هناك حقيقة يدركها أغلب المختصين بالشأن العراقي وهي إن انشغال الولايات المتحدة بإنتخابات الرئاسة الاميركية الحالية، هو الذي جعل قضة العراق في آخر اهتمامات البيت الأبيض ، ولم يعد العراق يحتل تلك الأهمية الستراتيجية في نظر صانع القرار الأميركي، بعد إن اطمإن الساسة الاميركيون الى ان العراق أصبح في ( الجيب الأميركي ) كما يقال ، ولم يعد يشكل مصدر خطر على أمن الولايات المتحدة والعالم الغربي.
ويدرك الأميركيون أنفسهم ان الصراع المحتدم في العراق لايمكن أن يشكل عنصر إطمئنان للولايات المتحدة، رغم ان لأميركا اليد الطولى في السيطرة على مقدرات هذا البلد، الا ان صانعي القرار الاميركي ، سوف لن يغيب عن بالهم، ان هناك حقائق تبقى خطيرة في الوضع العراقي، وهي ان العراق بلد لايمكن ان يحكم بأغلبية أو بإقلية ، وهو بلد التنوع المذهبي والطائفي والقومي، وان التفكير بتقسيم العراق الى كيانات طائفية وقومية هو من الأهمية بمكان، لدى صانع القرار الاميركي الان وفي المستقبل، إذ ان بقاء عراق قوي موحد يزعج الاميركيين والاسرائيليين كثيرا، ويسبب لهم الأرق، كون هذا البلد يعيش ( مأساة تطرف) من نوع خاص، ربما لايمكن السيطرة على مقدرات مكوناته وارادتها على مر السنين، كون بعضها لديه من الخبرة والامكانية الإقليمية لان يصيب الولايات المتحدة كدولة عظمى بالدوار، إن تغافلت عن طموحات ارادات لها شأن كبير في صنع المستقبل العراقي، وليس بمقدور موروثهم الفكري والقيمي ان يتم تركيع العراق وتخدير شعبه الى ما النهاية، فبداخل هذا الشعب تغلي دوافع الوطنية العراقية ذات التوجهات الإقليمية والامتدادات الطائفية التي تحرك الكيان العراقي، وتترك تأثيراتها المهمة عليه، وليس بمقدور الولايات المتحدة تجاهل حقيقة ان جيبولتيكية المنطقة لن تسمح بإنهيار كلي للعراق، لأن هذا البلد يبقى في نظرها، ( السد المنيع ) بوجه طموحات دول إقليمية على رأسها إيران، ومن بعدها تركيا، التي أقل مطامع أزاء العراق، وهي ليست بتلك الحدية والخطورة التي تضمرها ايران للعراق، وتريد فرض إرادتها على مقدرات العراقيين ، وتنافس الولايات المتحدة هذه الارادة ، بل وتصارعها وتقارعها هذا الاهتمام على أكثر من صعيد، وهي وان تغافلت بعض الشيء عن التدخل الإيراني المستمر في الشأن العراقي ونازعت الولايات المتحدة إرادتها عليه، وفرضت شروطها احيانا على الواقع السياسي في العراق، شاء الاميركيون أم أبوا، الا ان الولايات المتحدة تدرك ان إيران تلعب معها في العراق ( لعبة القط والفأر ) وان الولايات المتحدة لن تترك إيران تتحرك في العمق العراقي على هواها، حتى وان كان لها مريدين واتباع، الا انها سرعان ما تكشر عن أنيابها وتحرك ( العين الحمراء ) أزاء كل من يعتقد انه هو الذي يتحكم بمقدرات الملف العراقي ، أو لديه الغلبة في فرض إرادته على مقدرات ساسته أو إملاء السياسات التي تريدها طهران، شاء العراقيون ام ابو، مساندين لها ، أو معارضين لتوجهاتها، الا ان الولايات المتحدة قد وضعت ( خطوطا حمر) لايران لايمكنها تخطيها، وإيران تدرك هذه اللعبة، لكنها لاتترك مناسبة، الا وحاولت اختبار ارادة واشنطن على الساحة العراقية، وإشعارها في كل مرة ان لها ذراعا ضاربا في العمق العراقي ، لايمكن للساسة الاميركان أن يتجاهلوه، رغم علمهم به وإدراكهم لمخاطره، ولهذا فان بقاء طهران تمسك بالملف العراقي الى فترة ليست بالقصيرة هو ما يثير حفيظة الولايات المتحدة، على الدوام، كما ان هناك شكاوى من دول اقليمية ، تشير استياء زعامات هذه الدول وتسبب لها الكثير من المشاكل، وهي تدخلات ايران في الدول الاقليمية المجاورة للعراق، وهي تدخلات تأخذ جانبا خطيرا، يحاول من خلاله الإيرانيون، جعل ورقتهم الضاغطة رابحة، في ان يكون لها حضور إقليمي مؤثر، تنازع فيه الولايات المتحدة، أو تقاسمها الأطماع،ما يعني عدم اطمئنان الولايات المتحدة للطموحات الايرانية ولتحركاتها الاقليمية في المنطقة.
