بقلم دوغلاس أي اوليفيانت
لابد ان يخسر تنظيم الدولة الاسلامية المعروف باسم داعش في منطقة الشرق الاوسط معركته للامساك بالارض في العراق. ان الامر سيتطلب عاما او اثنين لتقليص دفاعاتهم في مدن مثل الموصل و تكريت و الفلوجة, لكن احدا لا يشك جديا بالنتيجة القادمة. و لا يعني هذا الكلام ان معارك كبرى لن تقع و ان انتصارات تكتيكية لن يحققها التنظيم المتطرف في الاشهر القادمة. كما ان ذلك لا يعني القضاء على داعش كتنظيم ارهابي موزع على خلايا في العراق. و لا يعني ذلك ان جماعات من افغانستان الى ليبيا لن تقرر الارتباط بداعش. و فوق كل ذلك, فلا يعني ذلك ان هنالك خطة لطرد تنظيم داعش من سوريا. لكن النتيجة في العراق تبدو واضحة بالنسبة لمعظم المحللين الجديين.
لكن برغم ذلك, فأن احتلال التنظيم لثلث اراضي العراق تسبب بتغيير في النسيج الاجتماعي و السياسي في البلاد, تغيير ربما يستمر للابد. و لسوف تبقى السياسة في المقدمة دوما. كما ان الجماعات العرق-مذهبية الثلاث الرئيسية في العراق انما تغيرت هي الاخرى جراء زلزال داعش, الا ان قلة قليلة تفكر بهذا المستوى السياسي الدقيق. و عوضا عن ذلك, فأن معظم المحللين يميلون للتركيز على آخر متغيرات الاحداث على المستوى الدقيق, لكن الجيدين من هؤلاء لابد ان ينظروا الى ما يتجاوز عناوين الاخبار اليومية, و حتى الى ما يتجاوز الافق نفسه. ان المتغيرات على المستوى الدقيق في العراق, مترافقة مع التوجهات الاقدم فيه, انما تقدم سببا لرؤية متفائلة و متشائمة لمستقبل هذا البلد في الوقت ذاته.
سنة العراق العرب
يصح القول ان أي نقاش بخصوص داعش و تأثيره بدأ مع سنة العراق العرب الذي يشكلون ما يقدر بسدس سكان البلاد. و ليس هنالك من شيء يمكن ان يلطف او يجمل هذه الصورة, بالنظر الى حقيقة ان احتلال داعش للمناطق السنية في العراق سيضل بمثابة زلزال و حدث عنيف لن يتعافى منه السنة لجيل كامل او اكثر ربما.
ففي الوقت الذي روع قدوم داعش الكثيرين, و ربما الغالبية من بين ابناء الطائفة السنية في العراق, فأن الحقيقة العنيدة التي لا مناص من الاعتراف بها تتمثل في ان شريحة معتبرة من ابناء هذه الطائفة تعاونت او تواطأت, او حتى حاربت في مراحل ما مع التنظيم المتطرف.
و لا شك ان ذلك الكلام بات اقرب الى النقطة الفارقة و الطابع المميز و حتى الكلام السائد لو اريد توجيه اللوم لهؤلاء على تعاطفهم مع داعش نتيجة لإساءات حكومة المالكي, الا
ان الاسباب الجذرية العميقة لهذا الموضوع تبدو اعمق بكثير. ففي الوقت الذي تعاملت القوات الامنية التابعة للحكومة السابقة بشدة و قسوة مع المناطق السنية, كانت تلك الاعمال متسقة كثيرا مع ردة فعل معظم الحكومات غير الغربية (و حتى بعض الغربية منها) ازاء الارهاب و التمرد. و صحيح انه ليس جميع السنة العراقيين و لا معظمهم كانوا مشاركين في الارهاب, الا ان الشبكات الاسلامية الارهابية و المتمردين البعثيين يحضون بقواعد دعم معتبرة في اماكن مثل تكريت و جرف الصخر و الفلوجة. و كما يشير الباحث و المحلل فنار حداد, فأن الدعم الذي تحصل عليه تلك الحركات الثورية انما كانت نتيجة لرفض السنة لكامل العملية السياسية ما بعد العام 2003 اكثر منه رفضا لحكومة المالكي نفسها, تلك العملية التي تعني وصول الزعماء الى سدة الحكم عبر صناديق الاقتراع الديمقراطي عوضا عن ان يأتي اختيارهم الحصري من قبل النخبة السنية التي هيمنت على مقاليد