البلدان الحديثة التي ابتدأت بتطبيق النظم الديموقراطية في إدارة الدولة ، بعد رسوخها تحت الأنظمة الفردية والديكتاتورية لعقود طويلة ، واجهت عدة مشاكل خلال مراحل التحول سواء كانت مشاكل سياسية او ادارية او اجتماعية او اقتصادية . وتتباين تلك المشاكل ما بين الدول حسب طبيعة وخصائص المجتمع والظروف السائدة وطبيعة انظمة الحكم السائدة خلال العقود التي سبقت مرحلة التحول الى تطبيق النظام الديموقراطي . ومن بين هذه الدول العراق الذي خدمته الظروف منذ عام ٢٠٠٣ ليتحول من نظام دكتاتوري شمولي قائم على أساس سيطرة الحزب الواحد الى نظام ديموقراطي حديث على المجتمع . وَمِمَّا لاشك فيه انها كانت فرصة تاريخية لم تكن لتتحقق لولا قدرة قادر ، وابتدأ العراق بداية المشوار وهو مكبل بالعديد من المشاكل والقيود سواء على الصعيد السياسي ( داخليا وخارجيا ) او على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي . ولم يكن بمقدور اي من المهتمين بالشأن العراقي من مفكرين وسياسيين وباحثين ومحللين وغيرهم من استقراء ما ستؤول اليه الأمور بعد هذا التحول . ففي البداية كان هناك اتجاهين متضادين فقط ، يمثل الاتجاه الاول تشاؤم البعض من هذا التحول لانه يعكس تضرر مصالح فئات معينة بسبب التحول ، ويمثل الاتجاه الثاني تفاؤل الآخرين بشكل مطلق وعفوي بأن هذا التحول سيزيل عنهم تراكمات الانظمة السابقة وسيخلق مستقبل واعد على الأقل لأجيالهم القادمة مع تحقيق رفاه اقتصادي واجتماعي لكل المجتمع الى جانب التمتع بمساحة واسعة من الحرية الفردية .
إلا انه بعد مرور اكثر من عقد ونصف على التحول في العراق ، وهي فترة ليست بالقصيرة ، وبعد ممارسة أربعة تجارب انتخابية ( يفترض بها ان تكون حقيقية وشفافة مبنية على أسس صحيحة) ، نلاحظ ان العراق اصبح في دوامة مستمرة من التأخر والتناحر وعدم الوضوح في السياسات والاجراءات والمواقف في مختلف المجالات والمستويات . وهذا ما أفرزته الانتخابات الاخيرة في العراق من بعض حالات التزوير في الانتخابات في الداخل والخارج وشراء ذمم وصناديق انتخابية وفوز مرشحين بنفس طائفي او عشائري او مناطقي او فئوي او حزبي او عائلي الى جانب عزوف نسبة كبيرة من السكان من الإدلاء باصواتهم مما يعكس خلل كبير في العملية الانتخابية ككل . وبقيت العديد من التساؤلات والتشكيك دون توضيح او تبرير واضح او مقنع من قبل الجهات ذات العلاقة لكيفية معالجة المشاكل التي تمخضت عنها الانتخابات سواء على مستوى مفوضية الانتخابات او ممثلي الأحزاب او وسائل الاعلام وغيرها ، وبذلك لم يستطيع العراق من بناء منظومة مترابطة ومتكاملة صحيحة لكيفية اجراء الانتخابات ومن ثم إدارة دولة وفق النظام الديموقراطي الحر . وبالرغم من انه كان بالإمكان ان يكون العراق مثال يحتذى به في مجال التطبيق الديموقراطي للدول الديموقراطية الحديثة سواء على مستوى المنطقة او العالم إلا انه فشل في تحقيق ذلك . وفي ضوء كل ما تقدم ، وإلى جانب بعض الحقائق الاخرى ، يمكن استقراء ما سيؤول اليه الواقع العراقي خلال الأربع سنوات القادمة في ضوء المعطيات التالية :
اولا : ان الانتخابات الاخيرة ، بشكل عام ، لم تحقق شروط الانتخابات النزيهة والشفافة المتعارف عليها في ظل الأنظمة الديموقراطية خصوصا بعد تجارب عدة من الممارسات الانتخابية ، وذلك بسبب الضبابية التي احيطت بالعملية الانتخابية ، وكذلك كثرة الاعتراضات والتساؤلات التي اثيرت دون اجوبة مقنعة .
