) تحرك من في قلوبهم مرض ليثيروا الناس ضده (ع) فوقعت معركة الجمل وبعدها معركة صفين وبعدها معركة النهروان. في كل هذه الحروب كان جيشه من اهل العراق، حتى ان معاوية وعمرو بن العاص كانا يطلقان عليه جيش العراق. بعد ما رآى معاوية ان الكوفة الوحيدة التي ظلت تحت تصرف علي (ع) اتخذ اسلوب الحرب الاعلامية لتهديم هذا الحصن المنيع. فأطلق هو وعمرو بن العاص الكلمة التي اشتهرت بشكل عجيب على اهل العراق وبعدها نسبت لعلي (ع) ( اهل العراق اهل الشقاق والنفاق). وقد ركز على هذه المقولة كل من كان يعادي اهل البيت (ع)، منهم الحجاج بن يوسف، وقد استخدمها بشكل مفرط، وفيما يلي بعض نصوص خطبه التي نسبها البعض لعلي بن ابي طالب (ع):
يا أهل العراق ، يا أهل الشقاق والنفاق ، ومساوئ الأخلاق ! أما والله لألحونكم لحو العصا ، ولأعصبنكم عصب السلم ، ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل ، إني أسمع لكم تكبيرا ليس بالتكبير الذي يراد به الترغيب ، ولكنه تكبير الترهيب . ألا إنها عجاجة تحتها قصف ، يا بنى اللكيعة ، وعبيد العصا ، وأبناء الإماء !
ومما خطب به في ذم أهل العراق بعد وقعة دير الجماجم . يا أهل العراق ، يا أهل الشقاق والنفاق ، إن الشيطان استبطنكم ، فخالط اللحم والدم والعصب ، والمسامع والأطراف والأعضاء والشغاف ، ثم أفضى إلى الامخاخ والاصماخ ، ثم ارتفع فعشش ، ثم باض ففرخ ، فحشاكم نفاقا وشقاقا ، وملأكم غدرا وخلافا ، اتخذتموه دليلا تتبعونه ، وقائدا تطيعونه ، ومؤامرا تستشيرونه ، فكيف تنفعكم تجربة ، أو تعظكم واقعة ، أو يحجزكم إسلام ، أو يعصمكم ميثاق ! ألستم أصحابي بالأهواز ، حيث رمتم المكر ، وسعيتم بالغدر ، وظننتم أن الله يخذل دينه وخلافته ، وأنا أرميكم بطرفي ، وأنتم تتسللون لواذا ، وتنهزمون سراعا ! ثم يوم الزاوية ! وما يوم الزاوية ! بها كان فشلكم وكسلكم وتخاذلكم وتنازعكم ، وبراءة الله منكم ، ونكول وليكم عنكم ، إذ وليتم كالإبل الشوارد إلى أوطانها ، النوازع إلى أعطانها ، لا يسأل المرء عن أخيه ، ولا يلوي الأب على بنيه ، لما عضكم السلاح ، وقصمتكم الرماح . ثم يوم دير الجماجم ، وما يوم دير الجماجم ! بها كانت المعارك والملاحم ، بضرب يزيل الهام عن مقيله ، ويذهل الخليل عن خليله .
يا أهل العراق ، يا أهل الشقاق والنفاق ! الكفرات بعد الفجرات ، والغدرات بعد الخترات ، والنزوة بعد النزوات ! إن بعثتكم إلى ثغوركم غللتم وخنتم ، وإن أمنتم أرجفتم ، وإن خفتم نافقتم . لا تذكرون حسنة ، ولا تشكرون نعمة . هل استخفكم ناكث ، أو استغواكم غاو ، أو استفزكم عاص ، أو استنصركم ظالم ، أو استعضدكم خالع ، إلا اتبعتموه وآويتموه ، ونصرتموه وزكيتموه ! يا أهل العراق ، هل شغب شاغب ، أو نعب ناعب ، أو زفر كاذب، إلا كنتم أشياعه وأتباعه ، وحماته وأنصاره ! يا أهل العراق ، ألم تزجركم المواعظ ! ألم تنبهكم الوقائع ! ألم تردعكم الحوادث ! ثم التفت إلى أهل الشام وهم حول المنبر ، فقال : يا أهل الشام ، إنما أنا لكم كالظليم الرامح عن فراخه ، ينفى عنها القذر ويباعد عنها الحجر ، ويكنها من المطر ، ويحميها من الضباب ، ويحرسها من الذئاب ! يا أهل الشام ، أنتم الجنة والرداء ، وأنتم العدة والحذاء . ثم نزل .