البلاد منذ القدم. بالنسبة للعديد من السنة, فأن محور شكوى السنة من حكومة بغداد يتمركز على كونهم ليسو من يحكمها. ان مظلمة من هذا النوع ليس بالامكان تسويتها, كما ان تصدي تنظيم داعش لهذا العذر انما كان وبالا على السنة و حسب. و بغية فهم مدى و عمق الكارثة التي حلت على رؤوس السنة العراقيين, فلنتخيل افضل سيناريو يمكن ان يحصل لهذا الطائفة في المستقبل القريب. بمجرد تحرير مدن الموصل و الانبار و تكريت من سيطرة تنظيم داعش, فأن للسنة ان لا يأملوا الا بقدر محدود من الحكم شبه الذاتي ضمن محافظات صلاح الدين و الانبار و نينوى, تلك المحافظات التي شهدت حالة تدمير ثقافي و تراثي حيث دمرت المعابد و احرقت الكتب, فيما تبددت الثروة و نقلت الى اماكن اخرى. و وصولا الى هذه المرحلة, ستكون المدن قد جردت من كل شيء ان لم تتساوى مع الارض. كما ان نسبة كبيرة تقدر بـ20-40% من سكان تلك المناطق باتوا اليوم نازحين او مهجرين داخليا و خارجيا, ذلك الرقم الذي لنا ان نتوقع زيادته مع شروع القوات الامنية العراقية بشن عمليتها العسكرية الكبيرة في المدن. كما ان البنية التحتية في تلك المناطق ستعاني من مزيج كبير من الخراب و النهب و الاهمال. و ليس هنالك من موارد حقيقة, او ان ايا منها لم تتم تنميته و تطويره على الاقل, موارد يمكن ان تسمح بصنع الثروة من جديد.
كما ان نسبة معتبرة من المناطق المتنازع عليها, ان لم يكن مجملها, و التي يتصارع السنة العرب و الاكراد عليها في كركوك على وجه الخصوص, فضلا عن اجزاء في محافظتي نينوى و ديالى, انما ستنتهي الى سيطرة و احتلال البيشمركة الكردية. ولابد للطائفة السنية من الاستجابة لهذا الموقف من خلال قيادتها القديمة التي فقدت مصداقيتها الى حد كبير, او من خلال قيادة جديد لا يزال امامها طريق طويل لتحقق ما يكفي من الجاذبية كي تكون فعالة فعلا.
نتيجة لكل ذلك, و ضمن افضل سيناريو مستقبلي ممكن, سيضل السنة العراقيون ضعفاء و مهزوزين سياسيا و اقتصاديا و جغرافيا لجيل على الاقل.
ان التعاون مع داعش بمداه الذي يبدأ من المشاركة الفعالة و ينتهي بالدعم الاضطراري الخجول انما كان وبالا و كارثة على رؤوس سنة العراق.
و في الوقت الذي يتحدث فيه البعض عن تحسين واقع قوة الجماعات السنية, فأن من الصعوبة بمكان رسم خارطة طريق لكيفية تحقيق ذلك في مقابل حقيقة انهم ضعفوا بقوة في مقابل باقي طوائف العراق العرق-مذهبية الاخرى. و لسوف يتطلب الامر عقودا اخرى قبل ان يعود سنة العراق للتمتع بالثروة و القوة و المكانة التي كانت لهم العام الماضي. فضلا عن ذلك, فأن زيادة حصة التمثيل التي يوصي بها الغرب انما تهمل حصة المشاركة غير العادلة بالسلطة التي يتمتع بها سنة العراق, تلك الحقيقة التي عادة ما يهملها المعلقون الغربيون رغم انها تمثل جزءا اساسيا من الحوار العراقي. فضمن الانتخابات الاخيرة, ادت نسبة تصويت السنة و القوميين و الاحزاب المرتبطة بهم التي قدرت بـ19-20%, ادت الى حصولهم على ما نسبته 32% من الكابينة الوزارية و المناصب الحكومية الكبرى, و ذلك بمعدل 8 من اصل 25 وزارة شملت الدفاع و الزراعة و التعليم و الكهرباء و التجارة, فضلا عن مناصب رئيس مجلس النواب و نائب الرئيس و نائب رئيس مجلس الوزراء. و ان من غير الواضح ما الذي يمكن اتخاذه من خطوات اخرى على المستوى الفيدرالي, فضلا عن المشاكل و التعقيدات في موضوع تداول السلطة ضمن دولة نفطية مركزية النظام.