ثانيا : دخول عصابات مسلحة ( تحت مسميات مختلفة) في العملية الانتخابية والتي حققت فوز واضح وذلك من خلال استقطاب فئات جهله نشأوا وترعرعوا بافكار طائفية مغيبة لم يفهموا شيء سوى لغة السلاح .
ثالثا : ولوج رجال الدين بكل طاقاتهم بالعمل السياسي ، وهم أساسا جهلاء بكل شيء عدا الأمور الخاصة بقضايا الدين ووضعوه تحت مسمى الاسلام السياسي . وتجدر الإشارة الى ان براعتهم في استقطاب الجهلة والمغيبين من فئات المجتمع يثير الإعجاب حقا .
رابعا : ان المنظومة الاجتماعية في العراق غريبة ومعقدة ومتشابكة يصعب التعامل معها في ظل نظام ديموقراطي . فإلى جانب قيام دولة بمؤسساتها الشكلية ، التشريعية والتنفيذية والقضائية ، توجد تشكيلات موازية لها اضافة الى التدخلات في مهامها ومسؤولياتها . أمثلة على ذلك سطوة النظام العشائري من جانب وسلطة ما يسمى بالحشد الشعبي ( وهو قوة عسكرية مؤثرة ) وتأثيره في معظم مفاصل إدارة الدولة ، وتدخل ما يسمى بالمرجعية الدينية بقرارات إدارة الدولة ومباركتها لأي قرار يخص الشأن الداخلي او الخارجي .
خامسا : ما زال معظم فئات المجتمع جهلة ومغيبين ، فهم بتكوينهم التربوي والبايولوجي يميلون الى التبعية والخنوع لسطوة الحاكم او القائد او المرجع او الشيخ او السيد او لأي صاحب نفوذ . فأهم مميزات المجتمع العراقي بشكل عام بأنه يعيش في الظل ، اي يعيش في ظل القائد مهما كان .
سادسا : تعمق شعور الحقد وعدم تقبل الاخر بين أفراد المجتمع خصوصا ضمن الجيل الناشئ . وعمق هذا الاتجاه سياسات الدولة من جانب ووسائل الاعلام من جانب اخر .
في ضوء ما جاء أعلاه فان العراق ، وخلال السنوات الأربع القادمة ، سيواجه مشاكل معقدة جدا يأتي في مقدمتها الصراع الحاد ما بين الكتل السياسية للاستحواذ على اكثر المكاسب وزيادة نفوذها لأغراضها الذاتية مما سيؤدي الى مواجهات مسلحة فيما بينها وبعض الفوضى في المجال الأمني . الى جانب مسألة مهمة جدا وهي زيادة المشاكل الاقتصادية وعدم إمكانية توفير او تحسين الخدمات العامة للمواطنين من كهرباء وماء وصحة وتعليم الى جانب استمرار ضعف البنى التحتية ، وَمِمَّا يزيد من عمق المشاكل هو صعوبة اعادة إعمار المدن والمحافظات المدمرة بشكل كبير كالموصل والانبار والعديد من المدن الاخرى وذلك لمحدودية الموارد من جانب وعدم كفاءة مؤسسات الدولة في اعادة البناء وتعمق الفساد الاداري وعدم معالجته من جانب اخر . والاهم من ذلك ، ونتيجة لضعف الدولة فإن التأثيرات الإقليمية والدولية ستكون كبيرة على مستقبل العراق وسيكون أسير للمتغيرات الإقليمية والدولية بشكل تام .