وفي احدى خطبه يصرح بالسبب الرئيس لاتخاذه هذه المنهجية من التهجم على اهل العراق، فيقول:
(لم يصلحوا على عثمان فلقى منهم الامرين وكانوا أول الناس فتق هذا الفتق العظيم ونقضوا عرى الاسلام عروة عروة وأنغلوا البلدان والله إني لاتقرب إلى الله بكل ما أفعل بهم لما أعرف من رأيهم ومذاهبهم ثم وليهم أمير المؤمنين معاوية فدامجهم فلم يصلحوا عليه ووليهم رجل الناس جلدا فبسط عليهم السيف وأخافهم فاستقاموا له أحبوا أو كرهوا).
وللاسف فان بعض علماء الشيعة ينقلون اجزاء من خطب الحجاج وينسبونها لعلي بن ابي طالب (ع)، نعم لم يرتق اهل الكوفة الى مستوى الطموح، لكن كانوا هم افضل الموجود، نعم تألم الإمام علي (ع) منهم، لكن لا بد من اخذ بعض الامور بنظر الاعتبار، منها، فتحت عليهم اكثر من جبهة، الناكثين والمارقين والقاسطين، والاموال التي كانت تحت تصرف معاوية، ودعم بعض الدول الغربية الكبرى له. كلها اسهمت بدرجة كبيرة في اضعاف اهل الكوفة وتراخيهم عن اداء الواجب بالشكل المطلوب. لكن يجب ان يعطى كل ذي حق حقه، فهذه الصفات التي الصقت باهل الكوفة صدرت من افواه من يعاديهم ولم يتمكن من السيطرة عليهم الا باتباع اساليب الطواغيت والجبابرة. والسؤال المهم، كثيرة هي الصفات الحميدة والمواقف النبيلة التي صدرت من هذا الشعب، ما السبب في اغفالها والنتيجة جهل المجتمع بها، وليس شيء تواتر وتناقل غير هذه العبارات المشينة. ولا تستغرب عزيزي القارئ اذ اني سمعت من كثيرين ان سبب زيارتهم للامام الحسين (ع) مشيا على الاقدام ليكفروا عن اجادهم ما فعلوه بالحسين (ع) واهل بيته!
الطريقة الثالثة:اضعاف الاصيلبايجاد بديل او رمز وهمي.
هذه الطريقة تستخدم في اضعاف او الغاء وجود شخصيات لها تأثير ايجابي على المجتمع الا انها لا تنسجم مع توجهات ورغبات المتسلطين، والنتيجة ايجاد رموز وهمية تنسب لها فضائل الشخصية الحقيقة، وبطبيعة الحال الشخصية الوهمية تتصل بطريق او باخر بالمتسلطين. اوهجر مدينة بسبب العجز عن تغيير ولاؤها، والخوف من انقضاض اهلها على الحاكم في اي وقت، على الرغم من تاريخها واثرها في قلوب الناس. واعني بذلك تجشم عناء انشاء عاصمة جديدة للحكم ليس لها مميزات تميزها عن المدينة التي تم هجرها، من بناء وعمارة وانشاءات تكلف الكثير من المال والجهد والوقت، مع وجود مدينة مهيأة لتكون او تبقى هي العاصمة، فذلك يعني اضعاف تلك المدينة. لعل قائل يقول ان الإمام علي (ع) فعل هذا عندما نقل عاصمة الخلافة الى الكوفة، فهل يعني هذا انه اراد اضعاف مدينة رسول الله (ص)؟
قلنا : هناك فرق كبير وان وجد الاشتراك في الشكل، فالكوفة مدينة لها وجود ولها تاريخ وموقعها مهم جدا، كما ان جل الذين بايعوه كانوا من اهل الكوفة. وهو لم يهجر المدينة تماما فقد عاد لها ابناؤه، وفوق كل هذا فان الإمام علي (ع) كان مسؤولا عن استمرار الرسالة المحمدية الى كل الاجيال ولو بقي في المدينة لقتلت الرسالة، فهو كان يبحث عن الأرض الصالحة لزرع بذور الرسالة والحفاظ عليها، المدينة لم تكن ارضا صالحة لاحتضان وانبات هذه البذور. اما الاخرين فكان همهم الحفاظ على بقائهم في السلطة وليس بقاء الاسلام، فلم يلحظوا والحال هذه سوى الابتعاد عما يهدد وجودهم.
بعد سقوط دولة بني امية، وصل العباسيون الى الحكم وكلاهما يشتركان ببغضهما لعترة الرسول (ص) ومن يواليهم، الا ان بني العباس كانوا يدعون انهم اهل البيت وانهم جاؤالاخذ ثار الحسين وزيد ويحيى وغيرهم، حتى ان ابو سلمة الخلال كان يطلق عليه وزير ال محمد وابو مسلم الخرساني امير ال محمد. كان سبب انتقال بنو العباس الى الكوفة هو ولاؤها لاهل البيت (ع) لذا ترى خطبهم في بادئ الامر في مسجد الكوفة حافلة بالاياتالقرانية التي نزلت باهل البيت (ع) واحاديث الرسول بهذا الخصوص، واستثارة الناس ضد بني امية لانهم ارتكبوا الجرائم العظمى بحق اهل البيت (ع).