اكراد العراق
بالحديث عن تطور واقع السلطة في العراق , فأن اكراد هذا البلد و معظمهم من ابناء الطائفة السنية و يشكلون ما يقدر بسدس السكان, انما عاشوا احسن و اسوء اوقاتهم في العام 2014. ففي خضم الفوضى التي تبعت هجوم داعش و احتلاله للموصل الصيف الماضي, امكن للاكراد ان يتوسعوا و يحكموا قبضتهم بفرض الامر الواقع على مدينة كركوك التي انطلقوا منها لشن هجماتهم على المناق الاخرى التي يسيطر عليها المتطرفون و يتنازع من اجلها الاكراد. في واقع الحال, و برغم خسارتهم للكثير في مناطق اخرى من العالم, الا ان الاكراد باتوا اليوم يفرضون سيطرتهم الفعلية على باقي المناطق المتنازع عليها, و عادة ما يقومون باعمال تطهير ضد المدنيين العرب السنة الى جانب ما يقوم به داعش ضد هؤلاء, حيث يتم كل ذلك بمساعدة سلاح الجو الاميركي. ان الاكراد الذين وقفوا يتفرجون على غزو داعش لمناطق عرب العراق انما يرحبون اليوم بالدعم الدولي لجهودهم ضد هذا التنظيم المتطرف, حيث امكن لهؤلاء من بعد التراجعات المحرجة التي منيت بها البيشمركة مقابل داعش و تقدمها نحو اربيل, امكن لهم تحقيق نجاحات مثيرة للاعجاب في نينوى.
ان التضخم الكردي الذي تحقق العام الماضي, ذلك التضخم الذي واجه بعض الانتكاسات و الدروس القاسية في بعض الاحيان هنا و هناك بخصوص القدرات الحقيقية لقوات البيشمركة و قيادتها المعروفة عادة بالمحاباة, انما كان تضخما كبيرا.
لكن الاكراد عانوا كذلك عما لا يقل عن 4 انتكاسات اساسية خلال العام الماضي, و كما هو الحال مع باقي العراق بقضاياه السياسية المغطاة بضوضاء و صخب قعقعة السلاح.
بداية, يبدو ان تركيا اردوغان سحقت تماما اي محادثات رسمية بخصوص الاستقلال, الامر الذي دفع الى التخبط من اجل اصلاح الترتيبات مع بغداد. ان هذا الفيتو التركي بحكم الامر الواقع ضد استفتاء تقرير المصير و الاستقلال الذي ارادته حكومة اقليم كردستان انما له تأثيران اثنان. يتمثل التأثير الاول و المباشر بأجبار القيادة الكردية على اعادة وصل ارتباطاتها مع بغداد وفق رؤية ابعد مدى. و كنتيجة طبيعية لهذا التأثير الاول, برز التأثير التأثير الثاني المتمثل في الكشف عن ان استقلال الاكراد عن بغداد سيعني حتمية سقوطهم في مدار النفوذ التركي و نزوات انقرة.
و لا شك ان ذلك يمثل درسا قاسيا و غير عادل للشعب الكردي على نحو واضح, غير ان ذلك لا يغير من كونه حقيقة جغرافية عنيدة و حسب. فبما ان كردستان المستقلة ليس بمقدورها تصدير النفط جديا الا من خلال تركيا, تبرز حقيقة ان اليد الطولى ستكون لتركيا. ان النفط الكردي, مع نسبة تهريب محدودة لا يحسب حسابها, انما يمر عبر خطوط الانابيب التركية و يخزن في المستودعات التركية كذلك, فضلا عن حتمية تصديره عبر المرافئ التركية, عدا عن ان امواله تودع ضمن حسابات تابعة لمصارف تركية.
