لم يحدث إن اختلطت في العراق المعاصر أوراق السياسة كما هو الحال اليوم .فالغزو الأمريكي للعراق لم يسقط الدولة فيه ويفكك مؤسساتها ويعيد ترتيب أولوياتها الوطنية إلى طائفية وعرقية دينية وحسب،بل أطلق الكثير من الدخان من خلال عملياته العسكرية ومناورتها السياسية وتقريبه للأطراف واستبعادها حتى صار من الصعب على الكثير من المراقبين استشراف المسار الذي يحذو إليه العراق وشعبه خلال المرحلة القادمة.
ولم يسفر الاحتلال عن محو الدولة الوطنية العراقية فقط، وعن انهيار العقد الاجتماعي القديم، الذي قام عليه مجتمعها. فالتخريب لم يتوقف عند حدود انهيار ومحو الدولة كناظم للعلاقات الداخلية، ولا في تحطيم أجهزتها الرقابية وأنماط وأدوات سيطرتها، وإنما تجاوزت ذلك كله إلى إحداث تخلخل بنيوي في أسس التعايش التاريخي بين الطوائف والمذاهب والجماعات والإثنيات. وشقّ الاحتلال فجوة إدارية ووجدانية وسياسيّة، أخذت تفصل شيئاً فشيئاً بين مكوّنات المجتمع نفسه، وعزلته حتى عن الإدارة المُنّصبة من قوات الاحتلال ومجلس الحكم المؤقت ،إنتقالا لحكوماته ذات التركيبة العرقية والطائفية، التي تم تلفيقها كبديل رمزي عن الدولة القديمة. جماهيرية ممزقة، من حيت تنوع وربما تناقض مرجعياتها السياسية والدينية، ومن حيث مستوى ودرجة التنافسات المحمومة بين قادتها. كما تفتقد البلاد إلى السلطة المركزية وتتوزعها ولاءات شخصية ومذهبية وسياسية ومصالح يصعب إلى حد بعيد التوفيق بينها .
في عراق الاحتلال ثم المقاومة ثم الإرهاب وتفكيك أواصر البلد ولحمته الجغرافية والدينية مقابل إعادة تشكيله على أسس كانت تبدو ولوقت قريب قد عفا عنها الزمن وفيه نجد –خندق الاحتلال-قوى دينية وسياسية ،واشتراكية وقومية ،سلفية وتقدمية ،أعداء الولايات المتحدة الاسميين وحلفائها ومن يدعو عليها .وفي العراق أيضا –خندق المقاومة- تجد قوى وتيارات كان من الصعب تصور التقاءها في الماضي القريب تتحد وربما لدوافع مختلفة ،لمواجهة المشروع الأمريكي والمشروع الصفوي وتتعهد بإجهاضه في العراق ومنطقة الشرق و الغريب إنها تتشكل من وطنيين وقوميين وإسلاميين واشتراكيين وسلفين.
في عراق الاحتلال انقسمت الطائفة على نفسها ،فمنها من أنغمس في مشروع الاحتلال ومنها من يقاومه بكل قوة .وفيه تدافعت مصالح الإفراد والجماعات فتصبح ثروة البلد وتاريخيه نهباً مشاعاً لتقف الدول المحرضة على غزوه ،من حلفاء الولايات المتحدة وهي تبكي على أطلاله وعلى أرضه تمتد يد إيران-عدوة واشنطن النظرية –لتملا كل فراغ يتركه هدم الدولة وتدمير مؤسساتها.
ليكون فشل المشروع الأمريكي في غزو العراق منذ الأيام الأولى عسكريا وسياسيا وخلقيا , ففي الجانب العسكري كانت مواجهة أم قصر تدل دلالة واضحة على قدرة المواطن العراقي على المقاومة و استعداده للتضحية , و لو إن هذه الإدارة لا تستخدم قدرتها العسكرية النارية و التكنولوجيا المتطورة و استخدام الأسلحة المحرمة دوليا , فإنها غير قادرة على المواجهة العسكرية النظامية , و عندما استطاعت المقاومة العراقية الوطنية تجريد هذه القوة من امتيازاتها ، فقد أوقعت فيها إصابات مذهلة ، و كبدتها خسائر جسيمة في فترة زمنية قصيرة و في الجانب السياسي , فقد حاولت الإدارة الأمريكية تجريب كل الوسائل الممكنة لضبط العملية السياسية في العراق من الحكم العسكري المباشر إلى مجلس الحكم إلى الحكومة الإنتقالية
المعينة إلى الإنتخابات و حكومة المحاصصة الطائفية , وفشلت كل هذه الوسائل , و أكبر دليل ما يجري الآن في العراق من عدم قدرة الأحزاب الطائفية و العرقية من تشكيل حكومة ذات مشروع وطني تحظى بإجماع وطني لحل أزمة العراق والخروج من المأزق بأقل الخسائر الممكنة.