الا ان بني العباس شخصوا منذ البداية ان وجودهم في الكوفة غير صحيح وان الامر لا يستقيم لهم ، لان الكوفة علوية، وان عاجلا ام اجلا ستظهر حقيقتهم وانهم بعيدون كل البعد عما اعلنوه. ولم يتمكن الامويون بكل طغيانهم من تغيير ولائهم، الا ان السبب الرئيس في قدومهم الكوفة هو علمهم بواقع حبها لاهل البيت (ع).
….. فكان خيارهم الوحيد الانتقال منها الى مكان اخر، وانشاء عاصمة حكم جديدة وبهذه الطريقة يقتلون الكوفة تدريجيا لان انظار العالم ستتوجه الى العاصمة، على الرغم من ان الكوفة من اهم الاقاليم وهي مدينة متحضرة وهي مركز ثقافي مهم جدا. فانتقل السفاح الى الانبار وهو مكان قريب من الكوفة وبنى الهاشمية وبنى له قصرا وبعدها مات فيه.
ثم جاء ابو جعفر المنصور ورايه كان الابتعاد اكثر عن الكوفة لان الهاشمية ليست بعيدة بما يكفي، فاختار بغداد ليجعلها عاصمة له. وتجشموا عناء بناء مدينة جديدة من الاساس تقريبا لغرض اضعاف الكوفة.
لكن في المقابل وقف ائمة اهل البيت (ع) ضد هذا المخطط الذي يرمي الى اغتيال حقيقة هذه المدينة، باتباع جملة امور:
الامر الاول: ركز اهل البيت (ع) على مكان قبر امير المؤمنين (ع) في النجف الاشرف، بزيارته والاستقرار عنده، وقد قام الإمام علي بن الحسين (ع) بهذا الامر حيث ظل المكان الذي يستقر به شاخصا الى اليوم بالقرب من ضريح الإمام علي (ع). لكن الملاحظ ان الإمام الصادق (ع) زاد بتركيزه على هذا الامر اكثر؛ لانه شعر برغبة العباسيين بالقضاء على الكوفة، فنسمع بعض ما ورد عنه:
عن صفوان ابن مهران ، عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) ، قال : سألته عن موضع قبر أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، قال : فوصف لي موضعه حيث دكادك الليل ، قال : فاتيته فصليت عنده ، ثم عدت إلى أبي عبد الله ( عليه السلام ) من قابل ، فأخبرته بذهابي وصلاتي عنده ، فقال : أصبت ، فمكثت عشرين سنة أصلي عنده .
عن صفوان الجمال ، قال : كنت وعامر بن عبد الله بن جذاعة الأزدي عند أبي عبد الله ( عليه السلام ) ، فقال : فقال له عامر : ان الناس يزعمون أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) دفن بالرحبة ، فقال : لا ، قال : فأين دفن ، قال : انه لما مات حمله الحسن ( عليه السلام ) فأتى به ظهر الكوفة قريبا من النجف ، يسرة عن الغري ، يمنة عن الحيرة ، فدفن بين ذكوات بيض.
عن إسحاق بن يزداد قال : اتى رجل أبا عبد الله ( عليه السلام ) فقال : اني قد ضربت علي كل شي لي ذهبا وفضة وبعت ضياعي فقلت : انزل مكة ، فقال : لا تفعل فان أهل مكة يكفرون بالله جهرة ، فقلت : ففي حرم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، قال : هم شر منهم ، قلت : فأين انزل ، قال : عليك بالعراق الكوفة فان البركة منها على اثني عشر ميلا ، هكذا وهكذا ، والى جانبها قبر ما اتاه مكروب قط ولا ملهوف الا فرج الله عنه.
وهناك العشرات من الروايات عنه (ع) تؤكد هذا الامر بطرق واسانيد متعددة.
وعلى هذا الاساس فان مسألة خفاء قبر امير المؤمنين (ع) لأكثر من مئة عام خوفا من الخوارج مسالة لا صحة لها او مشكوك بصحتها، ولأسباب عدة:
اولا: كان الائمة (ع) يتناقلون مكان قبر الإمام (ع) لكي لا يضيع هذا المعلم المهم في حياة الامة، وكانوا يزورونه ويطيلون المكث عنده، ورواياتهم صريحة في تحديد مكانه.