ثانيا, فقدت كردستان علامتها التجارية الى حد بعيد. فلعقد من الزمن مضى, تمتعت كردستان بسمعة ما يسمى “العراق الآخر,” او ما يشبه بـ”جنة موناكو الشرق الاوسط,” حيث يستطيع المرء القيام بالاعمال التجارية و البحث عن النفط و حتى التزحلق على الجليد بعيدا عن فوضى و عنف المحافظات العراقية العربية الاخرى. اما الان, و مع وجود داعش التي تستطيع على اقل تقدير اعطاء الانطباع بقدرتها على تهديد اربيل, و مع الاقرار بوجود المئات من الاكراد في صفوف التنظيم المتطرف, حيث لنا ان نذكر ان المئات تعني الآلاف!, فضلا عن ابتلاعها للمناطق المتنازع عليها, فأن كل ذلك يعدها بمشكلة ارهاب كبيرة لفترة العقود القادمة, ما يعني ان تبدو كردستان كما هو الحال مع باقي ارجاء العراق دون فرق يذكر. كما ان الشركات الاجنبية التي ضخت الوقود لنمو كردستان انما بدأت تظهر عليها ردود فعل لا يشوبها الشك فعلا ازاء هذا الوضع الراهن, ردود فعل تأتّت من خلال مطالبات اصحاب الاسهم و الضامنين. و بالمختصر, فأن الفقاعة الاقتصادية المحيطة باربيل و حكومة اقليم كردستان انما تبدو بحال تقلص و انحسار, ان لم تنفجر اصلا.
ثالثا, بدأ وهم الديمقراطية في كردستان يفقد بريقه. ان الامال المعقودة على تشكيل حكومة اقليم كردستان من خارج الاطار العشائري-العائلي الكردي التقليدي تبدو و قد
تحطمت, و للوقت الراهن على الاقل. فها هي اساءات عائلة البرزاني موثقة بشكل جيد, فيما يبدو بالمقابل ان تراجع اساءات و فساد عائلة الطلباني انما يعود الى خسارتها المتواصلة للمواقع السلطة. و فيما يعّد الفساد المالي صورة شائعة من صور الحياة في الشرق الاوسط, فأن قمع الصحفيين و سجن الخصوم و تعيين افراد العائلة غير الاكفاء بالمطلق في مواقع السلطة الحقيقية انما تمثل كلها ادلة على ان حكومة اقليم كردستان ليست سوى انعكاس حقيقي و دقيق لاكثر صور الدول التسلطية في الشرق المنطقة.
ان رفض حكومة اقليم كردستان تبني نظام القائمة المفتوحة في الانتخابات على النقيض من باقي محافظات العراق الـ15 الاخرى يمنع تحقيق اي مسائلة ديمقراطية او شفافية في كلا الحزبين الرئيسيين, الامر الذي يصعب بشدة من عملية خلق حزب جديد رغم ان مجموعة من الاكراد الشجعان اقدمت على هذه الخطوة و لها الفضل في فتح الطريق امام مسيرة للاصلاح الديمقراطي هناك.
و اخيرا, فأن بعض الاكراد, على الاقل, ادركوا ان سياستهم الكردية الكبرى المتمثلة في وحدانية اللغة, او على الاقل رفض تعلم العربية, انما بدأت ترتد عليهم. فلجيل كامل, روج الاكراد لسياسة التعليم بالكردية, الامر الذي حقق لهم هدف تعزيز هويتهم الاقليمية, غير ان ذلك جاء على حساب كلفة اقتصادية باهظة. فلو ان الاكراد ما عادوا يتحدثون العربية, فكيف لهم اذن ان يندمجوا بمحيطهم الاقليمي الذي يتحدث العربية على نحو كبير يا ترى؟ و لنا ان نذكر ان عددا قليلا من الدول الصغيرة المحاطة بالجيران من كل جانب لم تكن لتنجح لولا تعددية اللغات المتداولة فيها لتمكنها من التواصل مع محيطها العام, و كما هو الحال مع سويسرا و جمهورية التشيك على سبيل المثال. اما اللغة الانكليزية, فأنها تمثل خيارا جيدا بالنظر لكونها لغة مشتركة لدول حوض المتوسط, الا انها ليست كافية للمنطقة. و لا ريب ان هذا الوضع لا يترك الاكراد مع اي خيارات اخرى اقتصادية غير التنقيب من اجل الهيدروكاربونات, و هو ما سيلقي الاكراد اكثر في احضان بغداد او انقرة, سواء سياسيا او اقتصاديا.
باختصار, لا يجد الاكراد انفسهم الا و هم مع العراق و حسب, و بصرف النظر عن القيادة التي جلدت شعبها الكردي بدرجة اقرب الى الجنون اثناء تعبئتها له, و ان كان ذلك مفهوما تاريخيا, نحو هدف الاستقلال.