لقد أدركت الدول الاقليمية ان خطأها الوحيد ربما، هو انها هي التي إستدرجت العراق الى منطقة قتل، وورطته في حروب وصراعات، وسهلت على الاميركان دخول أراضيه والتحكم بمقدراته، ظنا منها ان العراق كان يشكل منازعا لزعامتها ، وقد عملت كل ما من شأنه ان يضعف هذا البلد ويمزق شعبه الى ان وصل بهم الحال الى طلب تدخل دولي في العراق، ومساندة هذا التدخل من قبل دول عربية كمصر والدول الخليجية ، حتى وجدت نفسها امام ( غول إيراني ) رهيب يزحف بإتجاه اسقاط انظمتها وإختلاق الذرائع واثارت الرعب الجماهيري الداخلي في بلدانهم ، ضد حكامهم، وشعرت دول الخليج لأول مرة بغلطتها الكبرى انها أضاعت العراق، الذي كان يشكل الدعامة لأية قوة عربية تقف بوجه الاطماع الاميركية والايرانية والاسرائيلية، وكان الذي كان، وشعرت شعوب المنطقة وحكامها على حد سواء، انهم الان امام خطر أكثر سوداوية من الخطر العراقي الذي كانوا يخشونه، واذا بإيران وهي تريد ابتلاع انظمتهم ودولهم الواحد بعد الآخر، وتثير الغضب الشعبي وتحرك دوافع المد الطائفي، وتعرض مستقبل أنظمة هذه الدول وشعوبها وكياناتها الى مخاطر لايمكن التنبؤ بما ستؤول اليه الاوضاع في المنطقة من أحوال.
وما نريد أن نقوله في خاتمة هذا الاستعراض، ان خيار ترويض العراقيين، خيار خاطيء، وان اية جهة تحاول فرض إرادتها على العراقيين ، وتمنعهم من اعادة( التوازن ) الى المعادلة العراقية فهم مخطئون واهمون، لأن في العراق رجال ذوي بأس وغيرة، ولا يمكنهم ان يتركوا بلدهم تتحكم به بنات آوى والضباع، وهو بلد الحضارات، الذي لن يتخلى عن دوره هذا ، كونه قدر محتم منحته له الأقدار، ليبقى هو صانع مستقبل العالم، ومن يتحكم بارادته، لا أن يرهن ارادته للغير، وهو وان جار الزمان به، وانحدر نحو هاوية سحيقة، فأن غدر الزمان سوف لن يستمر أو يطول، وهو قادر على استجماع قواه واعادة تنظيم نفسه ، وتشغيل عقول ابنائه وعلمائه ومبدعيه، لكي يعيدوا للبلد هيبته، وليعود العراق العربي، صانع حضارات الدنيا، بلدا للخير وللحرية ولكل فضيلة، ولن يضمر الشر لأحد، لان اهلوه عرب أقحاح، ليس في قاموسهم ، مطامع تجاه أحد، وهم يريدون ان يحفظوا هيبة بلدهم، ويعيدوا له الاعتبار لتبقى شمس الحرية تتألق من هذا البلد، لان شمس حرية الغرب، لم تجلب لنا الا الزوابع والعواصف والنكبات، ولا بد للغيوم التي تجمعت في سمائه ان تنقشع، ويعود العراق لممارسة دوره ، كأخ للعرب وشقيقهم الذي ليس بمقدورهم ان يتخلوا عنه، لانه سندهم في الملمات، وعونا لهم ، لاعونا عليهم، وعليهم ان يدركوا ان خطيئتهم، سوف يغفرها لهم العراقيون، ان تخلوا عن مخاوفهم غير المبررة، لأن العراق لايريد لدول المنطقة الا الخير والاستقرار وحفظ كرامات الشعوب، لا ان نرضخ لارادة الأشرار ومن يتربصون بنا، كي يتحكموا بارادتنا على هواهم، فالبيت العراقي الأبيض هو الوحيد القادر على اعادة الاعتبار للعالم كله، من انه بيت استقرار وطمأنينة، لكل ضاميء الى الحرية، أو من هوت به الاقدار ليكون منقذها من ظلم الطاغوت، ومن تجبر واستكبر، وسيقى العراق الراية الخفاقة التي تفاخر بها الدنيا، على انها صانعة الخير، لا كما يتصورها ضعاف النفوس، انها سلمت مقدراتها للغول الاميركي او الايراني او لأية قوة طامعة أخرى، لأن العراق لن يكون في يوما ما ، أميركيا أو إيرانيا، أو تركيا، او ماشاء من الاطماع والمسميات ، وسيبقى لنا جميعا خيمة وواحة للاستقرار والطمأنينة ، ليس في قاموسه، من ضغينة تجاه أحد، وعلى الآخرين ان يحترموا هذا الخيار، كونه خيار العراقيين الذين لن يحيدوا عنه على مر الأزمان والدهور، وهو لن يكون الا عراقي الهوى والقلب والضمير.