ثانيا: ان المختار الثقفي سيطر على زمام الامور في العراق واحكم قبضته على الكوفة خصوصا، ايعقل انه لا يعلم بقبر الإمام! او انه لم يحاول ابراز القبر بعد ان سيطر على الموقف، هل الشيعة ضعفاء في الكوفة الى هذا الحد بحيث انهم لم يتمكنوا من حماية القبر، خصوصا ان الخوارج لم يصلوا الى مستوى السيطرة على حكم البلاد.
ثالثا: ان قضية خفاء القبر الشريف تسهم بشكل كبير بإعلاء شأن من كشفه وانه صاحب فضل على المسلمين عموما والشيعة خصوصا، وهو كما في بعض القصص ، ان هارون العباس هو من اظهره، والقصة معروفة عند خروجه للصيد في الغري. وعلى فرض صحة هذه القصة فإنها انما تدل على جهل هارون بالقبر الشريف وليس على خفائه عن عامة الناس، فالشيخ العجوز الذي استعان به وهو من اهل الكوفة قال اخبرني ابي عن جدي عن جدي وهكذا، ان هذا المكان هو قبر علي (ع). اذن المسالة ليس مخفية عن الناس.
الامر الثاني: انتقال الإمام الصادق (ع) الى الكوفة، يقول السيد البراقي في كتابه تاريخ الكوفة: ( ولقد بقي (عليه السلام) في الكوفة سنتين ايام ابي العباس السفاح، فازدلفت اليه الشيعة من كل فج زرافات ووحدانا تستقي منه العلم وترتوي من منهله العذب الروي وتروي عنه الاحاديث في مختلف العلوم، وكان منزله (عليه السلام) في بني عبد القيس). وقد اسس في هذه المدة فرعا مهما لا يقل شأنا عن المدينة المنورة لجامعة اسلامية ضخمة في مسجد الكوفة المعظم، حيث اصبحت نبراسا لكل المسلمين ومصدرا للعطاء، حتى ان كبار فقهاء المذاهب الاخرى تتلمذوا في هذه الجامعة. وعلى فرض التشكيك برواية البراقي وان الإمام الصادق (ع) لم يمكث هذه المدة في الكوفة، وانما كان يتردد علها، فان وجود علماء تتلمذوا على يديه وينقلون عنه (ع) في الكوفة ثابت لا شك فيه. ينقل لنا الحسن بن علي الوشاء انه أدرك في هذا المسجد يعني مسجد الكوفة تسعمائة شيخ كل يقول حدثني جعفر بن محمد عليهما السلام .
ومن الواضح ان هذه الطريقة تجعل الكوفة من اهم المراكز العلمية وبهذه الطريقة تبقى نفوس الناس وطلاب العلوم تهوي اليها.
قد يتصور البعض ان انتقال الإمام الصادق (ع) الى الكوفة سببه الاقامة الجبرية التي فرضها عليه السفاح. الا ان هذا التصور ليس صحيحا؛ لان السفاح كان يرفع شعار اهل البيت وليس في مصلحته ان يضايق الإمام الصادق (ع) في بادئ الامر. لهذا عبروا عن هذه الفترة هي الفترة الذهبية لانتشار فقه اهل البيت (ع). ومن الملاحظ ان الناس توافدت على الإمام زرافات وبشكل سهل يسير ولا توجد المضايقات التي عاشها الإمام بعد ذلك.
لذا فان هذا الانتقال جاء نتيجة القراءة الصحيحة من الإمام لبني العباس وما يريدون فعله، وهو اضعاف الكوفة والتقليل من شأنها. وتصحيح المغالطات التي تفوه بها العباسيون بجعل انفسهم اهل بيت النبي (ص). وبهذا فان الإمام الصادق (ع) حقق اكثر من هدف في ان واحد، الحفاظ على الكوفة كمركز مهم للمسلمين، وافشال المخطط العباسي. نشر العلوم النافعة للمجتمع، تأسيس فرع لجامعة اهل البيت (ع) في مسجد الكوفة لتخريج الفقهاء والعلماء في مجالات مختلفة.
الامر الثالث: رسخ الائمة وخصوصا الصادق (ع) الارتباط الوثيق للامة بهذه الأرض المباركة عن طريق بث عدد من الروايات باستحباب الدفن فيها ، وهذا الامر جعلها من اكبر واهم المعالم في العالم، فمقبرة وادي السلام من اكبر المقابر في العالم. فبات الارتباط بهذه الأرض وثيقا حتى عند غير المؤمنين لوجود رفات احبتهم فيها.
ويبقى اغتيال الحقائق مستمرا ببقاء ذو النفوس المريضة، وبقاء الاقلام المأجورة، فلا يصدر منها الا التشويه والتحريف.
في قابل الحلقات سنتعرض لمسائل مهمة بعونه تعالى.

أحدث المقالات

أحدث المقالات