و في الوقت الذي يصح فيه القول ان رصيد الاكراد ارتفع لمقاومتهم تنظيم داعش, فأن جيشهم من جماعات الضغط يكافح باستمرار من اجل اخفاء الطبيعة التسلطية للنظام الكردي, فضلا عن الطبيعة غير الاعتيادية لاقتصاده النفطي الغريب مع المخاطر المتنامية للعنف الاسلامي. من المؤكد ان الاكراد يملكون اوراقا يلعبون بها, الا ان عليهم الاهتمام و التركيز اكثر على علاقتهم بمواطنيهم العراقيين اثناء استمراراهم بمحاولة ايجاد قيادة افضل, في مقابل تركيز اقل على موضوع الاستقلال المستقبلي, و ذلك بغية حماية مصالح الشعب الكردي على افضل وجه.
شيعة العراق العرب
يصح القول ان شيعة العراق الذين يشكلون اغلبية تقدر بثلثي سكان البلاد انما كانوا اقل من تأثر فورا باحداث الصيف الماضي, و ذلك بالرغم من استمرار الهجمات الجماعية بالسيارات المفخخة التي حصدت, و لا تزال, ارواح هؤلاء بوتيرة اجرامية بالغة عبر السنوات الماضية, و التي تعني استمرارا لمعاناتهم. ان القلة التي وقعت في يد تنظيم داعش من الشيعة تعرضت الى الاعدام الفوري من قبل متطرفي الجماعة, تلك الحقيقة التي تمنح الشيعة وضعا ملحا بوجه خاص, و ان كان هؤلاء الشيعة محميون جغرافيا الى حد كبير. كما ان اعدام المتدربين الشيعة العراقيين الـ1700 على يد مقاتلي تنظيم داعش, و الذي اوردت بعض التقارير ان بعضا من ابناء العشائر المحلية و البعثيين ساهموا باعدامهم, انما كان له تأثير حافز و شديد في تحريك السياسة العراقية, و ان كان الغرب نسي ذلك. في واقع الحال, كان للهجوم الداعشي المثير للاعجاب ان تسبب بتهديد واضح للطائفة الشيعية, لذلك كانت خسائرهم تتمثل بالشهداء من افراد القوات الامنية و المليشيات اجمالا, و برغم حقيقة ان اعداد هؤلاء الشهداء لا تزال كافية لقرع الطبول المستمر في مقبرة وادي السلام في النجف.
لكن برغم ذلك, فأن مواجهة الشيعة لقوة تكرس نفسها علنا و بقوة للابادة الطائفية انما يركز من افكارهم و ذهنيتهم, فضلا عن ان هذا الهجوم ضد الشيعة العراقيين لا ينظر له الا على انه امتداد مستمر للاعمال نفسها في الزمان و المكان حينما عمد الوهابيون الى مهاجمة مدينة كربلاء المقدسة عام 1802, و مع القمع الحكومي ضد شيعة البحرين و السعودية, فضلا عن الحملة الدموية التي تستهدف شيعة باكستان.
يصح القول ان هنالك قدرا كبيرا و متواترا من القلق بخصوص دور المليشيات الشيعية, او من يطلق عليهم المتطوعون, حيث ان بعض موارد ذلك القلق مبررة فعلا, فيما البعض الاخر منها مبالغ فيه. و لا شك ان ذلك يعكس نزعات واشنطن العميقة في المنطقة. لكننا يجب ان نضل غير قلقين نسبيا ازاء موضوع المليشيات بالمفهوم العسكري لما لا يقل عن 3 اسباب. بداية, ففي الوقت الذي كان هنالك فيه اساءات موثقة قامت بها المليشيات بدم بارد, فان هذه الاساءات تبدوا متناسبة كميا و نوعيا مع تلك الاساءات التي اقترفتها الجماعات الاخرى المقاتلة في العراق, و دون الحاجة لذكر ان ذلك يحصل اثناء القتال ضد عدو يجاهر علنا و صراحة بألتزامه الابادة الجماعية لنوعك. و في الوقت الذي يتوجب فيه استنكار كل انواع الاساءات و التحقيق بشأنها و معاقبة المسؤولين عنها, فأن الحقيقة تكمن في انه مقاتلي المليشيات و المتطوعين ليسو مسيئين بالمجمل, و ليس بوتيرة اسوء او اكثر من مقاتلي داعش السنة المتطرفين.
لكن آية الله العظمى السيد علي السيستاني اصدر مؤخرا فتوى اراد من خلالها كبح جماح تلك الاساءات, و لنا ان نذكر ان سلطة هذا الزعيم الروحي لها , على الاقل, تأثيرها البارز
على هؤلاء المقاتلين. ثانيا, يبدو ان مقاتلي البيشمركة الكردية و ابناء العشائر السنية راغبون و قادرون على التنسيق و التعاون مع هذه المليشيات, و على الاقل في بعض المناسبات كقوة صدمة. ان هذا التنسيق يشير الى ان هذه الجماعات اقل اهتماما باساءات المليشيات من اهتمامنا نحن بها, برغم ان هذه الاساءات تترك الغرب عادة ليصنع مقارنة يتساوى بها الداعشيون و المليشيات. ثالثا, ان لدينا كل المؤشرات التي تقول ان هذه المليشيات تنوي, ما بعد الانتهاء من قتال داعش, العودة الى ديارها او الانخراط بصورة نظامية في الحكومة المركزية بشكل ما. و في الوقت الراهن, فأن الحكومة المركزية بحاجة للمتطوعين, الا انها تبدو عازمة على استعادة احتكارها القوة في اقرب فرصة ممكنة, و من دون اعتراض من المليشيات نفسها. لقد كان ذلك ما حصل بعد العام 2008, و برغم هجوم ربيع ذلك العام الذي نفذه المالكي ضد الصدريين الذي سرع بهذا الامر.
و لا يعني هذا الكلام ان قلقا لا يجب ان يشعر به احد ازاء المليشيات, لاسيما ازاء تلك المليشيات ذات الطابع العسكري التي يزيد عادة القلق بشأنها. و مرة اخرى, لابد لموارد القلق الحقيقية من ان تكون سياسية و انتخابية على وجه الخصوص. ان العراق سيخوض انتخابات برلمانية بداية العام 2017 و العام 2018, و حيث ستكون اولاهما ما بعد مراسم تأدية اليمين للرئيس الاميركي الجديد في حينها, ما يعني انه ليس من المبكر التفكير في ذلك. كما ان السؤال الذي يواجه تلك الانتخابات من منظور اميركي يتمثل في انه بافتراض تحقق هزيمة كبيرة و قوية ضد تنظيم داعش بحلول بداية العام 2017, فمن سوف تفترض الانتخابات العراقية او نسبة الـ60-70% الشيعية من السكان العراقيين انه مسؤول عن تلك الهزيمة بحق التنظيم المتطرف يا ترى؟ ان من الواضح ان بروز الاجنحة العسكرية لحركات مثل عصائب اهل الحق و فيلق بدر في القتال سيكون له تأثير كبير على بروز الاجنحة السياسية للجماعات ذاتها, و بالتالي نسب التصويت لها في تلك الانتخابات.
و ما الذي سيحصل في ميدان السياسة العراقية لو ان الكتلة الشيعية الاكبر في المعترك السياسي العراقي تحولت من حزب الدعوة و المجلس الاسلامي الاعلى المتقاربين مع الغرب, تحولت شرقا الى جانب تنظيمات مثل فيلق بدر و عصائب اهل الحق يا ترى؟ فضلا عن ذلك, كيف ستكون استجابة الولايات المتحدة لتحول من هذا النوع, تحول سيزيد من نفوذ ايران في العراق بكل تأكيد يا ترى؟ ان العراقيين سيتحلون الى ايران ليس لانهم يحبونهم, حيث ان العكس صحيح اجمالا, و انما لان ايران موجودة هناك و ستضل هناك دائما, و كجار على الاقل.
بالنسبة لشيعة جنوب العراق, يدرك الناس بسرعة ان تنظيم داعش استولى على الموصل شهر حزيران الماضي, فيما لم تبدأ الضربات الجوية الاميركية ضد هذا التنظيم الا مع حلول شهر آب, الامر تصادف مع تهديد داعش لاربيل ان لم يكن ذلك التهديد سببا مباشرا
في التحرك الجوي الاميركي. في مقابل ذلك الكلام, كان الايرانيون موجودين هنا بمستشاريهم و اسلحتهم في ثاني ايام الازمة فعليا, في مقابل فشل الاميركيين بتحقيق ذلك قبل مرور شهرين على اندلاع تلك الازمة.
فضلا عن ذلك, فان من المتعارف عليه في جنوب العراق ان الولايات المتحدة لم ترفض مساعدة العراق ضد تنظيم داعش و حسب, و انما تمثل راعيا و شريكا لداعش على حد سواء. و لا شك ان هذا الاعتقاد ليس سوى جزء من نظرية المؤامرة و حالة الارتياب المتعارف عليها هناك, الان له ما يبرره من عناصر التصديق العميقة الاثر ضمن المنظور الشيعي العراقي.
و حينما يناقش هذا الموضوع بصرف النظر عن الاشاعات حول دعم الولايات المتحدة لداعش, يتسائل الشيعة قائلين “كيف ان الولايات المتحدة تسمح لحلفائها مثل السعودية و قطر و تركيا بتقديم كل الدعم و التسهيلات لتنظيم داعش كما يحصل حاليا؟.” عندها, يأتي تفسير الشيعة لهذا الموضوع قائلا ان هذه الدول تمثل الوسطاء او الوكلاء الذين تستخدمهم الولايات المتحدة لتقوية جانب داعش تحقيقا لمصالحها الذاتية.
ان تحليل هذا الخطاب خاطئ بكل تاكيد, الا انه ليس غبيا و يتطلب ردا فعالا. من المؤكد ان الولايات المتحدة لم و لن تدعم يوما تنظيم داعش, الا ان واشنطن ابدت رغبة واضحة لغض طرفها عن الدعم بالاموال و العدة و العدد و حتى الايديولوجية لصالح وراء داعش, و بطريقة غير مباشرة على الاقل, ذلك الدعم الذي قدمه حلفائنا في المنطقة للتنظيم المتطرف. و لربما ان الزعماء الاميركيين لا يهتمون بالانطباع الذي يخلفه هذا الكلام في جنوب العراق. الا ان من المؤكد ان عليهم الاهتمام بذلك فعلا.
الطائفية:الآمال و المخاوف
تضل الطائفية في العراق مرد قلق عميق و اساسي بالنسبة للولايات المتحدة و باقي اللاعبين الاخرين. ان هذه الطائفية حية و فاعلة, لكنها عادة ما تحاط بالمبالغات. ان الهوية الدينية موجودة, لكنها تتنافس, و تسحق احيانا, هويات المفاهيم الذاتية الاخرى. ان هذه الهويات المنافسة الاخرى تتمثل بالهوية العربية و الاسلامية و العشائرية و العراقية, و التي تقود جميعها الى بعض الانشطة في العراق بطريقة تعقد من وصف التوترات الطائفية الخالصة و التطهير في هذا البلد.
ان هذه الاحداث المذكورة آنفا, و الممثلة بالتعاون ما بين المليشيات الشيعية و ابناء العشائر السنية, مع النبرات الاكثر اعتدالا في اوساط الحكومة العراقية, فضلا عن الاستقبال الشيعي اللافت لوجود النازحين و المهجرين السنة في قلب المحافظات الشيعية, ذلك القبول الذي لم يحض بالتغطية و التركيز بما يستحق, انما يجب له ان يخفف من نبرة الخطاب الطائفي المستحكمة, برغم ان الاساءات لابد ان يتم التعامل معها كما هي.
اذن, ما الذي بقي من اسباب الامل كي يندفع العراق بنجاح فيما بعد ازمة داعش نحو عقد آخر من الزمن يا ترى؟. بداية, بات نجم القادة المعتدلين في تصاعد ايجابي, حيث ان لنا ان نشير الى ان نبرة رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي افضل بكثير من نبرة سلفه المالكي, ان لم يكن في مواقفه السياسية. و كذلك هو الحال مع الدكتور سليم الجبوري, رئيس البرلمان السني العراقي الجديد, الذي يحمل نبرة و مواقف سياسية اكثر اعتدالا من باقي شخصيات المعارضة السياسية السنية السابقة امثال طارق الهاشمي و اياد علاوي و اسامة النجيفي. كما ان من المطلوب ان تكون هنالك قيادة جديدة, و جديدة ما بين السنة على الاقل. و كلما سارعت قيادات حقبة المنفى بالرحيل عن المشهد السياسي, حاملين معهم كل حقارة المنفى, كلما اصبحت السياسة في العراق اكثر اعتدالا و تعقلا.
و بما ان الحديث عن العراق, فأن السياسة المتعقلة لا تبنى الا على عوائد النفط و توزيعها. و ان عوائد النفط الذي يضخ بمجمله من محافظات جنوب العراق ضمن المستقبل المنظور انما تربط العراق سويا, مع استمرار بغداد على نهج يقول ان موارد العراق لكل العراقيين.
و لسوف تصبح هذه العوائد اكثر اهمية في المستقبل, و بصرف النظر عن الانكسار الحالي في اسعار النفط العالمية. و مع آمال الاكراد بالاستقلال, و من ثم تشريع صادراتهم النفطية المستقلة, تلك الامال التي سحقتها تركيا بصورة حقيقية ان لم يكن خطابية, و مع قرب تحول المناطق السنية الى ميادين حرب, فأن اعانة السنة و الاكراد من عوائد نفط البصرة سيصبح امرا اكثر الحاحا.
لكن هذه المصالح العقلانية تعيش جنبا الى جنب مع المخاوف المتنامية و الثقة المفقودة.
و على نحو غير مريح, بدأ العرب غير السنة في العراق بالتفكير جديا فيما اذا كان يمكن الثقة فعلا بالسنة كجيران لهم يا ترى؟ و هل ان هؤلاء السنة, في حال جاءتهم الفرصة و الدافع, سيتعاونون فعلا او انهم سيتخلون عن دعم الارهاب الاسلامي على اقل تقدير. اننا لا نجد هذا الحس ضمن تعبيرات الكتل العربية الشيعية و الكردية الكبرى و حسب, و انما على لسان من تبقى من المسيحيين و الايزيديين كذلك. لقد حضي الغضب الايزيدي تجاه السنة بتغطية كبيرة و مفهومة, هؤلاء الذين يعتقد الايزيديين انهم تعاونوا و دعموا تنظيم داعش في مساعيه لتدمير طائفتهم. و في الوقت الذي يتحدث فيه الشيعة و الاكراد بنبرة اكثر وضوحا و علانية, الا ان جوهر الغضب يكمن عندهم بحق كذلك. ان هذه الطوائف الاخرى في العراق تعتقد, و هي محقة في ذلك, ان ما لا يقل عن اقلية ضمن الطائفة السنية في العراق قدمت الدعم و المأوى لتنظيم داعش بسبب انهم يرفضون في الاساس واقع النظام السياسي لما بعد العام 2003, ذلك الواقع الذي حصر السلطة بيدهم ما قبل ذلك التاريخ.
اما واقع ما بعد العام 2003, فقد وجد السنة العرب انفسهم فيه يمسكون من السلطة بقدر عمقهم الديموغرافي و تحصيلهم الديمقراطي و حسب. و لا شك ان هذه تمثل قضية مستقبل العراق الاكبر.
و في حال بقي مفهوم عدم شرعية السلطة في يد غير السنة سائدا لدى السواد الاعظم من ابناء هذه الطائفة في العراق, و معهم الحكومات العربية السنية الاخرى من غير قبيل المصادفة كذلك, و اذا ما قرر جمهور هذه الطائفة القبول بأي حليف بغية رفض تلك الشرعية و الاطاحة بالنظام الحالي, اي حليف بما فيه تنظيم داعش, عندها لن يكون هنالك مناص من تبني اسوء و اكثر الوسائل التسلطية مع هذه الطائفة بغية الابقاء على هذه الدولة العراقية متماسكة سويا.
لكن برغم ذلك, تضل الولايات المتحدة مكبلة بالعراق. ان هذا البلد يعد جزءا من مجموعة الدول و منها لبنان و تونس, تلك الدول التي تعاني صدوعا عميقة و احباطات كبيرة برغم كونها دولا عربية ديمقراطية. و هذه هي المجموعة ذاتها التي لابد للولايات المتحدة ان تجد حلفائها الاقليميين من بينها, و بصرف النظر عن الخلافات و الاختلافات السياسية المستمرة او المؤقتة.
و مرة اخرى, لابد لنا من تكرار حقيقة ان الديمقراطية لا تزال هشه و ضعيفة و متصدعة و غير ناضجة في العراق. لكن اي قراءة و تمعن في تاريخ الدول التي خرجت من حقب الحكم التسلطي انما تخبرنا ان هذا النموذج يمثل افضل ما نأمل به لعقد من الزمن ما بعد اول انتخابات حرة ديمقراطية في العراق, و ذلك عبر الاعتراف بصعوبة و ضخامة بناء مؤسسات شفافة و مسؤولة و شرعية في ضل حالة الغموض و الشك التي تعيشها البلاد. ان التعامل مع العراق يمثل تجربة محبطة فعلا, الا ان ذلك يمثل املنا الافضل للمنطقة بصرف النظر عن كل شيء, حيث ان هذا العراق يمثل جزيرة ديمقراطية برلمانية من بين جزر قليلة وسط هذه المنطقة التي تعوم على بحر هائج من اساءات القرون الوسطى و الدول التسلطية.